Advanced Search

المحرر موضوع: دور البيئة في فكر ابي العلاء المعري  (زيارة 1087 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

مايو 01, 2007, 05:09:59 صباحاً
زيارة 1087 مرات

saleem71

  • عضو مبتدى

  • *

  • 3
    مشاركة

    • مشاهدة الملف الشخصي
دور البيئة في فكر ابي العلاء المعري
« في: مايو 01, 2007, 05:09:59 صباحاً »
                 دور البيئة في فكر أبي العلاء


نعرف أنه أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي ومولود في المعرة قبل أكثر من ألف عام ودرس فيها النحو واللغة على والده وأشياخ المعرة من آل كوثر ورحل طلباً للعلم إلى حلب واللاذقية وقيل لأنطاكية وطرابلس الشام للاطلاع على مكتبتها الشهيرة ,هناك من تبرع فأوصله إلى صنعاء وأرجح الروايات تكتفي بحلب واللاذقية والتقاءه رهبان دير الفاروس في الأخيرة قبل زمن طويل من رحلته إلى بغداد التي لم يمكث فيها إلا سنة ونصف تقريباً ولم يرتح لأجوائها وتقلباتها السياسية والطائفية , ولم يرتح لما واجهه من مناكدات أدباء أسمطة الخليفة هناك .
نعرف أيضاً أنه نوه في رسالته لأهل المعرة بل إزماعه العودة إليها بأنه انتوى العزلة , ليست مهمتنا أن ننسبه الآن لقضاعة أو تنوخ لأن مثله لن يكون آبهاً بهذه المعارف السلالية الصحراوية ولا مهمتنا أن نؤكد سخاء أخواله وأياديهم الظاهرة عليه , لكننا سنهتم بتتبع الملامح التي شكلت تفرد نفسيته عبر الزمان والمكان أي بيئته التي شكلت مزاجه دون أن يكون له أية سلطة عليها .
يقصد بالبيئة الوجه الاجتماعي لها والوجه الطبيعي فما هي هذه البيئة الاجتماعية .

أولاً : بيئة أبي العلاء الاجتماعية :
هي جملة ما أحاط به واثر في تكوينه من ثقافات وعقائد وآداب وسياسة وفنون .
طبعاً لا ينكر احد ما اتسم به عصر أبي العلاء من خصوبة مشوشة في كل هذه المجالات من مدارس فقهية وأدبية وفلسفات وكشوف وعلماء وكتب وكل ما نزال نتداوله بشهية حتى اليوم ونعتبره مراجع ذاكرتنا المحمولة على أسماء جليلة ومنعقدة وراء ما نجتره ونباهي به كالفاربي وابن سينا وأخوان الصفا وابن لوقا وابن خالويه وابن جني وأبو علاء الفارسي والسيرافي وابن العميد وابن عباد والصابئ وغيرهم فضلاً عن شعراء عظام آخرهم المتنبي . وثق أبو العلاء هذه المعارف بذاكرته ولم يحكم عليها , تراه محايداً أو مشككاً , يحتاط إذا اتفق معها ويحتاط أكثر إذا اختلف , يدور ويلف وقت تلامس أحكامه مواضيع كبرى كقدم العالم والغائية أو موضوع الحرية والتكاليف , يدفع بكل مهارته اللغوية ليس لجهة إثبات حقائق تعتمل فيه بل لجهة إخفاءها والتستر عليها وقت تتفلت منه اتهامات لكل ما يدور حوله من آراء منشدة لأضاليل غبية تتحرك في الاتجاه المضاد لمصالح الأمة , بل اعتبرها انتكاسة لمسيرة الذهن البشري وغير خليقة بانتسابها للإنسانية ولا تتفق مع حكمة الله وحكمته .
يعرف أبو العلاء أن هناك مناطق ممنوع الدوس فيها وإذا اقترب من أسيجتها المحظورة يوارب أو يلامس الزوائد السطحية ثم يتراجع على خجل . هو يقر أن كل معرفة لا تحمل في داخلها بذور تجاوزها ستتوخم ويعرف أن هذه المعارف التي يتناقلها الناس مسيجة برعب لا يلاطم تصبه القلة القادرة على الكثرة المسحوقة وهذه الكثرة تصب رعبها على كل حالة ألق متميزة بضراوة مريعة .
أول ملامح هذا الاستلاب يتشكل في الأسرة ثم ينتهي مروراً بالعرف على السنة سدنة الحكام الميئسين من أية محاولة تبدل مصائر الخلق لإبقائهم خاضعين لاستكانة أزلية مثل الطبيعة الأزلية . استسلام كامل ملمع بالخرافة أو السعي عن حلول ليست أرضية مع أن بلاد الشام آنذاك تحمل بقية ثقافات هيلينية وآرامية ومجوسية مضافاً لها فلسفات يونانية امتزجت بأطوار الخلق فتولد من التقائها بثقافة الدين وشعر العرب فهماً محكوماً بدواع ليست دينية أغلب الأحيان , فمن حكمة الهنود وديانات الفرس وأهواء القبائل وبقايا الفلسفات العرفانية تشكلت تحت سقف الدين غلالة فكرية ورجال يقصون الأفكار بطول قامة الحكام المتنافسين في النهب والتكفير و القصل , وينافسون أيضاً في استضافة مجالس الأدب والفقه والفكر مؤملين أن يمنحهم هذا صيتاً مشروعاً يكون في الرعية أدوم وأنفذ .
المعرة آنذاك تابعة لدولة حلب التي اختزلت اغلب أحكام أبي العلاء السياسية المتقلبة بين الروم والشيعة والبدو وأحفاد سيف الدولة , في حياته تبدل أكثر من عشرين والياً على حلب فانعدم حس الناس بالأمان لعدم وجود حكومة قوية وموحدة وكان هذا لصالح أبي العلاء لأن هكذا دوليات لا تريد أن يذكرها احد بعجزها عن رد غارات الروم والعربان أو عجزها عن حماية الثغور المتحركة كل يوم , في هذه الغفلة السياسية ينتعش الفكر والأدب لكن بملامح سوداوية .ففي عصور لاحقة خسر الناس هذه  الدولة الموحدة وخسروا الحرية أيضاً .
لم تتوقف الحروب والغزوات , دول تشاد ودول تباد , يتأسى أبو العلاء في الحالتين ويتأسى لهرب حفيد سيف الدولة للروم مع ما كان لجده من كبر في مقارعتهم ليستنصر بهم ويطمعهم بأرضه مفوتاً الفرصة على الفاطميين الطامحين استعادة حلب لملكهم وهو الشيعي مثلهم ,لكن مقاس تشيعه العاجز يتفق أكثر مع مقاس خليفة بغداد العاجز هو الآخر مع البويهيين . فعبث الروم وعبث الفاطميون وعبث ابن مرداس ولم يقصر العربان وشاعت فلسفات الخيبة المرة وفلسفات الخوف وفرق التصوف الهاربة للسماء مما هي عليه الأرض , يقدم التصوف كل مرة تتردى فيها الأمم عزاء ويقوم بدور المرهم الذي يخفف الوجع ويعيد توازن النفوس المختلة ويخلصها من عبء  المواجهة ممسداً على الآلام عير عابئ بمن ينهب أو يقتل أو بما يتداوله العرب أو المجوس . هل بإمكان رجل كأبي العلاء أن يتعايش مع هذه المناخات أو يجاري هذه الحكم المستسلمة للوقائع ؟ سيتأبى وسيعتزل البشر ما دام لا يستطيع لهم شيئاً ...هذه العزلة التي ارتضاها سمكت تحفظاته على العصر وسكانه ,وهو يدرك كم ينفر الناس من كل ما يتضاد مع مألوفهم  وينفرون بعضهم من كل جديد باعتباره إلى النار ولا يجدون حرجاً في كيل التهم لصاحب أية حركة ذهنية
أو بدعة كإثم يستحق العقاب, أي أنه يتم استبدال السعي عن حلول أرضية واقعية بحلول سحرية عجائبية متأثرة بثقافة مهمتها تعطيل القدرة العاقلة في الأمة وارتمائها (خاصة المرأة التي تمثل أول نماذج  القهر البشري) في أحضان ثقافة الجن والشياطين والخرافات والسحر وثقافة السكوت والطاعة والتماهي بإعجازات المتسلط سواء هو رجل دين أو سلطة حتى النخاع .
اللجوء للسحر يقوم على مبدأ التأثير في الآخر إما لإلحاق الضرر به أو لرد أذاه وأحياناً لاستجلاب الحظ الضائع .  السحر يؤشر لضعف الأمة وقلة حيلتها إزاء مجريات عجزت عن مجابهتها , ويتم ذلك أحياناً باسم الدين الذي يتوسله الجميع والمصنع على مقاس الوقائع بإشاعة أحاديث سطحية تحض على الرضا والطاعة والسكوت وإسدال الستار عن الدين الذي يؤكد على الحق والعدالة والكرامة , وقد تصل الأمور لاتهام أصحاب هذه العدالة والتي كان الدين لأجلها بالزندقة لجعل مصائر الناس القانعة وحياتهم الصابرة ليس ممكناً فقط بل شرفاً يتباهون به , في حالات الفشل يحتمي الناس فرادى أو الأمة بكاملها تحتمي بالماضي الملمع في الخواطر , القصد أن تهرب الأمة من الحاضر البائس , والنكوص للوراء يكون قوياً بمقدار شدة وجع الحاضر أو بمقدار إغراءات الماضي نفسه الذي يسهل علينا عملية الفرار من حالة ضعف راهن لحالة عز ماضية والتماهي بها .أول درجات التماهي أو ذوبان الشخصية المتماهية بشخص أو بقيمة تبدأ عندما نحس بالذنب وندين انفسنا فنقرر الهرب للأمام متنكرين لصفاتنا الآنية التي نخجل منها في محاولة لاستعادة توزن وهمي في نفسياتنا المحطمة , وبذلك يتحول الشخص الضعيف والعاجز أو الضحية إلى جلاد يعتدي على غيره وقت يستزلم لهذا الماضي أو لأشخاصه المفصلين على حجم رغائبه , هذا الاستزلام يخلصنا من أحاسيس داخلية عاجزة لا تحتمل ونتوهم اكتشاف حالات أسطورية خارقة نتماهى بها , فالخائف والجاهل محتاج للحماية وهو بذلك محتاج لقامع أو إيديولوجية قامعة أو لماض أو لولي يشد أزره وينتظر كراماته التي ستتأخر كالعادة فيحرضها بالنذور والقرابين .
المرأة أول الضحايا لشدة جهلها وكثرة قيودها وهي أول من يشيع هذه الثقافة في وسطها عبر الأدعية والتوسل والبكاء والخوف من الجن والعفاريت والتعويل على البركة واستنفار أساليب تطرد جيوش الشياطين المتربصة بنا والتي تعيث بأقدارنا وتغوينا ورجال يردون غي هذه الشرور ويفهمون في أساليب مطاردتها أكثر بكثير من فهمهم للعدالة والكرامة وبذلك يتم استبدال القهر الأرضي والقهر السياسي وقهر المرض والجهل بقهر بديل يقوم به أشرار الجن والعفاريت معتمدين آليات خرافية ونذور ومنادل ورقى وحفلات زار تفرج عن مكبوتات مضغوطة وتنومها باعتبارنا في الأساس فاضلون وأطهار وأنقياء لولا جيوش الشر التي تتقصدنا بالأذى والغواية , كل مآسينا ومصائبنا تصنع في ديار الجن والشياطين وتصدر للبشر , نرتاح ونحس بتوازن كاذب  ولكن نكون قد عوقنا وإلى الأبد ذهنيتنا من محاولة البحث عن حل لمشاكلنا العويصة .

هل اتهم أبو العلاء لأنه كشف الأستار ؟أم لأنه حسسنا بالقزامة مع أنه ما كان مبغضاً لأحد ولا حقد ولا قصر في عون استطاعه مع قلة حيلته بل زهد كل مل ترامى عليه الناس مشفقاً عليهم....ولم يسلم . ماذا بإمكانه حيال بنى نفسية تخضع دون أن تعرف لأبشع صنوف الاستغلال وباسم الدين الذي يصب في مصالح إبقاء حالة الهوان والضعف والتمزق وشيوع المهانة والاقتتال ....فالبويهية في بغداد والسامانية وراء النهر والعلوية في طبرستان والأفغانية في خرسان مع ما حفظه سجل رجل كمحمود الغزنوي من أمجاد , هناك الإخشيدية وبعدها الفاطمية في مصر والشام وفي البعيد انتهت دولة الأمويين في الأندلس.طبعاًًًًً ما كان في ظن أبي العلاء أن مصر والشام صارت ممالك  وما كان في ظنه وهو يشنع بحفيد سيف الدولة المستنجد بالروم أن هناك من استنجد بالروم والفرس والترك و الديلم .. عمت قيم القتل والنهب من العربان حيث يلمسون الضعف يغيروا  لا يمنعهم دين ولا سلطان , عمت المجاعات وضياع الذمم وانغلاق العقول وحصرها بتخوم النصوص والتآلف مع المفاسد وتكفير كل حالة استنكار  والتشدد المفتعل على أحكام مجتزأة بحرفية مجمده واجترارات ممقوتة نشيطة بمداهنة سدنه لديهم  مهارة في تهميش أي نص واختزاله ليصب في جيب السلطان ويرسخ ثقافة الإذعان ويباركها بإغواء البسطاء في الارتماء بحضن النذالات والتباهي بها كأنها أوسمة وبذلك تعالى الفقير على من هو أفقر منه والجائع على المعدم ودارت حرب بين سماسرة السلاطين الذين يحسون ببؤس أعماقهم المقهورة وكل مرة أرادوا طمس هذا الإحساس المزري احتاجوا لمسح عقولهم وبتشجيع من تواطؤ رجال الدين المهرة آنذاك مع رجال البلاط لتبخيس قيم الأمة وتحويل البشر لهياكل مزيفة تخطط لحل مشاكلها باتهام نفسها وتحريمها فكرة المساواة بالآخر واعتبارها شنيعة مأثومة وانتظار تفضل السيد والمالك أو الحاكم علينا بالخطوة مؤملين من هذه العطاءات غير المفهومة بالنسبة لنا أن تنقلنا من ديار الجوع والإذعان لديار السادة والسلطان .
لنتصور أبا العلاء وقد هم صباح هذا اليوم بزيارة صديقه الحلواني أبا المعالي عبر أزقة المعرة المبلطة, لنتتبعه وهو يخرج من بيته متوكئاً على كتف أبي هرة خادمه يسلم ويرد السلام ويفتي ويتابع ويقضي لأصحاب الحاجات , لنقطع أسلاك الكهرباء  ونزيح السيارات من مساره ولنتابع تأهيل صاحبه الحلواني بين صواني الحلو العامرة بالروائح والأطايب في دكانته الكائنة في السوق أو في دكانة أبي سطيف الحلواني اليوم ,لنتتبع عودته لبيته مساءً بعد أن عدا الزمن بضع ساعات أو ألف سنة هل سينتبه وهو النبيه الفذ للفارق الزمني ؟ هل هو على يقين انه في غير عصره ؟ إذا هي نفس العليقة فستكون نفس الاستجابة, فما شكا منه أبو العلاء في عصره هو تقلص المرجعية الدينية المنبنية على روح الشرع لمرجعية حرفية ساذجة ,ما شكا منه حرمان الإنسان من حس المواطنة والشورى, فما يزال هناك من يستولي وهناك من يستولى عليه, ما شكا منه إباحة الرزايا والمفاسد كلها باستثناء البحث عن حل لها , ما شكا منه أن هناك من استطاع تفصيل النص على طول قامة السلطان , يقصر ويزيد حسب الفصول السياسية سواء اتفق أولم يتفق مع روح النص ثم يدعو له على خشب المنبر لينصره الله على أعداء الدين باعتباره الحامي له , في عصره يتساءل الطلبة العائدون من نيسابور ومصر وديار الكفر إذا ما كانت الحرية حلالاً أم حراماً ..في عصره هذا الإبداعات شلت الأمة وأقعدتها وصارت مثل رجل وجهه طافح بالعافية والشوارب الكثة ويتوعد جيرانه بالويل والثبور وعظائم الأمور فيما هو مقعد ومشلول .
مطلوب في عصر أبي العلاء تغييب الدين والإبقاء على القشور لتسهيل انتهاك إنسانية المسلم ومطلوب شيوع فرق دينية وصوفية وأفكار مشوشة وعمائم من كل الألوان وتصنيع أئمة بل وأنبياء إذا لزم الأمر , مطلوب كل هذه الأساليب الغيبية من سحر وخرافات وموالد طربية ومطلوب إشاعة أنماط متوخمة وغريبة على العقل والدين ...اقرأوا معي كنموذج ما لدى السيوطي من باب المثال :346  نقص البحر ثمانين ذراعاً وظهرت فيه جبال وجزر وتقطع جبل بالري وعلقت قرية بمن فيها بين السماء والأرض نصف نهار وقذفت الأرض بعظام الموتى في حلوان - 352  ألزم معز الدولة الناس بإغلاق الأبواب والأسواق ومنع الطبيخ وأخرجت النساء منثورات الشعور يلطمن على الحسين . ومنع الحج إلا لأهل مصر 393 أمر نائب دمشق الأسود الحاكمي بمغربي طيف به على حمار ونودي هذا جزاء من يحب أبا بكر وعمر وضربت عنقه .
هذه نماذج عن ثقافة ذلك العصر لأن الفخ الذي نصبناه وطق رقبة عصفور قبل ألف سنة سيطقها اليوم لو نصبناه , ظاهرة الاستبداد عندما تتكرر ستجعل موضوع انحطاط القيم ( طبعاً التي بذلت البشرية نصف عمرها حتى شكلتها على جلدها ) مألوفاً . وحتى الساعة ونحن نطالب بتقعيد ذهن المعري على مقاس فكر العجائز أو أشياخ الكتاتيب والعوام الذين بكل بساطة يحكمون عليه بالكفر باسم الغيرة على الدين ويعقدون المجالس لإدانته كالمجلس الفاطمي المنعقد في مصر آنذاك مثل مجلس الأمن ليل نهار لإباحة دم هذا الأعمى الكافر وحظر ذكر اسمه في أي مجلس باعتباره خطيئة إبليس على الأرض ..من يحكم هذه الدنيا غير الله؟ لا نعرف . لكن في كل مرة يرتفع منسوب الخوف تكف الحاجة للفكر , أبو  العلاء وحده لم يكف متوهماً أنه سيخلص أمته من روعها وراسل الكثيرين البعيدين عن حيطان المعرة مشجعاً سبل الأخذ والرد ,لكن الحوار في عصر أبي العلاء ورطة , أصحاب المقامات العالية قبل شروق أي شمس سيقطعون بعنف أي لسان لا يسبح بحمد أمجادهم حتى لايختل الشرع وتختل مصائر الأمة وتأثم , وحتى لا تأثم الأمة سيهيئ لها الله كل جيل وجيل رجالاً مهرة خارجين من صلاة الفجر أو أقبية السلطان لتوزيع التهم والأضاحي .
غيلان الدمشقي,الجعد بن درهم, الحلاج, ابن المقفع, بشار بن برد, صالح عبد القدوس, ابن مفرغ الحميري ,اليشكري , أبي نصر الفارقي, الأبيوردي, الباخرزي, جعفر المصحفي, ابن زمرك, السهروردي, الطغرائي, حماد عجرد, وغيرهم كثير, هذه أمثلة وليست إحصاءات , القادة العظام لم يسلموا كمحمد بن القاسم وموسى بن نصير وطارق بن زياد , دعك ممن سجن أو سلخ جلده على بوابات القلاع أو جُلد أو هجر أو شنع به ودبجت له الإهانات والتهم من التكفير حتى تطليق الزوجات , التهم جاهزة في عصر أبي العلاء وتنمو مثل الدردار , بأقل جهد ومن هنا ازدهرت فلسفات الارتماء في أحضان الحكام للاحتماء بهم والانتفاع من فيئهم لسبب ما لمسوه من ضراوة إصرار السلاطين على بقاء الأحوال وتشويهها.أو لقطع الطريق على أي خطوة تتوجه نحو الأمام لإقامة علاقة حقيقية بين المسلم وربه بدلاً من هذه المراسيم المثيرة للسخرية .

ثانياً - البيئة الطبيعية .
الجغرافيا عامل حيوي في تحديد ملامح الشخصية , البيئة الطبيعية تمثل ما على الأرض أو ما فوقها وما تحتها من آبار وآثار وركائز وانهار وتضاريس أو هواء ومناخ وغلات زراعية . وهي تقوم بوظائف معينة لا تتكرر في بيئة أخرى و تتفق مع طبيعة بعينها مما يؤدي لوجود عادات وسبل تفكير ولغات وأعراف وتقاليد وفنون وآداب تلائم هذا المناخ أو التضاريس المشكلة للسمات الجسدية وطرق السكن واللباس والمآكل والتي تشكل أيضاً سماتنا النفسية وتتعين بذلك سبل التحريم والإباحة كنماذج ثقافية هي في حقيقتها انعكاساً لوسط فيزيقي غير مرئي يتدخل العقل والدين فيقصان ويضيفان .فالأرض بكل ما هي عليه ليست بذات قيمة إلا بكيفية استثمارها أو كلما سمحت المعتقدات بذلك حتى أضحت الفروق مع الوقت لا تعود لعوامل جغرافية كما نظن بقدر ما تعود لعوامل نفسية ظاهرة ومتداولة كالقصص والأساطير عبر الرمز أحياناً خاصة وقت لا يستطيع الإنسان رداً لقهر غوائل الطبيعة التي لا تبدو مفهومة له وتمثل حالة تهديد غير حيادية تتسلط على حياته وجسده ورزقه وعياله . يجابه الإنسان هذه الغوائل غالباً بتمنيات سحرية أو خرافية ليعدل مسارها لصالحه أو يؤنسنها فيتصورها تعاقبه أو تنتقم منه لذنوب سقطت في غفلة ...هذا الاعتباط الطبيعي المحير نظمه الدين .
بإمكاننا إذا تصورنا جانباً من بيئة أبي العلاء الفيزيقية أن نفهم سر الجانب الحزين المسيطر على فكره . فالطبيعة والأم كلتيهما تشدان وتمنحان بلا حساب وتحرمان أيضاً , في حالة الحرمان الشائعة تثيران في النفس عدوانية صامتة وغرائز ضارية تغذي مشاعر العجز والطباع العاجزة .
فللمكان روحه الخاصة التي تتسرى في قاطنيه وتمنحهم ملامح شخصياتهم المتفردة, فهل تتفرد المعرة بهذه الروح التي تمثل حاضناً طبيعياً لأفكار المعري ؟
تقع المعرة على تخوم هضبة الزاوية الجنوبية الشرقية , وهذه الهضبة شكلت فيما مضى غابة من البلوط والبطم الذي يعتبر أساس شجرة الفستق قبل تدهور الغطاء النباتي بالرعي الجائر والاحتطاب . بين جيوب هذه الصخور ووديانها تربة حمراء عميقة صالحة لزراعة التين والكروم وتمتد جنوباً عبر وادي الهرماس الفاصل بين الهضبة والمنطقة البركانية مشكلة سلسلة من هضاب خصبة مزروعة بالأشجار يغلب عليها الزيتون الذي يرتفع مع الهضاب وكلما اصفرت التربة فيما ينخفض التين مع الكروم التي ما زالت ثمارها مرسومة على البوابات والواجهات منذ ألوف السنين شاهدة على استمرار هذه الزراعة وعراقتها المعززة بآلاف المعاصر الأثرية للزيت والدبس بشكل لافت بما يؤكد أنهما مع التين المجفف والزبيب شكلت عمود غذاء أهل المنطقة منذ القديم مضافاً القمح على السفوح المتموجة والعدس والحمص والشعير وباقي الأرض مراعي .
ساعد هذا المناخ المتوسطي نصف الرطب ونصف الجاف بنسبة أمطار مقبولة لإنبات غلات محددة وساعد على توطن هذه الرقعة من الأرض التي تتنوع تربتها ما بين الحمراء والسوداء والصفراء مشكلةً خلفية طبيعية مع درجات حرارة ونسبة هطول شبه ثابتة صياغة نهائية لمزاج السكان وطباعهم النزقة وقابلياتهم المسلمة بالقدريات والخوارق أكثر بكثير من الركون للعقل والتفكير , كما شكلت هيئاتهم البدنية الرشيقة المتكيفة مع وعورة المكان وشكلت طاقاتهم العالية في احتمالهم المكاره الاجتماعية والطبيعية الشغالة منذ ألوف السنين . أي أن المكان أورثهم هذا التوثب المكموم مرجحاً تفاسير غيبية سهلة تعززها خبرات السابقين وحكمتهم وحكاياتهم وأساطيرهم وأوليائهم .
منطقة المعرة جدباء فقيرة قياساً على مناطق مجاورة كحماة وحلب . تفتقر للسهول الممدودة المروية كما تفتقر للأنهار التي عادة  مع هذه السهول شكلت أساس الحضارات المبكرة , وتفتقر أيضاً لنسبة هطول آمنة على الدوام ولكنها مع ذلك مأهولة منذ القديم . فما سر هذا الازدحام المبكر على هذا القفر الناشف منذ خمسة آلاف سنة وفق التواريخ المدونة على الأقل , ما سر تراص الناس فوق هذه الصخور الواطئة ؟, ثلث آثار سورية في هذه المنطقة مع الزاوية , ليس ثمة متر لا تتعثر فيه بحجر مشغول أو حائط أو جرن أو بئر أو قطعة فخارية أو رائحة إنسان أو تل موصول بتلال ,ما من شبر لو حفرت فيه لا تخرج لك منه آبدة أثرية , حيث تدق بقدمك فأنت تدقها فوق بشر نائمين مع حكاياتهم ومآسيهم وأحلامهم وآلهتهم وكتاباتهم ولغاتهم ,  هذه التلال ليست غير قرى أو مدن طمت فوق بعضها بالهدم والحرق أكثر من مرة فصارت تلالاً , باحة مسجد المعرة الشهير أو الذي صار باحة المسجد ونهبط إليها اليوم ببضعة عشر درجة كان يصعد إليها بمثل هذا الرقم مما يرجح أن بضع معرات مطمومة تحت المعرة وما نراه هي آخر معرة تجلس على معرات تحتها . المعرة ومنذ القديم  تدعى بلد التين والزيتون وكانت على ما يبدو مسورة وفي ظاهرها قلعة وفي شرقها ضريح الخليفة عمر بن عبد العزيز  ويزعم أن نبي الله يوشع مدفون فيها مع أن الرواية تفتقر للدقة . أبو العلاء تطير من جدبها وانقطاع مطرها ورغم تبرمه وسخطه أحبها وارتضى أن يسجن نفسه فيها لنصف قرن دون أن يفارقها .
ابن حوقل وصفها بالخصب والقفطي وصفها بالشح وأشياء أخرى وذكر ناصر خسرو الذي مر بها أن عموداً على بوابتها استعمل بالنقوش المحفورة عليه كطلسم للعقارب , طبعاً ما كان يعرف أنها السريانية أو الآرامية لغة أبجد هوز ولغة الثقافة المتشكلة الوثيقة بحياة وأفهام الناس , ألفاظ اللغة تعكس سوية اجتماعية فإذا كانت أبسط كالآرامية وأمرن انعكس على حامليها ودلل عن تطور مفاهيمهم وعندما تكون اللغة عسيرة النحو أو متعضلة تدل على بدائية حاملها ولا منطقيته .
لكن لماذا تدافر الناس بين هذه الهضاب القفراء وعافوا السهول الخصبة ومياهها الوافرة والتي لم تستوطن إلا في أزمنة  متأخرة , تحت  هذه الأرض متحف بشري وحضارات نائمة وصروح ومقابر ومدن وأساطير ولغات وأنماط عيش وحروب ودمار وأغاني نواحة مشغولة بالمآسي والدموع , جزء هام من الدنيا نهض من هنا وتوزع.
هل رأى أحد في أي مكان إبهاراً جمالياً صاخباً في فصل الربيع يشبه ما هي عليه هضاب المعرة المتفورة بالحياة ؟ هذه الروعة استحقها إله الخصب في أسطورة عودة الخلق وتجدد الطبيعة , يشترك ماؤها وهواؤها بعذوبتهما النادرة والمذاق المميز المنعكس في نكهة فواكهها غير المتكررة ومشتقات ألبانها الزكية . لا ألذ على سطح الأرض كلها لمن لف ودار الدنيا من هذه النكهة ولن تجد على  المعمورة ما يكافئ نباتاتها النادرة وبطيخها وسمنها ولبنها ولحومها وتينها وزيتها ودبسها , شهقة خاصة موهوبة لهذه الأرض وحدها , كيف اجتمعت كل هذه الخصائص وكيف تولفت مع بعضها لا يعرف ذلك إلا أهلها المولهين بها ولو هم على أطراف الدنيا, فما أن تسنح لهم فرصة العودة حتى يهرولوا نحوها دون وعي أو تفكير .
المعرة أقدم بكثير مما جادت به قرائح المؤرخين العرب , عاشت حضارات سورية من الرافدين حتى الساحل مثل غيرها ودفعت ضريبة الحرق والهدم أكثر من غيرها لأنها غير محصنة ومفتوحة على كل  الجهات ولم تملك يوماً قدرات خاصة تدافع بها عن نفسها ,الثقافة السائدة منذ ثلاثة آلاف سنة على الأقل هي الآرامية السريانية وليست الآرامية التوراتية , لفترة طويلة وهي لغة المنطقة وما تزال بقاياها في لغتنا المحكية فنحن لا نقول القمح ولكن نقول الحنطة ولا نقول أرض غير مروية ولكن نقول أرض بعل لأن السيد بعل تكفل بإروائها ونقول شكارة ونقول شلف وشمط وشفى وكبس ودعك وجرجر ودلف ودقر وفرط ودندل وشحط وشفط ورص وشقف وجهجه وملش وقرقش وكعر وشحل وطمش ونط وبشط وهبل كما نقول شربوكة ودليلة وكوشه وفقيع وزاح وعلى هذا المنوال الآرامي , فالآرامية تسيدت الأفهام ووالمعتقدات والأسماء , هات لي أرض أو مدينة أو جب أو واد أو جبل أو نبع أو سهل أو حكمة أو حتى نبات غير آرامي في هذه المنطقة , أصلاً بات الأكاديميون في العالم يميلون للإقرار أن لا اسم في حضارة الإغريق جذره غير آرامي سرياني حتى الإغريق تسمية آرامية من الجريق وهم سكان الكهوف . وباعتبار اللغة هي الفكر والفكر صدى الطبيعة فقد شكلت الآرامية مفاهيم وآليات في النطق والتفكير وصياغة الجمل والعقائد الأرضية والسماوية بعد ذلك .
ثقافة عريقة نائمة تحت قشرة المكان لكنها شكلت بنى نفسية تحتمل الآلام وتصبر لشدة ما عاقرت من أهوال وعجزت عن التصدي . لنتجه غرب المعرة : كفرومة , حناك , حاس , كفرنبل , معرتماتر , سفوهن , كفرعويد , فطيرة , معر زيتا , بلونس , معر تحرمة , كله آرامي مع سهولها وآبارها ووديانها وكل ما فيها , فمعرتحرمة مثلاً هي مغارة حرم إيل والحرم من الحرمة وإيل هو الإله والمغارة متكررة كثيراً وهي من ميعرة أو ميغرة الآرامية السريانية وهي مكان للسكن وللدواب , كما الأمر بالنسبة لمعرة النعمان أي مغارة النعمان والنعمان أو نعمو أو نعوم هو احد أسماء إله الخصب أو أدون ومنه شقائق النعمان الحمراء التي تمثل دم الإله المقتول آخر الصيف والعائد للحياة بزخم قوي وبديع في بداية الربيع , ومن هنا تكرر اسم النعمان في الأعلام كثيراً .
نعرف أن هناك من نسب المعرة للعر أوالعار او الشنار او العرة او الجرب أو الأمر الشنيع أو البكاء على طفل مفقود في المكان الذي كان أجمة قصب حيث وقعت الفجيعة وكانت المعرة مكانها , إذاً هناك حدث استدعى التسمية منسوب للنعمان ابن بشير الأنصاري المعروف أو النعمان بن عدي الذي يمت له أبو العلاء بقرابة , لا أعرف إذا ما كان هذا الأخير من أسرة عمر رضي الله عنه والذي ولاه عملاً في ميسان وقال في شعره :
       لعل أمير المؤمنين يسوؤه                   تنادمنا في الجوسق المتهدم
فساء ذلك عمر وعزله .
أتصور أنها مجرد تلفيقات لغوية لمؤرخين تراءى لهم ان التاريخ بدأ بمعاوية وباللغة العربية التي يؤولون فيها ويلفقون , وأتصور انه صعب على لغة صعبة كالعربية  أن تسود وتتفوق على لغة سهلة كالآرامية لولا القرآن الكريم الذي حملها والتي لا نتداولها حتى اليوم إلا  في غرفة الصف وبتعثر واضح . بل يقولون لنا أن في بلاد الشام كلها أحد عشرة معرة وفي شمال سورية معرتان هذه للنعمان ومعرتمصرين اللتين اختصتا بمناسبات العار والشنار من القزويني لابن العديم لناصر خسرو وحتى ابن  بطوطة والزبيدي مؤكدين على الفجائع والأحزان والعار في الدلالة , لكن ما عسانا نفعل أو نقول إزاء معرات مبذورة حولنا مثل الفطر كيف سنفصل لها مناسبات ؟ من باب المثال يفد على ذاكرتي بأذيال قريتي التي لا تبعد اكثر من عشر كيلومترات عن المعرة الأم ما لا يعد من المعرات مثل : معرجلع , معرتموخص , معرتلبا , معرتصين , معرتحرمة , معرزيتة , معرتماتر , معرسخاتا , معرتحون ,  وهذه الأخيرة مثلاً واد صخري على كتفيه مغائر منحوتة غرفها وأعمدتها وشرفاتها وتطل على الوادي من جهتيه , ماذا لو ابتعدنا عن قريتي عشر أو عشرين كيلومتر هناك ما لا يعد منها, ليس الأمر عاراً ولا شناراً لكننا بطبيعتنا ننحاز للمألوف السهل وما اتفق مع عواطفنا المجلة لتراثنا ولغتنا دون تفكير , ففي ظاهر المعرة , مجرد كيلومتر نبع يقصده الناس في الأعياد والعطل للتريض , أضفنا له لتنشيطه سياحياً كما نتوهم أضرحة طويلة جداً وحملناها أسماء توراتية لإغراء حملة هذه الذهنية التي تصيح في التوراة ليل نهار (لنسلك أعطي هذه الأرض ) ولفت أنظارهم نحونا ومنحهم صك تمليك مجاني لأرضنا وتراثنا فيما لا مشروعية لهم حتى على أرض فلسطين التي يتوهمون أن الله وعدهم بها , كل ما في الأمر أنها بساطتنا المتنصرة لتراثنا والمخصب بأوهام تتفق مع هذا المأثور .
هذه الطبيعة وهذه الحضارات أورثتنا الكثير من حيث لا نعي وتفاعلت طبائعنا العنيدة مع ثقالات أسطورية مولدة مناخاً نفسياً مطبوعاً على البساطة والزهد وشيوع مظاهر مخففة للويلات التي لم تنقطع يوماً عبر الحكم الدوارة والبكاء الشغال والدعابة التي تقلل طعم المرارة المحيطة . صراعات ومحن تواردت على هذه المنطقة من كل جهات المعمورة , لم يوفرها أحد وكان بيده سكين عبر التاريخ البعيد والقريب , إرث طويل من الفجائع والمخاوف ونوبات الفزع المركوم بقيعان نفوسنا , هذا النواح أسلوب أو طريقة من طرق البقاء تراه في مفاهيمنا ولباس نسوتنا الأسود ولغتنا  الدامعة ,للنساء عندنا مهمة أخرى فوق مهام النساء هي البكاء , تبكي عنها وعن الرجل وتغني كما البكاء , البكاء فينا مثل العبادة نبكي ونغني , عاليادي اليادي وهي الوادي في الآرامية وإذا تكدرنا نغني عالعين يا بو الزلف , والزلف هو الورد الأحمر على الثوب الأبيض في الآرامية . نفهم على بعضنا ونقول النكت الباكية ونبتدع وسائط هروب ذكية تمكننا من احتمال كل هذه المآسي حتى نتوازن , تاريخ من البكاء والآلام واللطم على الوجه والصدر , نلطم على أدون الغائب وعلى البعل المقتول وعلى الحسين , من شيمنا فن البكاء .
هل صار بمقدورنا فهم دواعي أبي العلاء الحزينة وحاجته مثلنا للقلق والبكاء والخوف الذي يند في كل مظاهر حياته البائسة ؟ هل بإمكاننا فهم آثار هذه الظواهر البيئية الناشفة مرة والدامعة مرة أخرى من حوله والتي جاهد لتجاوزها فما استطاع ؟ أبو العلاء أول من فلسف بعقله شهيتنا البكاءة بلغته المعجزة .

بيئة أبي العلاء النفسية :
بمقدار إحساس أبي العلاء بالعجز إزاء غوائل الطبيعة والمجتمع انشلت مبادراته وانسدت آفاق الخلاص عنده .
إن تفاعل الطبيعة مع المجتمع ولد ظاهرة خليقة بالإعجاب في فكره ومسلكه وحياته اليومية . مشكلته أنه لم يستطع للخواطر التي تخطر له كتماناً ويسوقها ببراعة . تراه يصرح ويلمح ويكلف نفسه الصعب فتصدر عنه الآراء سواء أراد أو لم يرد . أثار أبو العلاء إشكالاً في الأفهام وحرك توخم العقول الواقفة على قدم واحدة وأهاج طينة التفكير الراسبة منذ الأزل , كشأن المتميزين سيتهمونه ويجافونه ولو حكم على نفسه بالسجن حتى لا يحس بالحرج تجاه الذين يحبهم , السجن أو العزلة هي جزء من محاولة هروب عندما لم يستطع للناس شيئاً لوجود قوى داخلية فيهم تتضاد مع آرائه ولوجود مشاعر عامة مستخفة بالكرامة والحرية وارتضاء الدونية والتبعية العاجزة وهو ما شكل شكوكه الأولى لكل ما يصدر عن الخلق فانسحب من الدنيا في محاولة لنسف مشاعر تضيق عليه وتعلبه.
أبو العلاء نبات خاص نما عبر سلسلة مصادفات غير متكررة مركبة على قابليات نفسية كئيبة وأهم من ذلك أنها عاجزة , ليس له علاقة بأي مدرسة سابقة أو فرقة أو طائفة , إمامه العقل الذي يشتبه عليك بقلق غير مطمئن معتبراً أن الشر كامن في النفس البشرية وينتظر الوثوب على غيره بدليل أن الناس  ما حاولوا ولا مرة تجنب هذه الشرور بل الأنكى أنهم يسارعون نحوها , يتردد في اعتبارهم مخلوقين لغاية في محاولة منه لتنزيه إلهه من مسؤولية خلق هذه الأنماط الفاسدة , أشفق مع ذلك على غباء الناس وتقبلهم قدريات صابر ة غير مفهومة , ورغم تأكيده على العقل أقر بعجز العقل عن الوصول لليقين بالقدر الذي يثبت فيه الشكوك , ثقته بعقله أوردته المهالك رغم احتياطاته أن يذهب في التعبير مذهب المجاز ويقصد في أفكاره أكثر مما يوضح . إشارات الاستفهام لازمته حتى نهاية حياته بل كان تناقضه في الآراء مقصوداً لاتقاء التهم المباشرة عندما وضع نفسه في الجهة المضادة لجهة الناس . أفكاره الحانقة على المجتمع المنصوب على الغدر تصدر عن آلام خائبة لمعرفته كيف يقاد الناس لتأجيج أهواء غاضبة باسم الدين . اعتبر التقية أحصن له وما كانت عزلته إلا غطاءً لها . انطلق في أحكامه اعتباراً من المعرة التي تمثلها وعممها بروح لم تؤمن بالخرافة والأساطير والجن والملائكة ولا تريد أن تسمع تواشيح الموالد الدينية الطربية ولا نوبات الفرق الصوفية بل بروح لم تؤمن بالنبوات أصلاً ...ليس هنالك عقاباً أنكى من تجاهل الناس ولو هم أغبياء للمتميز وازدراء أفكاره , لن يفهموا عليه أصلاً ولا يريدون بل يحاجرونه بقسوة مع انه لا يبث أفكاره إلا شفقةً وحرصاً لانتشال أفهامهم من تحت سماكة أوهام تربض على صدورهم , يعرف أن الماضي كله ملفوف بالقداسة وما يؤشر نحوه لا يتواءم مع مرجعية دينية مفصلة على مقاس المنتفعين من رجال الدين أو السياسة .أحياناً تتحكم به روح الفيلسوف وأحياناً أخرى روح الفقيه العرفاني المتعمق لكنه في  النهاية ثمرة قابلياته الخاصة التي أنضجها مكان المعرة وزمان المعرة وعلل المعرة , قوى معارفه النقدية بقصد المصالحة بين الفلسفة والدين وبينهما وعلم الكلام وفلسفات الإشراق ودعاوي الزنادقة .
فضيلة أبي العلاء انه يبث اعتمالاته الصامتة على حياء بعقل حكم عليه بالتميز والاشمئزاز من كل ما حوله واستفظاع ما يواجهه من بشر يعيشون بلا كرامة ويباهون وينافقون بلا كرامة ثم يموتون بلا كرامة, وحده الذي شقي بآرائه ووحده دفع الضريبة بإباء شامخ ووعي طهري .
ما نجاه من القصاص عاهته أولاً ومهارته العالية في عرض إشارات الاستفهام ثانياً ثم الأوضاع السياسية المعاصرة له ثالثاً . فما يكاد يسخن الكرسي تحت الحاكم ليتفرغ للمحاسبة حتى يقتلع , على الأخص المرداسية البدوية التي لن تأبه لغير السيطرة والحكم . كان يواجه خواطر تتعارض مع ما تطمئن له النفوس وتنغص عليه هذه الخواطر وتحرمه من أن يكون موضع عطف الناس وشفقتهم .
لكن لماذا المعري ؟ كثيرون سبقوه بعاهات وعقول فذة ولم يشذوا ولا عافوا النساء واللحم ولا اعتزلوا البشر ! ما سر هذه الخاصية الكئيبة الرّيابة عنده ؟لقد ازدحمت فيه قابليات نادرة من ذكاء وذاكرة عجيبة وطباع رقيقة وشكوك تتسرى تحت لسانه أولجها في أفكاره المزاجية الانفعالية غير الفاعلة , هذه المزاجية القاتمة ذات ترجيع بعيد ويسمها خيال وثاب يند عن عاهة مكممة كرهت كل ما يمت للفساد و طمحت لعوالم مثالية خابت كلها , أبو العلاء توهم أنه مسؤول عن إصلاح البشر فطرح شكوكه في محاولة لإعلاء حركة الفكر , هذه التساؤلات العميقة لا تمت لخطرات أي شاعر إلا إذا كان له عقل كعقل أبي العلاء الذي كان فيه أكثر بكثير مما كان في عقول الآخرين .
نعرف أنه دافع عن الجبر واتهم الحرية منطلقاً من عاهته وأنكر المعاد أكثر مما ثبته وسخر من معتقدات الناس مناكداً حتى الأنبياء وهازئاً من كل مخالفة للعقل والمنطق . وكدأبه لا يعرض ما لديه بوضوح بل يتخفى وسط مشاعر الخلق المعلقة بين الماضي والخرافة والخوف والجوع والشعوذة والآخرة وبروز آليات لقصل الأعناق تطلع بلمح البصر من المجارير وتصير فوراً على أكتاف الخلق مسلحة بالموت باسم الشرع أو العصبية أو الغيرة على الدين أو الاستجابة لصوت امرأة مسبية .
الخوف عندما يتقدم يصير عدواناً مسنوناً على شواهد القبور , هذا العدوان مغذى بسنين الهتك والحرمان الطويلة عند البشر, أحياناً تصير له أقدام ويتجه نحو من نذر نفسه للدفاع عن الناس المهانين ويصوب بشحنة انفعالية غاضبة في الجهة الخطأ وعندها فكل السعادة أن تنجو بجلدك .
أفهام الناس المتمترسة في خنادق معدة لها لم تتحرك بوصة واحدة , يعرف أنه ممنوع أن يكون الناس على سجيتهم وسط ثقافة زجر من حضن الأم تبدأ مروراً بالتكايا وقاعات السلاطين , كلهم يتفاوضون على تشحيم شروط الطاعة والإذعان بمقامات شعرية عالية .
احتج أبو العلاء على الناس الأماجد والأراذل على السواء واحتج على السفالات والدنايا , هل هو كثير على امة عمرها بعمر التاريخ أن ينبري احد منها ويحتج رغم كل الموبقات الشغالة وآليات الفتك بالبشر والأفهام ؟ ليس كثيراً على من كان كأبي العلاء متحسساً فظاعة البؤس وخواء العقول المتوسدة ألفاظاً خانعة مرة وغاضبة مرة أخرى ثم لا تقول شيئاً في النهاية, بل تمجد ثقافة الموت في محاولة غير مفهومة لقهر موتها الداخلي المزمن والمنطلقة من مبدأ النظر للأحوال على انها محكومة بغلبة السيف وغلبة اللغة الهائجة المعطلة للفكر والمتحولة بسهولة من لغة هادئة إلى لغة حركية .
طباع الخلق إذً مسؤولة وغير مهيئة للارتفاع عن سوية القبول والطاعة إلا في حالات خاصة , هذه الطبائع الخانعة أمدته بجرأة لتسفيه آراء الآخرين و تحولت هذه الجرأة إلى قسوة بغيضة مدفوعة أحياناً بعاهته وذاكرته اللاقطة وذهنيته العالية فخرق بذلك مسلمة صعوبة التعايش بين الذهن الوقاد والذاكرة العجيبة ,تعايشتا عند المعري وتحولتا لسخط شاتم أكبر من كل الدواعي المحرضة .
ومع ما قيل عنه أنه مثل الذهب يزيده الزمن لمعاناً أو أن ليس له في الإسلام نصيب أو ما قيل عن إشارات الاستفهام المستفزة في شعره فقد قال عنه الزملكاني جوهرة وراحت .
لكن كيف واتته هذه النزعة المسفهة للخلق ودياناتهم المستوية في الضلالة والمورثة للإحن والتباغض بين البشر ! لنعترف أنه كان مشروعاً شامخاً بفكره وإعجازه اللغوي , مشروعاً لو تكرر لوفر على الأمة قروناً من الجهالة والعسف. التدافر بين الأفكار عنده مؤشر للتجاوز ونقل الأمم من طور لطور , معادلة صعبة على أفهام معاصري المعري وعلينا أيضاً , لا بد من شجاعة استثنائية حتى تنصب حلقة صراع بين الأفكار المتخاصمة على مرأى الجميع, فالناس اعتادوا التنصر لما ألفوه والذي لا يعرفون غيره لأنه لا يتهمهم بالغباء المريح الذي يناولهم حقائق الأرض والسماء ملفوفة في ورقة ثم يمدون أرجلهم , ينعسون وينامون ؟ وإذا تواتى بين قرن وقرن ومض عارض في تاريخ ذاكرتهم البعيد أو القريب ينبرون بغضب العاصفة ليدوسوا عليه ويطفئونه بتشف عدائي غير مفهوم إلا إذا اعترفوا انه يتهم غباءهم وكسلهم .
ففي حسابات الخير كل ما لا صلة له بالناس لا يستحق الوقوف عنده , محنة ابي العلاء وبيئته اقترحتا هيئته النفسية وصبغتاه بالشؤم والخيبة , لم يرد احد عليه وقت صاح أنت مخدوع فأفق , بكى في سره وتحطم شموخه تحت أظلاف الغباء الجائح . إهانة ما بعدها أن يوهب له هذا العقل المحتج ثم يحكم عليه بالاتهام , إلى أين سيفر ؟ ليس بإمكانه قتال مجتمعه وليس بإمكانه التسامح والسكوت على مخازيه , سيدفع ثمن كبريائه الرافض بضراوة وسيعمد للمداورة في محاولة لاتقاء شرور ما حوله , لا يريد أن ينبذ ولا أن يموت أو يطرد ولا يستطيع أن يلزم الصمت , هل بقي له غير أن يوارب ويعمد للتقية التي يعرف أنها عجز ساكت , هذه التقية الباكية معصورة بضغوط طاغية وهي خاصة بأبي العلاء تحديداً , تقيته أشبه ما تكون بفضيلة شاحبة متوارية عن الوضوح لحمل اعتمالاته الداخلية , هي فضيلة خاصة به قريبة من التدين المتشائم الحزين أو التدين العاجز المقهور, هذا التدين الباكي عند المعري يمثل أقذع هجاء مؤدب لكل النذالات المتجولة في المكان , هجاء متواضع وخجول ولكنه يذرف الدمع والأوجاع, تدين أبي العلاء الخائف الحزين الباكي هو أقسى أساليب الهجاء ضد الظلم والجهالة والطغيان .
                                                                
                                                                   عبد العزيز الموسى
إنما الامم الاخلاق ما بقيت ............... إن هم ذهبت أخلاقهم ذهبو