من أسرار القرآن
الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية
(34).. ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود
بقلم :د. زغـلول النجـار
هذه الآية الكريمة جاءت في نهاية الثلث الثاني من سورة فاطر, وهي سورة مكية استهلت بحمد الله ـ تعالي ـ فاطر السماوات والأرض( أي خالقهما علي غير مثال سابق), وجاعل الملائكة رسلا إلي أنبيائه ورسله خاصة وإلي بقية عباده, بصفة عامة, والملائكة خلق متعددو الأجنحة, واستعرضت السورة عددا من صفات الله وأسمائه ومنها: أنه ـ تعالي ـ الخالق, الرازق, القادر, القدير, العزيز, الحكيم, المنعم, الحليم, العليم, الغفور, البصير, الشكور, الخبير, الواحد, الأحد, الفرد, الصمد, صاحب الرحمات الواسعة, الذي يفتح للناس منها مالا يمكن لأحد أن يغلقه, ويغلق ما لا يمكن لأحد أن يفتحه...!!! وتذكر السورة الكريمة الناس بنعم الله ـ تعالي ـ عليهم, وتستنكر جحودهم لها.., وتثبت رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ في مواجهة تكذيب الكافرين لنبوته بتقرير أن الرسل من قبل قد كذبوا, علي الرغم من أنهم جاءوا أممهم بالمعجزات الواضحات والوحي المنزل بالهداية الربانية, فأخذهم الله أخذا شديدا عقابا لهم علي كفرهم, وأن الأمور كلها مردها إلي الله ـ تعالي ـ فيجازي كلا بما يستحق.
وتؤكد سورة فاطر أن وعد الله حق, وعليه فلا يجوز للخلق أن يغتروا بالدنيا فتلهيهم عن الاخرة, ولا أن ينخدعوا بالشيطان وهو عدو لهم فيثنيهم عن اتباع الهداية الربانية, ويمنيهم بالمغفرة مع الاغراق في معاصي الله, ومن ثم فلابد من مقابلة الشيطان بالعداوة التي يستحقها, لأنه من خبثه وعداوته للانسان يحرص علي تزيين سوء عمله له حتي يراه حسنا فيقوده بذلك إلي النار...!!
وتؤكد السورة كذلك علي أن العزة لله, فمن أرادها فسوف يجدها في طاعة الله, وأن الذين كفروا سوف يلقون عذابا شديدا, وأن الذين أمنوا وعملوا الصالحات لهم من الله مغفرة وأجر كبير, وأن الله ـ تعالي ـ يضل من يشاء ممن ارتضوا الضلال سبيلا, ويهدي من يشاء ممن اختاروا الهداية سبيلا, وتضرب السورة الامثال للناس من حياتهم, وتوصي الرسول الخاتم ـ صلي الله عليه وسلم ـ ألا يحزن علي مصير الضالين لأن الله ـ تعالي ـ عليم بما يصنعون.
وتحذر سورة فاطر من الشرك بالله, وتؤكد عجز الشركاء المزعومين, وحاجتهم, بل وحاجة الخلق جميعا إلي الله ـ تعالي ـ, وأنه سبحانه غني عن العالمين, ومن قبيل التقريع تذكر المشركين بالله بأن شركاءهم لا يستطيعون خلق شيء في الأرض, وليست لهم أدني شراكة في السماوات, وأنهم لم يتلقوا تفويضا من الله ـ تعالي ـ بذلك, وعلي الرغم من ادعائهم, وقسمهم كذبا بالله أنهم اذا جاءهم نذير فسوف يكونون أهدي من غيرهم من الأمم, فإنهم لما جاءهم النذير ازدادوا نفورا من الحق, وأن هؤلاء الظالمين لا يعد بعضهم بعضا الا ظنا كاذبا, وقد استمرأوا الخروج علي منهج الله استكبارا في الأرض, ومكرا سيئا بأهلها, والمكر السيء لا يحيق الا بأهله, ولم يعتبروا بما حدث للأمم السابقة عليهم, والتي كانت قد سارعت بالكفر, وعاجلهم الله ـ تعالي ـ بالعقاب علي كفرهم وقد كانوا أكثر قوة منهم, وهي سنة من سنن الله التي لا تبديل لها, ولا تغيير فيها.
وتؤكد السورة الكريمة أن الله ـ تعالي ـ قادر علي استبدال الخلائق بغيرهم. وما أيسر ذلك عليه ـ سبحانه ـ, وأن كل نفس مسئولة عن عملها, وأنها لا تحمل وزر غيرها, وأن الرسول الخاتم ـ صلي الله عليه وسلم ـ مطالب بإنذار الذين يخشون ربهم بالغيب فيعبدوه بما أمر, وأن من يسعي إلي تزكية نفسه فإن فضل ذلك مردود عليه, وأن مصائر الخلق جميعا إلي الله ـ تعالي ـ فيجازي كلا بما هو أهل له, وأن الأضداد لا يستوون أبدا.., وأن هذا النبي والرسول الخاتم قد أرسل بالحق الذي أرسل به الأنبياء والمرسلون من قبل لأن عدل الله ـ تعالي ـ يقتضي ألا يحاسب الخلائق بغير إنذار مسبق.
وتمتدح السورة الكريمة الذين يتلون كتاب الله, ويقيمون الصلاة, وينفقون مما رزقهم الله سرا وعلانية رجاء رحمة الله الذي يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله.
وتؤكد السورة في ختامها أن خطايا الناس كثيرة, ولكن الله يؤخرهم إلي أجل مسمي. وهو ـ تعالي ـ البصير بهم.
وبالاضافة إلي التأكيد في أكثر من موضع من سورة فاطر أن الله ـ تعالي ـ عليم بكل شيء, ومحيط بكل شيء فإن السورة تستشهد بعدد كبير من الآيات الكونية علي صدق القضايا التي أوردتها, ومن ذلك: تصريف الرياح, وإرسال السحاب, وإنزال المطر, وإحياء موات الأرض, وخلق البشر من تراب, ثم من نطفة, وجعل الزوجين منها, واختلاط البحرين دون امتزاج كامل, وإخراج بعض ما يؤكل وما يتزين به منهما, وجري السفن فيهما, وولوج كل من الليل والنهار في الآخر وتسخير كل من الشمس والقمر, واختلاف ألوان كل من الثمار, والجدد القاطعة لصخور الجبال, والناس, والدواب, والأنعام, والامساك بالسماوات والأرض أن تزولا, وبكل ما هو في ملك الله ـ تعالي ـ, وكل شيء ملكه فهو ـ تعالي ـ رب كل شيء ومليكه, وغيره لا يملك شيئا, وأن الذين يعلمون شيئا من ذلك من عباد الله هم الذين يخشون ربهم بالغيب...!!!
وهذه الآيات الكونية تحتاج إلي مجلدات في دراستها, وإظهار جوانب الاعجاز العلمي فيها, إلي جانب ما تحمله من الدلالات المنطقية المقنعة علي طلاقة القدرة إلالهية في إبداع الخلق, ولذلك سوف أقتصر هنا علي آية واحدة فقط منها وهي آية اختلاف ألوان الجدد القاطعة لصخور الجبال