15
« في: أغسطس 27, 2004, 05:42:01 مساءاً »
سائد عواد .. من الدفاشة إلى القسام 2
لم يخطر ببال الحاجة "أم حسين" وهي تزجر حفيدها "سائد" ذا الأعوام الست عن العبث بالأجهزة المنزلية، فهو لا يلبث أن يفكك قطع الراديو ويعطله حتى يتوجه صوب الترانس "المحول الكهربي" فيأتي عليه عن آخره، وإن سلم منه هذا وذاك تجده يعبث بمجموعة ألعابه المفضلة "مفكات، وشاكوش، وزردية، وبعض الأدوات الميكانيكية..."، أمام هذا كله لم يخطر ببال أم حسين أن هذا الولد اللعوب ما هو إلا نواة للبطل القادم، وأن هذا العبث و"الشقاوة" ما هي إلا بداية الابتكار، وأن هذا الصغير الذي غادرها منذ سنوات هو اليوم صانع "القسَّام 2" أول صاروخ فلسطيني الصنع والابتكار والإطلاق.
في أزقة "الشابورة"!!
في حواري وأزقة مخيم "الشابورة" للاجئين في رفح على الحدود مع جمهورية مصر العربية، وتحديدًا في السابع والعشرين من آذار/ مارس عام 1977م خطا "سائد حسين عوَّاد" خطواته الأولى، وفي أحضانه عاش مراحل طفولته، وفي أحد بيوته المتواضعة المصنوعة من الأسبستوس، تحدثنا جدته أم حسين ذات السبعين عامًا، وقد ارتسمت على وجهها كل ملامح فلسطين بدءاً بالنكبة والهجرة من بلدتهم الأصلية في فلسطين 48، ومرورًا بالانتفاضة الأولى، وليس انتهاء بالانتفاضة الحالية، سرحت ببصرها بعيدًا قبل أن تبدأ حديثها عن الحفيد الغالي سائد، وقبل أن تفر دمعة من عينها قالت: "لقد كان جميلاً، وشقيًّا، وكان لا يحب الظلم أبدًا، ولا يحب أن يعتدي على أحد، ولا أحد يعتدي عليه، وكان مطيعًا لأهله ووالده منذ صغره"، وتتابع وهي تشير إلى مسجد المخيم القريب، وتقول: "كان رغم صغر سنه يذهب إلى مسجد الفاروق في المخيم مع أبيه وأعمامه، وكان يقضي جميع الإجازات المدرسية في المخيمات الصيفية في المسجد، وكان معروفًا عنه أنه طفل يحب النظام والالتزام".
وترتسم ابتسامة على شفتيها كأنها تذكر مشهدًا جميلاً وتضيف الحاجة أم حسين: "كان سائد يحب أن يكون قائدًا منذ صغره، فكان يلعب مع أصحابه، ويقودهم ويوزع الأدوار عليهم، وكان دائمًا متصدر اللعبة يجمعهم ويفرقهم، ويلتفون حوله، سائد الذي يدعوهم للعبة، وهو الذي ينهيها، وهو الذي يقسمها، ويعطي لكل واحد من أصحابه دوره وموقعه".
ولم يكن هذا هو الهم الأكبر الذي شغل الطفل سائد عوَّاد رغم صغر سنه، فهو وإن كان يلعب مع الأولاد وهو قائدهم، إلا أنه كان متميزًا بألعابه ومقتنياته، حيث يقول عمه عبد الهادي أحمد عوَّاد: "كان سائد نشيطًا ولعوبًا في طفولته الأولى، فقد كان يحب تصليح الأجهزة الكهربية القديمة كالراديو والمحول الكهربي "الترنس"، وكانت لعبته المفضلة منذ صغره المفكات والأدوات الميكانيكية (كالشاكوش، والزردية) وما شابه، وكان مما يشغل باله وهو طفل لم يتجاوز السنوات الست قبل رحيله مع أسرته إلى الضفة الغربية عام 1983م تقريبًا، هو فك وتركيب وتجميع الأجهزة والأسلاك الكهربية"، ويتابع عم الشهيد سائد وهو يتذكر طفولته "أذكر أنه تعرض للزجر من والده أكثر من مرة؛ لأنه تسبب في عطل بعض الأجهزة كالراديو، والساعة المنبه، وما شابه".
الدفاشة: أولى الابتكارات!!
وإن كان الشهيد سائد كثير العبث في كل ما يقع تحت يده من أدوات وأجهزة، إلا أن هذا العبث لم يكن فارغًا أو بلا نتائج، فرغم طفولته إلا أن عقله كان منذ البداية ينبئ عن مبتكر مبدع، حيث يحدث عمه عبد الهادي عن هذه الابتكارات في هذه السن المبكرة، فيضيف "لقد كان سائد يتفنن في تصنيع لعبة الأطفال التي تطلق النار بصوت عال، والمعروفة في قطاع غزة باسم "إستاكوزا"، وهو أول من نقلها إلى الضفة الغربية، وتعرف عندهم باسم "الدفاشة"، وهي عبارة عن آلة يدوية كان في بدايتها يضع مسمارًا في مفتاح يتم تعبئته بالثقاب ويضربها بقوة، فتحدث صوتًا عاليًا مرتفعًا مزلزلاً كالألعاب النارية، ولم يتوقف الشهيد سائد عند ذلك فقد عمد إلى تطوير هذه الآلة، حيث جاء بماسورة طويلة وثبتها على خشبة مستوية، وجعل لها ضاغطًا عبارة عن قضيب من الحديد موصول بزنبرك "زمبلك"، بحيث يتمكن بها من إطلاق رصاصة واحدة في كل ضربة.
قائد أشبال "حماس"
هذه الملامح والشقاوة التي ميَّزت سائد في مراحل حياته الأولى في مخيم "الشابورة" في رفح انتقلت معه إلى مخيم طولكرم في الضفة الغربية، حيث أنهى المرحلة الابتدائية والإعدادية في مدارس وكالة الغوث في المخيم، ثم اضطر لترك الدراسة مبكرًا -كحال الآلاف من الفلسطينيين هنا؛ ليتفرغ لمساعدة والده في تحصيل الرزق.
ومع اندلاع الانتفاضة الأولى كان سائد في مقدمة الصفوف رغم صغر سنه آنذاك وكان له دور متميز، حيث اعتقل على خلفية فعاليات الانتفاضة وهو لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، وأخضع للتحقيق ولم يكن منه إلا الصمود وعدم الاعتراف، وخرج من السجن منتصرًا رافعًا الرأس.
وبرزت ملامح شخصيته القيادية أكثر في مطلع التسعينيات، حيث قاد مجموعة من الأشبال في العام 1991م في حركة حماس، في مخيم طولكرم، وعملوا معًا في إلقاء الزجاجات الحارقة وإطلاق النار على نقاط الجيش المتمركزة فوق أسطح المنازل، مستخدمين ما يصنعه من "دفاشات"، وهو ما أدى إلى إصابته ذات مرة بعيار ناري في قدمه، لكن هذا لم يثنه عن مواصلة نضاله وجهاده ومقاومته للاحتلال، ولكن بأساليب أقوى ووسائل أنجح.
من سجون الاحتلال إلى سجن جنيد
هذه الأساليب وتلك الوسائل وجدها عوَّاد سائدة في صفوف الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس، فانخرط في صفوفها، مقاتلاً شرسًا، لكنه لم يلبث أن اعتقل في العام 1994م لمدة أربع سنوات على خلفية تزعمه لخلية من كتائب "عزّ الدِّين القسَّام" في منطقة طولكرم، وفي السجن كان أيضًا مثالاً للصابر المحتسب عند الله رغم شدة الأساليب والوسائل التي استخدمتها أجهزة المخابرات لانتزاع اعتراف منه، وأحبه كل من سجن معه، ولم ينسوا ذلك الشاب الرقيق الرفيق حتى بعد أن تركهم وخرج من السجن.
ولم يكد سائد يخرج من سجون الاحتلال في العام 1998م، حتى يعتقل مرة أخرى لدى أجهزة السلطة الفلسطينية ليحقق معه مرة أخرى بكل ما تحمله القسوة والبشاعة من معنى، حيث أعيد بعد ذلك إلى سجن جنيد في نابلس؛ ليلقى أحبة له الآن هم إخوانه في الشهادة، بل سبقوه إليها، إنهم الشيخان والقائدان الشيخ جمال منصور، والشيخ يوسف السركجي، وصديقه الشهيد البطل محمد ريحان.
وهناك أحس سائد باقتراب موعده الذي طالما انتظره، حيث ينقل عنه أحد إخوانه تلك المقولة التي كان يرددها دائمًا حينما يسأل عن اعتقاله لدى السلطة في جنيد فيقول: "من دخل سجن جنيد وخرج منه فليستعد للشهادة، فالتنسيق الأمني لا يرحم".
وصدقت مقولة سائد، حيث إن أكثر من 70% ممن كانوا معه في سجن جنيد أصبحوا إما مطاردين أو سجناء لدى اليهود، أو لقوا الله شهداء جراء تعرضهم للاغتيال بعد خروجهم من هذا السجن المشؤوم خلال هذه الانتفاضة.
مع القسَّام "2"!!
بعد خروج سائد من سجون السلطة بعد اعتقال دام 13 شهرًا، تزوج مع مطلع عام 2001م، ورزق بطفل سمَّاه (حمزة)، لكن هذا الزواج لم يشكل عائقًا أمام استمرار سائد في النضال والجهاد خلال هذه الانتفاضة، فلقد تعرض للإصابة مرة أخرى بعيار ناري وهو يدافع عن مدينة طولكرم مع بدء الانتفاضة في عام 2001م.
لكن رجم الحجارة والسير في المسيرات الاحتجاجية لم يقنع أبا حمزة، فلقد كان فكره مشغولاً باستمرار كما كان منذ صغره، يفكر في كل طريقة ووسيلة تساهم في خلع هذا المحتل من أرضه الطاهرة إلى أن هُدِي لتطوير وتصنيع وتصميم صواريخ القسام 2 المتطورة عن صواريخ قسَّام 1 التي أرقت الكيان الصهيوني وأقضت مضاجعه في غزة وفي مدن الضفة الشماء لتصل بمداها إلى قلب الكيان المنبوذ، وهو ما جعلهم يهددون بالعمل على إيجاد حزام أمني على طول حدود الأراضي الفلسطينية، بل التهديد بالرد بقسوة في حال إطلاق أي من هذه الصواريخ.
أهم المواصفات
القسَّام 1
القسَّام 2
طول الصاروخ
70 سم
180 سم
مدى الإطلاق
2 إلى 3 كم
7 إلى 9 كم
حمولة الرأس من مادةTNT المتفجرة
600 جم
5 إلى 6 كجم
قطر الصاروخ
8 سم
12 سم
وكما في صاروخ القسَّام 1 فإن القسَّام 2 لم يُجر تطويرا أو تغييرا على طريقة الإطلاق، إلا ملاءمة القاذف ليكون مناسبًا للحجم، ولا يمكن التحكم فيه أو في توجيهه بعد إطلاقه.
وكانت المصادر الأمنية الإسرائيلية قد ذكرت لصحيفة يديعوت أحرونوت أن صواريخ من طراز "القسَّام 2" تتم صناعتها في ورش في مدينة نابلس، وحسب تحليلهم للمواد التي صنعت منها الشحنة التي ألقي القبض عليها فإن صناعتها تمت بأنابيب فولاذية، ثبت في أحد طرفيها جناحا الصاروخ، أما من الطرف الآخر فقد ثبت فيها رأس مدبب فولاذي يغطي الرأس الحامل للمتفجرات. ويحمل هذا الصاروخ في داخل أنبوبه مواد متفجرة تصل إلى خمسة كيلو جرامات، وأما في جزء الأنبوب السفلي فقد ثبت خليط من المواد المتفجرة لإحداث قوة دفع تلقي بالصاروخ إلى مسافة عشرة كيلو مترات.
بينما قال قائد القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية الجنرال "جرشون يتسحاك" عقب ضبط شاحنة الصواريخ بين مدينتي نابلس وجنين، خلافًا للتقديرات المسبقة التي أشارت إلى مدى ثمانية كيلومترات، فإن مدى الصواريخ يقدر الآن بحوالي عشرة إلى اثني عشرة كيلومترًا، وذلك حسب كمية المادة المتفجرة وشكل الصاروخ.
وكان يعلم سائد يقينًا أنه ولا بد ملاحق من قبل قوات الاحتلال في كل مكان، فعليه أن يكون أسرع منهم إلى نشر هذه التقنية لدى أكبر عدد ممكن لئلا تنتهي باستشهاده أو موته، فلجأ إلى طريقة مبتدعة، حيث كان ينتقي عناصره الفعَّالة في كل مدن الضفة ويعلمهم كيفية التصنيع والإطلاق مبتدئًا بمخيم بلاطة في نابلس، ومن ثَم إلى جنين القسَّام، ومن ثَم إلى طولكرم، ومنها إلى طوباس وغيرها من المدن والقرى، حيث أودع سر القسَّام 2 عند كثير ممن علمهم، الأمر الذي أكدته بيانات كتائب القسَّام فيما بعد.
ذهب سائد وبقي القسَّام 2!!
صواريخ القسام 2
انضم سائد لصفوف مقاتلي القسَّام يصارع المحتل في مخيم بلاطة في الاقتحام الأول موقعًا فيهم الإصابات، ولم ينسحب من المخيم إلى أن انسحبوا دون النيل منه ومن إخوانه المجاهدين في كتائب القسَّام، وبعدها انتقل إلى جنين ليتمترس هناك، ويبقى بصحبة مهندس عمليات القسَّام هناك في جنين القائد "قيس عدوان أبو جبل" المطلوب لدى جيش الاحتلال.
واقترب يوم اللقاء برب العزَّة حين اقتحمت قوات الاحتلال مخيم جنين للمرة الثانية بعد تلك العملية في مدينة أم خالد "نتانيا"، فواجههم هو وإخوانه ببسالة شهد لها أبناء جنين القسَّام، فأصيب منهم من أصيب، واستشهد منهم من استشهد؛ لينتقل بعدها بصحبة خمسة من إخوانه إلى طوباس -إحدى ضواحي جنين- يتمترسون ويعدون للعدو ما يخشاه.
وفي صبيحة يوم الجمعة، الخامس من إبريل 2002م، وتحديدًا في بيت الشهيد البطل "أشرف دراغمة" في طوباس حاصرتهم القوات الصهيونية الخاصة فأبوا الاستسلام، واشتبكوا مع تلك القوة التي عززت بالدبابات والطائرات ومئات الجنود لأكثر من "5 ساعات"؛ لتغرب شمس ذلك اليوم على ستة أشلاء مزقتها صواريخ الطائرات الأمريكية الصنع، بعد أن سطَّروا أروع ملاحم البطولة، لينتقل مهندس القسَّام "سائد حسين عواد" إلى جوار ربه بصحبة الشهيد قيس عدوان (أبو جبل)، والشهيد مجدي محمد سمير، والشهيد محمد أحمد كميل، والشهيد أشرف حمدي دراغمة، والشهيد منقذ محمد صوافطة. ذهب سائد بلا رجعة، لكنه ترك ما يذكرنا به، وما يذكر الصهاينة ببأسه، ذهب سائد لكنه ترك القسَّام "2".