العولمة التي تسعى الدول الاقتصادية الغربية الكبرى الى صياغة الاقتصاد العالمي على أساسها ليست جديدة كليا على الفكر الاقتصادي.. فمضى عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم عمل الاقتصادي الامريكي اللاتيني، راؤول بيريش على شرح نظرية المركز الرأسمالي والمحيط غير الرأسمالي. وقد بين بيريش ان المركز الرأسمالي هو الذي يحدد القرارات الانتاجية ويجدد بناء على ذلك دور المحيط الاستهلاكي.. وان قرارات تغيير الدور الذي يلعبه احدالمجتمعات الاستهلاكية لا يمكن تغييره بسهولة الا اذا كان هذا التغيير منسجما مع متطلبات تطور الاقتصاد الرأسمالي في المركز.
في اطار نظريته تلك درس بيريش تطور أدوار كل من البرازيل وكوريا الجنوبية وكيف تدفقت الرساميل على اقتصاداتها في شكل استثمارات مباشرة وغير مباشرة مما نقل تلك الاقتصادات بين وضع المستهلك الى وضع الاقتصاد المنتج المكمل لاحتياجات نحو المركز الرأسمالي.
وما تحدث عنه، راؤول بيريش خلال العقدين المذكورين بدأ يتضح ويتبلور من خلال العمولة الاقتصادية. فالنظام الاقتصادي العالمي بات اليوم يدار من قبل مجموعة الثمانية ويخضع لتوجيهاتها الاقتصادية وتتابع التنفيذ منظمة التجارة العالمية وبقية المنظمات الدولية، التي تتحكم في حركة انتقال رؤوس الأموال والاستثمار العالمي وتنظيم حركة انتقال السلع، في الوقت الذي تسعى لتنظيم حركة انتقال العمل.
ما يهم في هذا التحليل انما هو ادراك ان هناك اتجاها عالميا قويا لخلق نمط معين من تقسيم العمل الاقتصادي العالمي، وابقاء بعض المناطق العالمية كسوق استهلاكية وبعض المناطق الأخرى كاحتياطي للتوسع الاقتصادي العالمي القادم كلما تطور نمط الانتاج الرأسمالي. ولا يعني هذا التحليل ان هناك قدرا مرسوما لمناطق بعينها لا يمكنها الفكاك منه.
فالهند على سبيل المثال وكذلك الصين باتتا من الدول الأكثر تقدما ضمن المحيط الذي تحدث عنه راؤؤل بيريش في نظريته. لكن هاتين الدولتين لم تخضعا لارادة المركز الرأسمالي يلعب دور السوق الاستهلاكية فعجلتا على تغيير هيكليهما الانتاجيين وغيرتا من اتجاهات الانتاج لديهما لتصبحا من الدول ذات الوزن الاقتصادي وان لم تكونا ضمن المركز الرأسمالي بعد. ان محاولة تقسيم العالم وفق رؤية اقتصادية محددة والعمل على ابقاء الوظائف المفترضة لكل جزء من العالم على ما هي عليه من دون تغيير، هو أمر سيظل قائما مادامت القوة الاقتصادية نابعة من القدرات المتاحة.
لكن القدرات ليست قدرا أبديا بل انها تتغير بالارادة وتغيير السلوك البشري، ومثال كوريا الجنوبية ماثل للعيان، كذلك فان نماذج مثل النمور الآسيوية لاشك انها أمثلة على القدرة على تغيير الموقع على خريطة الاقتصاد العالمي من دور المستهلك الى دور المنتج. الاقتصادات الآسيوية المشار اليها، احتاجت فعليا الى توافق مع المركز من أجل نيل التمويل الملازم لاجراء التحويل الهيكلي والحصول على التكنولوجيا المطلوبة. هذان العنصرا لم يعودا على قدر كبير من الصعوبة. فبعض الاقتصادات مثل الاقتصادات العربية تتمتع بفوائض مالية ومدخرات بمئات البلايين وليس من الصعب تحريكها ضمن حركة الاقتصاد العالمي ودورته المالية، وبالنسبة للحصول على التكنولوجيا والخبرات فان تحرير التجارة العالمية قد سهلت كثيرا من امكانية الحصول عليها.
ما بات معوقا لحركة اندماج لاقتصادات المحيط هو أسلوب الادارة الاقتصادية وما سعي دول المركز الرأسمالي لتقديم مبادرات لتحسين شئون الادارة الاقتصادية وتغيير التوازن بين السياسة والاقتصاد، بل ودفع بعض الدول لخلق أسواق مشتركة وتوحيد معايير الاداء. انما هو بهدف تحسين فرص توافق هذه المناطق مع احتياجات اقتصادات المركز. ان تحسين مداخيل دول المحيط هو في صالح دول المركز حيث ان ازدياد الدخل يعني ازدياد الاستهلاك، وهذا بدوره يعني ازدياد وتيرة الانتاج في دول المركز.
لذا فان مصالح المركز تتحقق كلما استقرت أوضاع المحيط وتطورت حتى لو تغير دور البعض فيه.
:'>