اردت ان اعرض عليكم احدى اشكال الحياة فى عصر ما بعد الجينوم, واعنى بهذا المصطلح, ما بعد الإنتهاء من مشروع الجينوم البشرى. واستهل النقاش ببعض المعلومات الأساسية عن جينوم الإنسان:
يتألف الانسان من حوالى 3 بليون حرف وراثى, والحروف الوراثية لها اربعة اشكال, عبارة عن جزيئات تسمى نكلوتيدات (اجاز بعض العلماء العرب نطقها "نوتيدات"). والنكلوتيدات تشكل الـDNA الذى يتواجد بداخل نواة كل خلية. و حتى يسهل التحكم فى هذا الشريط الطويل من النكلوتيدات, قسمت بداخل نواة الخلية الى23 شريط اصغر تعرف بالكروموسومات, والخلية تحتوى على نسختين من كل كروموسوم, احدهما من الاب والاخر من الام, عدا الخلايا الجنسية فتحتوى على نسخة واحده عبارة عن خلط عشوائى للمادة الوراثية للأب وللأم, و ذلك كى يحدث تباين فى النسل. وبالتالى كل خلية (عدا الخلايا الجنسية) تحتوى على 23 زوج من الكروموسومات تحتوى على حوالى 3 بليون نكلوتيدة. تشكل تتابع النكلوتيدات فى الشريط الوراثى كلمات لها معنى اذا ترجمت بشكل صحيح. والجين عبارة عن تتابع من النكلوتيدات لها معنى وتترجم الى بروتين معين له وظيفة. اذا اهمية الجينات تكمن فى انها تحفظ التعليمات اللازمة لانتاج البروتينات المسؤلة عن نشاط الخلية ووظائفها الحيوية. والانسان يحتوى على حوالى 30 الف جين (وهو رقم ادهش العلماء لضآلته حيث كان الاعتقاد السائد حتى شهر فبراير الماضى هو وجود حوالى 100 الف جين, وهو موضوع شيق اتمنى ان اكتب لكم عنها قريبا) , ولا يعنى ذلك ان الانسان يتألف من 30 الف بروتين لانه يوجد جينات تنتج اكثر من بروتين. وتقوم نسبة من هذة البروتينات بدور وسائط حيوية وتعرف بالانزيمات و بالتالى فان الانزيمات تشرف على عشرات الاولوف من الافعال الحيوية داخل الخلية الواحدة. و الذى يجعل البشر يتشابهون فى الشكل العام والصفات الاساسية هو تشابه الجينات, وهذا هو نفس السبب الذى يجعل الشمبانزى قريب الشبة من الانسان حيث يبلغ نسبة التشابة فى المادة الوراثية حوالى 98%. ويختلف افراد قبائل البوشمن فى ادغال افريقيا عن أهل جبال التبت فى اسيا وعن سكان المناطق القطبية (الاسكيمو) من ناحية تتابع النكوتيدات اختلاف ضئيل جدا حيث تبلغ99.9 %, رغم وجود اختلافات مظهرية واضحة.
وكان الهدف من مشروع الجينوم البشرى هو معرفة تتابع الحروف الوراثية فى الإنسان... لماذا؟ لأن ذلك سيسرع من عجلة البحث العلمى بصورة هائلة. فبدون مبالغة, ما كان ينجز فى سنة يمكن القيام به فى اسبوع فى عصر ما بعد الجينوم.
و ساعطى مثال واحد بسيط لما يمكن ان يحدث فى مجال الطب:
من الصور المتوقعة للطب فى المستقبل ما يلى: تؤخذ عينة دم من اى فرد و تفحص مادتها الوراثية, و النتيجة... اعداد تقرير بالامراض التى غالبا ما سيصاب بها والجرعات المناسبة من الأدوية المختلفة التى سيضطر أن يتعاطاها و الأدوية التى يجب تفادى تعاطيها. و لكن كيف سيحدث هذا؟
اولا,ً لابد من التعرف على مصطلح مهم, و هو الإختلافات الفردية فى القواعد النكلوتيدية single nucleotide polymorphism (SNP). القواعد النوتيدية هى وحدات بناء المادة الوراثية كما قلنا و يمكن تشبيهها بالحروف الابجدية. نحن كبشر ننتمى الى نفس النوع (Homo sapiens) و بالتالى فنسبة التشابة فى المادة الوراثية عالية جدا, حيث تبلغ 99.9%. و يوجد إختلافات بين الافراد فى حدود 0.1% فى مواقع مختلفة من المادة الوراثية, هذة هى الإختلافات الفردية فى القواعد النوتيدية. تخيل ان جهازنا الوراثى عبارة عن كتاب يحتوى على 3 بليون حرف, و كتابى يكاد يطابق كتابك إلا من بعض الإختلافات الإملائية بين ما هو مدون فى كتابى و ما هو مدون فى كتابك و كل الكتب الاخرى, و هذا يؤدى الى إختلافات طفيفة بيننا. و هذه الإختلافات غاية فى الأهمية و تتواجد بمعدل إختلاف نكلوتيدة واحدة فى كل ألف و خمسمائة نوتيدة, (بمعنى إختلاف إملائى لكل 1500 حرف).
تجعلنا هذه الإختلافات عرضة لامراض معينة دون غيرها و تؤثر على قابليتنا للإستفادة من الادوية. و يجب الا نخلط بين هذة الإختلافات و بين الطفرة, حيث ان الطفرة ايضا اختلاف فى تتابع النكلوتيدات و لكنها نادرة الحدوث و تحدث لأقل من 1% من الافراد, بينما الإختلافات الفردية فى القواعد النكلوتيدية تأخذ شكل اعم و تكون موجودة فى أكثر من 1% من البشر بل قد يكون إختلاف معين سائد فى شعب من الشعوب. و الفرق الاخر بين نوعى الاختلاف هو ان الطفرة قد تكون عبارة عن حذف او اضافة نكلوتيدات من او الى المادة الوراثية, و لكن الإختلافات الفردية فى القواعد النكلوتيدية مجرد تبديل فى نوع النكلوتيدة او الحرف الوراثى.
سيشهد المستقبل القريب جدا إجراء دراسات على المرضى الذين يعانون من نفس المرض و ذلك لمعرفة الإختلافات الفردية المشتركة بينهم. وكمثال بسيط, تخيل عشرة الاف مريض يعانون من مرض الزهيمر, و لديهم الاف الإختلافات الفردية المختلفة و لكنهم يشتركون فى وجود إختلاف معين فى الحروف الوراثية عند الحرف رقم 1005 و 2308 و 10897. يستنتج من ذلك ان هذا النمط من الإختلافات له علاقة بظهور المرض, و اذا اجرى لطفل وليد مثل هذا الإختبار و وجد ان لديه نفس النمط من الإختلافات, دل ذلك على وجود إحتمال قوى جدا ان يصاب بهذا المرض فى المستقبل. و ستظهر قواعد بيانات بأنواع الأمراض و نمط الإختلافات الفردية الخاصة بها, و من ثم إذا اجرى شخص إختبار لمعرفة نمط الإختلافات فى جهازه الوراثى سيتمكن بصورة دقيقة ان يعرف مدى قابليته للإصابة بمرض معين تم التعرف على نمط الاختلافات المرتبطة بها. و إذا كان هذا المرض مرتبط بالعمر فسيعرف التوقيت المرجح ان يصاب فيه. ليس هذا فحسب, بل ستجرى دراسات لإيجاد العلاقة بين انماط معينة من الإختلافات الفردية فى القواعد النكلوتيدية و الإستجابة لدواء معين, فهناك مرضى يستجيبون لدواء ما و اخرون لا يستجيبون, بل و قد تظهر عليهم اعراض جانبية ضارة. فإذا استطعنا معرفة النمط المشترك للذين استجابوا و النمط الخاص للذين لم يستجيبوا, سيعرف المرء موقفه من الأدوية المختلفة قبل تعاطيها بناء على نمط الإختلافات الموجودة لدية. كما يمكن تفصيل أدوية تلائم تعدد المظاهر المذكور
و يتبع هذا التطور خلافات كبيرة اخلاقية و قانونية. مثلا, هل يحق لشركة تأمين ان تطلب من عميل عمل فحوصات لمعرفة إذا ما كان سيتعرض لأية امراض فى المستقبل و على اساسها تقرر التعامل معه ام لا؟ او هل يحق للشركات ان تطلب من المتقدمين للعمل ان يجروا مثل هذة الفحوصات, و يكون لذلك تأثير على قرار التعيين؟ هذة قضايا تشهد الان مناقشات حامية, فمثل هذة المشاكل ليست بعيدة, بل آتية أسرع من المتوقع.
وغير ذلك الكثير من القضايا والثورات العلمية الأتية فى عصر ما بعد الجينوم. وأعتذر إذا فشلت فى التبسيط الكافى, ولكنى سأكون سعيد بأى إستفسارات.