جيـولوجيـة المدينـة المنـورةتقع مدينة المدينة المنورة في وسط الإقليم الغربي من المملكة العربية السعودية عند خط عرض 24.28° شمال وخط طول 39.36° شرق، ويتراوح ارتفاع حوضها المركزي عن سطح البحر ما بين 600 إلى 640متر تقريبا. وبالرغم من مناخها القاري والصحراوي الجاف، إلا أنها واحة زراعية خصبة تشتهر بزراعة النخيل وتحتوي على الكثير من المساحات الخضراء المزروعة نظرا لخصوبة تربتها من جهة ولوفرة مواردها المائية من جهة أخرى. كما وتتميز بكثرة الأودية الموسمية التي تسيل إليها في فصل الشتاء قادمة من مختلف الاتجاهات مخلفة ورائها العديد من أنواع الترب مثل التربة الصلصالية الثقيلة والخفيفة والتربة الغرينية وغيرها، الأمر الذي يحسن باستمرار من طبيعة تربتها ويجدد خصوبتها ويزيد قابليتها للزراعة.
ولعل أهم ما يميز المدينة المنورة من الناحية الجيولوجية هو وجود الحرات البركانية الثلاث التي تحيط بالمدينة من كل الاتجاهات عدا الجهة الشمالية الغربية، وهي حرة واقم (أو الحرة الشرقية) وحرة الوبرة (أو الحرة الغربية) والحرة الجنوبية التي تربط بينهما وتمتد بعيدا نحو الجنوب. والحرات هي صخور بازلتية قاتمة اللون تكونت نتيجة اندفاع الحمم البركانية من باطن الأرض إلى السطح.
الإطار الجيولوجي العام: (النشأة والتكوين والتطور)
تقع المدينة المنورة من وجهة نظر جيولوجية في الجزء الشمالي من الدرع العربي بين خطي عرض 24° و 25° شمال وخطي طول 39° و 40.30° شرق، وبالتالي فإن بنيتها الجيولوجية تعتبر جزء من التركيب الجيولوجي العام للدرع العربي بما في ذلك النشأة والتطور والتركيب الصخري (الشكل1).
كان الدرع العربي متصلا بالدرع النوبي الأفريقي قبل تكون أخدود البحر الأحمر في بداية زمن الميوسين (قبل 26 مليون سنة)، حيث كانت الجزيرة العربية ملتحمة بصفيحة إفريقيا وببلاد النوبة في مصر وأرض السودان، وكان بحر التيتس يفصل بين الجزيرة العربية المتصلة بإفريقيا آنذاك وبين قارة أوراسيا، وقد كان يطلق على الامتداد الشرقي لهذه الصفيحة اسم الدرع العربي النوبي. وخلال التاريخ المشترك بين الجزيرة العربية والصفيحة الأفريقية، فقد تعرضتا لأحداث جيولوجية هامة وحركات تكتونية ضخمة شملت حركات رفع وخفض إقليمي وتشققات وصدوع فالقية ضخمة ونشاط بركاني مكثف وعمليات حت وتعرية بلغت أوجها في عصر الكريتاسي (أي قبل حوالي 65 مليون سنة). وبعد ذلك أي في نهاية عصر الكريتاسي، تعرضت الطبقات الرسوبية السميكة الموجودة في قاع بحر التيتس لعمليات ثني والتواء نتيجة لتأثرها بالحركات البانية للجبال، لاسيما الحركة الجيولوجية الألبية التي وصلت إلى ذروتها في أواخر العصر الثلاثي، وكان لها دور كبير في تحديد المعالم النهائية للصفيحة العربية في وضعها الحالي بانفصالها عن الصفيحة الإفريقية على امتداد أخدود البحر الأحمر منذ حوالي 26 مليون سنة مضت. وبذلك انفصل الدرع العربي نهائياً عن الدرع النوبي وانفصلت الجزيرة العربية عن أفريقيا، ومازالت عملية الفصل هذه مستمرة إلى الوقت الحاضر ولكن بمعدل بضع سنتيمترات في كل سنة. وقد اقترنت عملية فصل الجزيرة العربية عن أفريقيا بحركة تكتونية دورانية لصفيحة الجزيرة العربية بعكس اتجاه عقارب الساعة سببت ضغوطا جانبية في مناطق التصادم وأدت إلى كسور وشقوق أرضية في منطقة التباعد، وترافق ذلك مع نشاط بركاني كثيف خلال الزمنين الثلاثي والرباعي حيث تدفقت الحمم البازلتية المعروفة بالحرات في كثير من المناطق على طول الساحل الشرقي للبحر الأحمر من اليمن جنوبا وحتى بلاد الشام شمالا. وقد تدفق الجزء الأكبر من حمم الحرات البازلتية خلال الأربعة عشر مليون سنة الماضية، وكان آخر تدفق بركاني مسجل في سنة 654هـ أو 1256م (أطلس المملكة العربية السعودية، 1419 هـ- 1999م).
يتكون الدرع العربي بصورة رئيسة من صخور نارية ومتحولة كانت أساسا مجموعات رسوبية وبركانية متطبقة يعود عمرها إلى ما قبل عصر الكامبري (أي أقدم من 570 مليون سنة)، وبذلك فإنها تعتبر أقدم الصخور في شبه الجزيرة العربية. وتنتشر صخور الدرع العربي في الجزء الغربي من الجزيرة العربية وتمتد على طول الساحل الشرقي للبحر الأحمر. يضيق اتساع الدرع العربي في الشمال والجنوب بينما يتسع في الوسط ليبلغ أقصى عرض له في المنطقة الواقعة ما بين جدة والرياض حيث يصل عرضه هناك لحوالي 750 كم تقريبا (الشكل1)، وقد سميت صخور الدرع العربي بصخور القاعدة القديمة لأنها تشكل الأساس التي ترسبت عليه صخور الغطاء الرسوبي الواقع إلى الشرق من الدرع العربي. ويمكن تصنيف صخور الدرع العربي بشكل عام إلى نوعين من المجموعات الصخرية هما:
1- مجموعة الصخور المتطبقة : وتتكون من صخور نارية وبركانية وطفوحات بركانية Volcanic Flows يتراوح تركيبها من القاعدي (المافي) إلى الحامضي (السيليسي)، وصخور رسوبية متنوعة مكونة من رصيص كونجلوميراتي وجريواكي وحجر رملي وصخور جيرية. تعرضت هذه الصخور المتطبقة لعمليات تحول إقليمية بسبب الأحداث الجيولوجية الهامة التي أصابتها والتي تضمنت العديد من الحركات التكتونية البانية للجبال وحركات رفع وخفض وتصدعات ضخمة وعمليات طي ونشاط بركاني وتداخلات لمحقونات مهلية جوفية تحت درجات عالية جدا من الضغط والحرارة أدت إلى تشوه الصخور فتطور تركيبها الكيميائي وتغيرت صفاتها الأصلية وتحول معظمها إلى سحنات من الشست الأخضر.
2- مجموعة صخور المحقونات الجوفية: وهي عبارة عن صخور نارية نتجت عن اندفاع الحمم المصهورة من أعلى الوشاح وتداخلها ضمن صخور القشرة القارية ثم تجمدها على شكل أجسام قاطعة للصخور المتطبقة السابقة. وتتباين هذه المحقونات الجوفية من حيث أشكالها وأحجامها وتراكيبها، حيث يتراوح تركيبها من فوق القاعدية كالبيريدوتيت إلى القاعدية (المافية) كالجابرو أو المتوسطة كالديوريت أو الحامضية كالجرانيت والجرانوديوريت، وتختلف في أشكالها وأحجامها من عروق إلى قواطع إلى أجسام باثوليتية كبيرة (Batholith).
تأثرت صخور الدرع العربي منذ نشأتها بعدد من الدورات التكتونية، مثل دورة الحجاز ودورة عسير ودورة نجد، والتي تخللها العديد من الحركات البانية للجبال، وتلازم معها نشاط بركاني كثيف، إضافة إلى تعرضها لمحقونات جوفية نارية ذات تراكيب متباينة، فانصهرت الصخور وامتزجت مع بعضها البعض، مما أدى إلى تشوهها وتطور تركيبها الكيميائي، ونتج عن ذلك أنواع أخرى من الصخور بسبب التحولات الضخمة الناتجة عن شدة الضغط والحرارة( )
الوضع الجيـولوجي للمدينـة المنـورة:
تم من خلال هذا التقرير إنجاز خارطة جيولوجية مبسطة للمدينة المنورة موضحاً عليها أنواع الصخور الرئيسة وأعمارها في المنطقة مع وصف شامل لتراكيبها وخصائصها ومواقع انتشارها ضمن حدود النطاق العمراني للمدينة (الشكل2). وتضمن البحث رسم مقطع جيولوجي يمتد عبر أهم المجموعات الصخرية شمال المدينة المنورة من منطقة المطار في الشمال الشرقي وحتى جامعة طيـبة وجبل جمـة في الجنوب الغربي (الشكل3).
يتضح من الخارطة الجيولوجية والمقطع التابع لها بأن تراكيب الصخور المحيطة بالمدينة المنورة قد نشأت وتكونت كجزء من التطور العام للدرع العربي خلال زمن جيولوجي طويل جدا يمتد من أبد الحياة الخافية (Proterozoic) وحتى دهر الحياة الحديثة (Cenozoic)، وقد نتج عن هذا التطور العديد من المجموعات الصخرية المختلفة من حيث تراكيبها وخصائصها والتي يمكن تصنيفها وفقا لما يلي:
1- صخور القاعدة القديمة (ما قبل الكامبري): وتقسم إلى مجموعتين هما:
أ- المجموعة الأولى: (800 – 690 مليون سنة)، ويشـار لصخورها بالرمزين (au) و (ur) على الخارطة الجيولوجية الخاصة بهذا البحث، (الشكل 2). وهي واسعة الانتشار في شمال المدينة وغربها، وتتكون من صخور بركانية قاعدية (مافية) مثل الأنديزيت، وصخور حامضية (سيليسية) مثل الريوليت، وصخور رسوبية فتاتية متنوعة. تقسم صخور هذه المجموعة إلى قسمين: قسم سفلي ورمزه (au) وهو الأقدم، وتنتشر صخوره بشكل واسع في أقصى شمال وغرب المدينة المنورة وخاصة في المناطق الجبلية الممتدة إلى الشمال من جبل أحـد، وعلى جانبي طريق تبوك القديم، وإلى الشمال والغرب من حي الجـرف. ويتكون هذا الجزء من صخور بركانية قاعدية إلى حامضية مثل الأنديزيت والريوليت والداسيت والتراكيت تتغير نحو الأعلى إلى صخور من الطف البركاني Tuff والبريشيا breccia . يضاف إليها صخور فتاتية epiclastic rocks مكونة من إعادة ترسيب وتلاحم مواد بركانية قديمة متكسرة ذات تصنيف سيئ وغير متجانسة.
أما القسم العلوي (ur) فيتوضع بعدم توافق بسيط فوق الجزء السفلي، ويتكون من صخور الريوليت Rhyolite والداسيت والبريشيا الريوليتية والطف، وتنتشر صخوره بشكل أساسي في جبل أحـد الواقع على بعد 5.5كم شمال المسجد النبوي والذي يبلغ أقصى ارتفاع له عن سطح البحر حوالي 1077متر، وفي جبل الوعيـرة الممتد إلى الغرب من مطار المدينة على الجانب الغربي لمجرى وادي قنـاة، وفي جبل غرابة البالغ ارتفاعه حوالي 900متر عن سطح البحر والذي يمتد بشكل متطاول إلى الغرب من حي عروة وبمحاذاة الجانب الغربي لطريق ينبع وجدة القديم (الشكل2).
تخللت مجموعة الصخور النارية السابقة محقونات مهلية جوفية متنوعة اندست ضمن الصخور ثم تجمدت، فنتج عنها أنواع مختلفة من الصخور مثل الجرانيت والجرانوديوريت والديوريت ومعقدات من الجابرو، كما وتأثرت المجموعة بعمليات الطي والتشوه العنيف خلال زمن جيولوجي طويل جدا ففقدت الصخور معظم صفاتها الأصلية وتحول الكثير منها إلى سحنة الشست الأخضر.
أظهر الفحص الجيولوجي الميداني لعينات صخرية مأخوذه من جبل أحـد بأنها مكونة أساسا من صخر الريوليت وهو عبارة عن صخر ناري حمضي، نسيجه دقيق التبلور، لونه أحمر فاتح، ويحتوي على معادن من الكوارتز والفلسبار والبلاجيوكلاز وقليل من الميكا. ويتحول الريوليت في جبل أحـد أحيانا إلى صخور لونها أبيض مائل للأخضر وتبدو أكثر تشوها وتشققا وأقل تماسكا من غيرها، وربما يعود سبب ذلك إلى وجود هذه النطاقات الصخرية على تماس مباشر مع الأجسام النارية المندسة من الأعماق، وتعرضها للمحاليل الحارة جدا فحصل لها نوع من التحول الحراري الشديد. أما صخور الداسيت ذات اللون البني الفاتح فمن الصعب تمييزها عن صخور الريوليت لأنهما متشابهان أصلا من حيث التركيب والنسيج والمصدر عدا أن الداسيت ربما يحتوي نسبة أعلى من بعض المعادن السوداء كالهورنبلاند والبيوتيت.
ب- المجموعة الثانية: (690 – 610 مليون سنة)، وتتوضع لا توافقيا فوق المجموعة السابقة وتقسم صخورها إلى قسمين: قسم سفلي ويشار له بالرمز (fq) وتشغل صخوره الزاوية الجنوبية الغربية من الخارطة الجيولوجية (الشكل2)، ويتكون من صخور بركانية قاعدية مافية مثل الأنديزيت والبازلت والبريشيا البركانية والطف البركاني. أما القسم العلوي (fd) فيتكون من رصيص كونجلوميراتي ذو حبات شبه مستديرة، ومن طبقات رقيقة من الجريواكي ذو حبات متوسطة وناعمة يربط بينها ملاط كلسي، إضافة إلى الحجر الرملي وحجر الغرين. تظهر صخور الجزء (fd) على بعد حوالي 3كم إلى الشرق من مطار المدينة على جانبي الطريق المؤدية إلى القصيم حيث تمتد تحت الصبات البازلتية (b2) هناك. كما وتحيط هذه الصخور بجبل عيـر من كل الاتجاهات عدا الجهة الشمالية الغربية، وتنتشر شمال وغرب حرة رهط ويحتمل أنها تمتد تحت الصخور البركانية البازلتية التابعة لحرة رهط في الجنوب.
[/QUOTE]