90
« في: يوليو 19, 2005, 10:29:56 صباحاً »
نحو المستقبل
طبيعة العقيدة الإسلامية ,وطبيعة التكاليف الربانية تجعل من المسلم رجلاً مستقبلياً ,فهو منذ سن البلوغ ,وحتى الممات يلاحق هدفاً واحداً هو رضوان الله – تعالى – وهو يضبط إيقاع حركته وفق متطلبات هذا الهدف .وكان المأمول أن يشمل الحس المستقبلي لدى المسلم كل مناشط حياته ومواقفه وردود أفعاله ؛ لكن الجهل والأمية وتأثيرات البيئة الخاملة المتبعة , كل ذلك أدى إلى أن يعيش كثير من المسلمين في حدود يومه بسعادته وشقائه , دون أن يمد بصره إلى قابل الأيام وأن يتهيأ إلى ما سيتعامل معه من أحداث .
ولعلي أبدي هنا عدداً من الملاحظات حول هذه المسألة :
1- المسلم بحاجة إلى أن يمتلك الحس المستقبلي عن طريق تخطيط مناشطه وأعماله وعلاقاته المختلفة .والتخطيط جهد ذهني معرفي يبذله الإنسان في تصور الأوضاع والإمكانات الحاضرة من أجل وضعها في برامج واضحة , بغية الوصول إلى هدف محدد , ومواجهة الظروف المستقبلية . والتخطيط بهذا المعنى عمل قصدي تحكمي يراد منه الاستفادة من معطيات المستقبل وتطويعها لإرادة الإنسان على قدر المستطاع. المستقبل غيب , لا يعلمه إلا الله – جل وعلا- ولكن سنن الله النافذة في كل مجالات الحياة تعطينا مؤشرات لما يمكن أن يحدث. وحين يكون ما نخطط له متوقعاً في المدى القريب , فإن توقعاتنا تكون أقرب إلى التحقق , ماذا يحدث إذا لم يخطط الواحد منا حياته ؟
الذي يحدث هو أننا لا نستطيع السيطرة على أوقاتنا ؛ فقد علمتنا التجربة أن حاضرنا يضيع ,وأوقاتنا تذهب هباءً ,إذا لم نضغط عليها بأهداف مستقبلية .وجهودنا من غير خطة جيدة ستظل مبعثرة وضائعة ؛ وكثيراً ما يصبح الكسل هو سيد الموقف,وتنخفض درجة الإنتاجية إلى أدنى مستوى لها . بل إن الذين لا يخططون لشؤونهم يخطط لهم غيرهم , أي يجدون أنفسهم ضمن تأثير خطط الآخرين , فيستغَلّون أسوأ استغلال , ويكون كثير من جهدهم مسخراً لمصلحة غيرهم.
2- من فوائد التخطيط أنه يساعد الإنسان على الخروج من الظروف الصعبة التي يحيا فيها؛ إذ من الملاحظ أن إمكانات معظم الناس تُهدر ,وإيراداتهم تصاب بالشلل نتيجة الأوضاع السيئة والقاهرة التي يعيشون فيها.وبالتخطيط وحده يمكن النجاة من ذلك ,حيث إن من شأن أي خطة المساعدة على البحث في تأمين الموارد المطلوبة لإنجاز الأهداف , التي يراد الوصول إليها , ومجرد البحث في الموارد يولد وعياً بالإمكانات الكامنة ,ويدفع إلى البحث عن طرق لاستغلالها . كما أن من شأن التخطيط أن يعلمنا كيف نجعل من الأعمال الصغيرة أعمالاً تراكمية , تصب في خط واحد , مما يجعلنا نشعر بالتقدم والتحسن. وهذا كله يشكل كسراً لقيود الظروف الصعبة , ويساعدنا على تجاوزها على نحوٍ ما.
3- الناس ذوو الإنجاز العالي لديهم ما يشبه الهوس بهدف معين ,وقد لا حظ أحد الباحثين أن الإنسان بمجرد أن يحدد هدفاً واضحاً لنفسه ,تقفز إمكاناته قفز إلى الأعلى ,ويزداد نشاطه ,ويتيقظ عقلة ,وتتحرك دافعيته ,وتتولد لديه الأفكار التي تخدم أغراضه . وقد أجرت جامعة (بيل) في الولايات المتحدة الأمريكية دراسة على مجموعة من الطلاب , وقد تبين من تلك الدراسة أن 3% منهم لهم أهداف واضحة , وأن 1% فقط قد كتبوا أهدافهم . وقد أعيدت تلك الدراسة بعد عشرين سنة على المجموعة نفسها, فتبين أن الثلاثة في المئة الذين حددوا أهدافهم ,قد حققوا إنجازات في حياتهم العملية بمقدار ما حققه السبعة والستون ! ولا أستغرب مثل هذه النتيجة , فالمتميزون دائماً قلة قليلة , والمتميزون جداً نادرون جداً.
4- لا ينبغي أن يظن أن كل من خطط لحياته فاز وأفلح ,وحق ما يجب أن يحققه ؛ إذ إنك تلقى الكثيرين ممن يحسبون كل خطوة ,لكنهم مع ذلك مصابون بقصر النظر ,وغارقون في الأوهام إلى آذانهم .خذ مثلاً بعض أهل الثروات الذين يذرعون العالم شرقاً وغرباً بحثاً عن المزيد من الثروات , تحدوهم آمال عريضة بأن يكشفوا المزيد من لذة تكديس الأموال والاستمتاع بها. وكثيراً ما يكون ذلك على حساب دينهم وأسرهم وعلاقاتهم . ولو أن الإنسان تأمل فيما جناه الكبار من الأثرياء , وكيف أن كل محاولاتهم كانت كمحاولات من يريد إمساك ظله , أو القبض على السراب , لأعاد النظر في كثير من أعماله.
ولهذا كله لابد للمرء من أن ينظر بعين البصيرة إلى النهايات التي يمكن أن يصير إليها , وإلى الثمن الذي سيدفعه لتحقيق طموحات لا تعرف الوقوف عند أي حد . ويجب أن يكون واضحاً أن كل الأهداف التي سنحققها في هذه الدنيا مهما عظمت فإنها ستظل صغيرة ؛ لأن الاستمتاع بها سيظل مؤقتاً ومحدوداً ؛ ولهذا فالحري بنا أن نتجاوز هذه العقبة , وذلك لن يكون إلا إذا جعلنا أهدافنا وطموحاتنا وتطلعاتنا الدنيوية مرتبطة على نحوٍ ما بالفوز بكرامة الله – تعالى – في الآخرة ؛ وذلك من خلال قصد الاستعانة بما نحوزه على تقوى الله ونفع العباد ؛ ومن خلال الحرص الشديد على أن يكون نشاطنا كله في دائرة المباح , وفي إطار التوازن بين حاجاتنا اليومية وحقوق الآخرين علينا , وبين ما نسعى إلى تحقيقه في المستقبل.
5- الهدف هو الحصيلة التي يرمى المخطط إلى الوصول إليها.وإذ نظرنا في حياة الناس وجدنا أنها مليئة بالأهداف من كل الأشكال ,لكن بعضها عبارة عن أمنيات وأحلام ليس لها أي خطة يمكن أن تحققها .وبعضها من التفاهة بحيث لا يستقر الطاقات الكامنة , ولا يستحق أي تضحية . ولذا فإن الهدف الذي نتحدث عنه هو هدف من نوع خاص , وله مواصفات خاصة , أهمها:
أ-الإيمان بالهدف والاقتناع بضرورة تحققه ، أول شرط من شروط وجود هدف جيد .وكلما كان الهدف مرتبطاً بفكرة سامية ، أو كان مشبعاً لحاجة ضرورية ، زادت درجة الاقتناع به .
ب-وضوح الهدف وتشخيصه في مفردات محددة مهم لإنجازه .وينبغي أن نصوغ أهدافنا في عبارات واضحة وسهلة وصريحة .وينبغي أن نستخدم فيها لغة الأرقام كلما كان ذلك ممكناً .
جـ-لا بد أن يكون الهدف ممكن التحقيق ؛ لأنه يقع ضمن نطاق الإمكانات الذاتية لمنفِّذيه ، وضمن الإمكانات والموارد المتوقعة .إنه هدف يتحدى لكنه لا يعجز ، إنه ليس في متناول اليد ، لكنه ممكن التحقيق .ولا بد أن يكون الهدف مقبولاً اجتماعياً ومنطقياً في زمانه ومكانه وظروف تحقيقه .
وإنما يتأتى له ذلك إذا كان منسجماً مع الخبرة التخصصية المتراكمية في مجاله ؛ فنجاح مطعم ضخم وراق في صحراء ، ونجاح مصنع سفن في بلد ليس فيه بحار ولا أنهار ، غير متقبل في الخبرة التجارية والصناعية السائدة .
د-لا بد للهدف أن يكون منسجماً مع المثل والقيم والنظم التي يؤمن بها العاملون على تنفيذ الهدف . وما لم يتوفر هذا الشرط فسيجد المرء نفسه ممزقاً بين الانسجام مع قيمه ، وبين التفاعل مع أمور لا يرضاها ولا يؤمن بها ؛ ولهذا فالذي يسعى إلى احتلال منصب – مثلاً – من أجل تحقيق نفوذ شخصي ، أو استخدام المنصب لمنافع خاصة ، يخوض حرباً ضروساً في داخله ، ويشقى بسوء نيته ، ويتخبط في سلوكه دون أن يعرف العلة الكامنة وراء كل ذلك .