Advanced Search

عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - نبيل حاجي نائف

صفحات: [1] 2 3 4
1
الموروث البيولوجي و الموروث الاجتماعي

لقد كان دوماً يحدث جدل عن أيهما أكثر تأثيراً على كيفية تصرف الإنسان ,  الوراثة , أم المكتسب ( البيئة والمجتمع ) , وكذلك كان هناك جدل عن أيهما أقوى تأثيراً , التصرفات الغريزية والانفعالية والعاطفية , أم التفكير والمعرفة المكتسبة نتيجة التربية والتعلم والحياة الاجتماعية .
فالوراثة أو الموروث البيولوجي . وما يكتسب نتيجة الحياة الاجتماعية , هما ما يقرر تصرفات الإنسان وبالتالي منحى تطوره . يمكننا تشبيه الموروث البيولوجي بالهاردوير ( البنية المادية ) في الكومبيوتر , والموروث الاجتماعي أو ما يكتسبه ويتعلمه الإنسان نتيجة الحياة والظروف الاجتماعية , يمكن تشبيهه بالسوفتوير أي البرامج المكتسبة , وهناك تشابه كبير بين الأفراد من ناحية الهاردوير ( بنيتهم ) أو الموروث البيولوجي , ولكن ما يكتسبه الإنسان أثناء حياته وبشكل خاص حياته الاجتماعية( السوفتوير أو البرامج ) يمكن أن يختلف بشكل كبير , نتيجة الأوضاع المادية والاجتماعية التي عاش ضمنها الإنسان .  
فالموروث البيولوجي نشأ وترسخ في بنية الكائن الحي نتيجة ظروف وأوضاع الحياة الطويلة , والتكيف معها نتيجة الانتخاب الطبيعي والتطور . ويمكننا تعداد الكثير من الموروث البيولوجي . وغالباً يصعب تغيير أو تعديل هذا الموروث أثناء الحياة , وضمن حدود معينة .
فالموروث البيولوجي يشمل خصائص وطبيعة الإنسان الفزيولوجية والجسمية , وأهمها الغرائز و الدوافع , و الانفعالات , وقدراته الفكرية , وكافة قدراته الجسمية , فهو يرثها من آبائه .
فكل إنسان يملك دوافع كثيرة عند ولادته , دوافع فزيولوجية وعصبية موروثة وهي التي تنتج الغرائز أو العكس , وأيضاً تنشأ لديه كثير من الدوافع أثناء حياته . والدوافع التي تكون لديه عند ولادته " الموروثة بيولوجياً "هي طرف سلسلة من دوافع ( أو قوى فيزيائية و فزيولوجية ) موجودة قبل تكوّنه ، وبالتالي هي موجودة قبل إحساسه أو وعيه بها . فهناك دوافع أساسية نحو أهداف معينة مسبقاً , موجودة لدى الإنسان عند ولادته ، فالأهداف والدوافع  له محددة مسبقاً , فهو يسعى نحو ثدي أمه دون أن يؤثر فيه أو يثيره هذا الثدي أولاً ، أي هو مبرمج مسبقاً على البحث والسعي نحو هدف معين محتمل وجوده . فهناك الكثير جداً من هذه الدوافع المعينة مسبقاً لدى الإنسان ، وآليات تكونها تكون موجودة فزيولوجياً ( أي موروثة بيولوجياً ) وهذه الدوافع والأهداف تكوّنت نتيجة تطوره .
والدوافع البيولوجية لدى البشر تتشابه بصورة كبيرة ، فالدوافع الموروثة , فيزيولوجياً , وعصبياً , تتشابه بينهم , أو تتطابق ، وكذلك تتطابق الأحاسيس الأولية الأساسية بين كافة الناس ، وتتطابق بشكل أقل المشاعر والادراكات والواعية . وهناك تشابهات كبيرة بين ( أنا أو ذات ) لكل منا , تمكننا من استعمال نفس الأحكام على دوافعنا . فهناك تشابهات كثيرة تسمح بالتعميم ، مع وجود اختلافات بين كل أنا وأخرى ، فالصفعة على الوجه هي مؤلمة لدى غالبية الناس . وكذلك تتشابه الحواس وآليات الإحساس والانفعال وهذا التشابه هو الذي يسمح بالتواصل بين البشر, بكافة أشكاله ، ولولا هذا التشابه وخاصة في الأحاسيس لما أمكن قيام أي تواصل بين إنسانين . فالوعي والأحاسيس والمشاعر المتشابهة هم الأساس لقيام التواصل بينا ، وبالتالي هم  سمحوا بنشوء اللغة والثقافة والعلم .

أما الموروث الاجتماعي فهو ينشأ أو يتشكل ويترسخ لدى الكائنات الحية التي تعيش جماعات , فالحياة الاجتماعية تفرض تأثيراتها على الأفراد ويحدث تكيف لهم معها . وكان قبل ذلك حدث تطور من كائنات وحيدة الخلية إلى كائنات متعددة الخلايا نتيجة اجتماع ومشاركة عدة خلايا حية متكيفة مع بعضها , وتشكيلها كائن حي واحد .
وبالنسبة لنا نحن البشر بعد أن أصبحنا نعيش أجيال طويلة ضمن مجتمعات صار تأثر الحياة الاجتماعية علينا أوما نرثه أو ينتقل إلينا ويقرر الكثير من تصرفاتنا , أوسع وأهم من الموروث البيولوجي , فهو الذي يشكل لدينا اللغة والعادات والتقاليد والعقائد والقيم والأخلاق والثقافة . . .  وهذا يكون مختلف من مجتمع لآخر حسب أوضاع وظروف كل مجتمع .
وهذا الموروث الاجتماعي يتطور حسب الظروف والأوضاع كل مجتمع ( ضمن حدود وجالات معينة ) . فتغيير أو تعديل الموروث الاجتماعي غالباً أسهل من تغيير أو تعديل الموروث البيولوجي .
ونحن نلاحظ الآن أن تأثير الموروث الاجتماعي هو الأكبر تأثيراً في حياة البشر من الموروث البيولوجي , وهو يظهر الفروق  الاقتصادية والحضارية والثقافية والاجتماعية بينهم . فالموروث الاجتماعي الذي نرثه أو ينتقل إلينا من المجتمع الموجودين فيه هو الأكبر تأثيراً , أي أصبح الموروث الاجتماعي هو المتحكم الأكبر في تطور وارتقاء الأفراد .
لقد نشأت لدينا دوافع كثيرة نتيجة الحياة الاجتماعية , فالإنسان في الوقت الحاضر يكتسب دوافع كثيرة جديدة باستمرار نتيجة حياته الاجتماعية ، فلم تعد دوافع الحياة الأساسية الموروثة هي فقط المسيطرة والمتحكمة بتصرفاته . فلقد أوجد بعض الناس دوافع قويةً جداً ويمكن أن تتعارض مع دوافع الحياة الأساسية , مثل الدافع لتعاطي المخدرات . ., وجميع هذه الدوافع مهما كانت طبيعتها وقوتها إذا كانت لا تتفق مع دوافع الحياة ودوافع المجتمع فإنها سوف تقاوم أو تعدل لتتفق مع دوافع الحياة ودوافع المجتمع .
والأديان والأخلاق, والقوانين . .  هي دوافع تسعى لخدمة بنية المجتمع ، ويجب أن تتفق مع دوافع الإنسان أيضاً ، فإذا أردنا المحافظة على بنية المجتمع وبنية الإنسان يجب أن نلبي دوافعهم الأساسية التي تمكنهم من الاستمرار و النمو و التطور.
أهم الدوافع الموروثة اجتماعياً
 دافع الإنجاز ، وهو يغطي مجالاً واسعاً من السلوكيات الموجهة نحو تحقيق هدف .
دافع الانتماء - أو العنصرية -.
دافع المنافسة والتفوق على الآخرين وتحقيق المكانة العالية.
دوافع اجتماعية متنوعة , وهي نتيجة العلاقات الاجتماعية
دوافع فكرية، وهي دوافع عصبية ونفسية متطورة نتيجة المجتمع والثقافة .
وأيضاً تطورت ونشأت لدينا نتيجة حياتنا الاجتماعية انفعالات جديدة وهي خاصة بنا, فهي تكونت نتيجة العلاقات الاجتماعية , و الحضارة والثقافة والعقائد..., وقد نشأت وتطورت أنواع كثيرة من الانفعالات نتيجة لذلك . والانفعالات دوماً تكون مترافقة مع أحاسيس خاصة بها , وهناك انفعالات إخبارية مثل الدهشة والتعجب والترقب والضحك, وهناك انفعالات مثل الحب والحنان والصداقة, والزهو, الغيرة, الحسد , والكراهية....., وكل هذه الانفعالات ترافقها أحاسيس معينة خاصة بكل منها.

و يساهم بشكل كبير التقليد والمحاكاة , وهما من الموروثات البيولوجية , في نشوء الموروث الاجتماعي , فهذه تجربة توضح ذلك :
قام مجموعة من العلماء بالتجربة التالية :
و ضعوا 5 قرود في قفص , و في وسط القفص يوجد سلم و في أعلى السلم هناك موز . عندها يسرع أحد القرود للصعود السلم لأخذ الموز , فيقوم برش جميع القرود بالماء البارد المزعج , فيسرعوا القرود الباقية للقرد الصاعد بإنزاله وضربه ومنعه من الوصول إلى الموز . وصار كل قرد يحاول الصعود لأخذ الموز, يقوم الباقين بمنعه و ضربه حتى لا يرنشون بالماء البارد .
بعد مدة من الوقت لم يجرؤ أي قرد على صعود السلم لأخذ الموز على الرغم من كل الأغراءات , خوفا من الضرب .
بعدها قام العلماء بتبديل أحد القرود الخمسة و يضعوا مكانه قرد جديد , فكان أول شيئ يقوم به القرد الجديد أنه يصعد السلم ليأخذ الموز , ولكن فورا الأربعة الباقين يضربونه و يجبرونه على النزول . بعد عدة مرات من الضرب يفهم القرد الجديد بأن عليه أن لا يصعد السلم مع أنه لا يدري ما السبب . لأنه لا يحدث رش بالماء البارد
ثم يقوم العلماء بتبديل أحد القرود القدامى بقرد جديد يحل محله , وعندما  قام هذا القرد الجديد بالصعود لأخذ الموز قام البقية جميعهم بضربه , أي قام القرد المبدل بالمشاركة بالضرب . واستمر تبديل القرود بقرود جديدة حتى أصبحوا جميعهم جدد لم يرش عليهم الماء البارد , ومع ذلك يضربون أي قرد تسول له نفسه صعود السلم للوصول للموز . أي بدون أن يعرفوا ما السبب وأنما محاكاة وتقليد .
ماذا نستنتج من ذلك :
إن أهم عوامل اكتساب التصرفات والعادات الاجتماعية يتم بالعتماد على المحاكاة والتقليد , فهناك دوافع أساسية لكي يقلد ويحاكي الكائن الحي أفراد بني جنسه , صحيح أن هناك سلبيات للتقليد والمحاكاة , ولكنها أقل بكثير من فوائدهم وميزاتهم .
أول هذه الفوائد هو الأمان , وذلك بالسير على طريقة ونهج من سبقوه الذي ظهر جدواه .
العامل الثاني هو الامتثال الجماعي , فهو بحاجة إلى أن يحظى بقبول الآخرين . وللامتثال الجماعي جذور بيولوجية عميقة
العامل الثالث للتقليد هو الاعتقاد بأن الآخر قام باتخاذ القرار ويقوم بالعمل الصحيح , وفي عالم يغلفه التعقيد يفضل التنازل عن  مسؤولية اتخاذ القرار . وللتقليد مزاياه الخاصة , إنه يقدم الأساس للعملية التعليمية ويعزز من لحمة الجماعة .
إن الإنسان الأكثر تقليدا بين الكائنات الحية , إن التقليد والمحاكاة في حياتنا أكبر مما نتصور , فكما تكتسب اللغة بالمحاكاة والتقليد , كذلك تكتسب أيضاً بالتقليد والمحاكاة أغلب تصرفاتنا وعاداتنا وأفكارنا وعقائدنا . فالمحاكاة تشمل كافة مناحي عمل فكرنا الواعي  وغير الواعي , فانتشار العادات والتقليد والعقائد والأديان... وحدوث ما يشبه توارثها ناشئ عن المحاكاة والتقليد والنسخ. المحاكاة والتقليد والنسخ في المجالات الهامة والضرورية .
إن النمو الشد يد للمحاكاة عند الإنسان هو نتيجة تطور قامت خلاله عملية الانتقاء باختيار فاعلية هذه الصيرورة وقيمة بقائها , وذلك من خلال النشاط الملموس المهيأ من قبل التجربة الخيالية .. إنها إذاً القدرة على التصور الملائم وعلى التكهن الصحيح المؤيد بالتجربة الملموسة .
أما عند الإنسان الآن فالمحاكاة الذاتية تصبح بالدرجة الأولى الوظيفة العليا وظيفة الخلق , إنها هي التي تنعكس بالواقع الرمزي للغة والتي يعبر عنها بنقل عملياتها واختصارها . من هذا الواقع الذي ركز عليه شومسكي في أن اللغة حتى في استعمالاتها المتواضعة هي في الغالب محدودة , وذلك أنها تنقل تجربة ذاتية واختلاقاً خاصاً وجديداً بشكل دائم . بهذا أيضاً تختلف اللغة البشرية جذرياً عن الاتصال الحيواني , فهذا الأخير يقتصر على صرخات أو تنبيهات تقابل عدداً معيناً من الأوضاع المحسوسة المقبولة , فأشد الحيوانات ذكاء أي القادر على المحاكاة الذاتية على شيء من الدقة لا يملك أية طريقة لتحرير وعيه سوى الإشارة بشكل دائم في الاتجاه الذي تتحرك مخيلته , أما الإنسان فإنه يستطيع الحديث عن تجاربه الذاتية , وهكذا فإن التجربة الجديدة أي اللقاء الخلاق لا يند ثر مع ذلك الذي اختلقه للمرة الأولى .

فنحن كبشر نعتمد على ما هو منتشر بيننا كأساس فيما نتبنى من أفكار وعادات وقيم ومعارف , ونقاوم كل ما يستدعي تغيير ما تبنيناه , فالمحافظة وممانعة تغيير مبادئنا وأفكارنا هما أساس تصرفاتنا , ولا نقوم بتعديل أو تبديل أي منها إلا بصعوبة وببطء وبالتدريج ونادراً ما نتقبل التغير السريع , وهذه الممانعة أو العطالة لها ما يبررها ويستدعيها في الواقع .
كلنا مقلدون وكلنا محافظون نقاوم التغيير , إننا في كل أسس تفكيرنا وتعاملنا مع الأفكار نستعمل مناهج وآليات محددة اكتسبناها وتعودنا عليها , ويصعب علينا تغييرها حتى وإن كنا مقتنعين بأفضلية وضرورة هذا التغيير , فهذا التغيير يكون صعباً علينا , وكثيرا ًما نلجأ لتبرير ذلك بشتى الطرق المنطقية وغير المنطقية , والموضوعية وغير الموضوعية .
إن هذه الصعوبة لها أسسها في بنية جهازنا العصبي , وفي آلية عمله , ونموه وتناميه , فكل تعلم يتم نتيجة اشراطات أو ترابطات عصبية معينة جديدة , وأي إلغاء أو تعديل لهذه الاشراطات التي تم اكتسابها (بناؤها) غير ممكن إلا بتعلم اشراط جديد فوق الاشراطات السابقة , ويكون هذا على شكل نمو محاور ومشابك للخلايا العصبية وبالإضافة لآليات أخرى كهربائية و كيميائية مساعدة , وأي محاولة تعلم جديدة , في نفس المجال , سوف تصطدم بما هو موجود سابقاً . و لا يمكن إلغاء المحاور أو المشابك العصبية التي تم بناؤها ويجب البناء فوقها . فتعديل الأفكار والعادات التي تم اكتسابها وخاصةً إذا كان التعلم قوي وثابت , لا يمكن أن يحدث بسهولة مثلما يحدث هدم بناء قديم وإقامة بناء حديث مكانه , إن كل ما يتم اكتسابه وتعلمه لا يمكن إزالته نهائياً فسوف يبقى ويجري التعديل عليه فقط , ضمن حدود معينة , أو يبنى فوقه .
فتعلم طريقة تصرف أو تفكير جديدة صعب ولكن ليس مستحيلاً , فهو يحتاج إلى مجهود وممارسة أكثر من التعلم الأولي الذي تم بناؤه عندما كان الدماغ شاغراً . فتعلم اللغة الثانية بعد اللغة الأم صعب ويحتاج لمجهود مضاعف وممارسة مضاعفة , ولكن تعلم اللغة الثالثة والرابعة أقل صعوبة بكثير , وذلك نتيجة الاستفادة من الطرق والآليات المتشابهة بين اللغات , والتي يكون المتعلم قد تعلمها واكتسب مهارة في التعامل معها نتيجة تعلمه اللغة الثانية .

إن هذا يحدث شبيه له في المجتمعات أثناء تطورها وتغيرها , وتشكل البنيات الاجتماعية الجديدة , فالتغيير الجذري ليس بالأمر السهل وهو قليل جداً , فهو لا يحدث إلا بالتسلسل وأثناء النمو ونتيجة التغير التدريجي للأوضاع , وفي كل جيل جديد هناك إمكانية متاحة للتغيير في العادات والأفكار, ويمكن أحياناً أن تحدث تغيرات سريعة في البنيات الاجتماعية , ولكن ضمن حدود معينة تسمح بها الأوضاع .
أما في التغير الجذري أو السريع للبنيات الصناعية والتكنولوجية والعمرانية فيكون أسهل بكثير , ويمكن أن يحدث بسهولة في هذه المجالات .
إذاً في المجال العصبي والفكري والنفسي وكذلك الاجتماعي لا يمكن إزالة القديم وإحلال الحديث محله , فالتغيير يجب أن يتم مع بقاء القديم , وذلك إما بالإضافة عليه أو تعديله بما يسمح الوضع .
  
فالآن لم يعد تطور وارتقاء أفراد النوع الإنساني بيولوجياً فقط , لقد أصبح تطورهم وارتقاؤهم  مرتبط بما نشأ من بنيات اجتماعية واقتصادية وتكنولوجية في المجتمع الموجودين فيه . فلقد أصبح الإنسان الفرد جزء من بنية اجتماعية تتطور وتنمو , وارتبط تطوره وارتقاؤه بطبيعة وخصائص البنيات الاجتماعية الموجود ضمنها , وأصبح لهذه البنيات الاجتماعية وخصائصها ومدى تطورها التأثير الأكبر على تطور الإنسان .
فأي فرد مهما كانت خصائصه البيولوجية جيدة ( الذكاء والنشاط والفاعلية ...) إذا عاش في مجتمع متخلف لا يمكن أن تنمو وتتطور قدراته ويحقق نتائج جيدة , كما لو عاش في مجتمع متطور يستطيع توظيف وتنميه قدرات هذا الفرد ليحقق نتائج جيدة . وهناك الكثير من الدلائل التي تثبت ذلك . . فتخلف أنظمة وثقافة وحضارة الدول أو تقدمها , له التأثير الأهم على تطور وارتقاء أفرادها .

2
التفكير بالتفكير
المقصود بالتفكير بالتفكير هو رصد أفكارنا والتفكير فيها أي التفكير بأفكار مرمزة بكلمات ( وفي الأساس التفكير يشبه التذكر ويعتمد عليه , فالتفكير هو شكل من التذكر مع حدوث استجابات فكرية متسلسلة في نفس الوقت ) , ولا يمكننا فعل ذلك إذا لم تمثل هذه الأفكار ببنيات فكرية ( أي أفكار ) يجري استدعاؤها من الذكرة والتفكير فيها ( يمكن العودة لمقال . الدماغ " لدينا " كيف يفكر . ) , فنحن نستطيع رصد أحاسيسنا أثناء حدوثها أو استدعاء صور لها من الذاكرة بعد حدوثها , أي نستطيع التفكير بها أكان أثناء حدوثها , أوعند استدعاء صور أو تسجيلات لها من الذاكرة .
نحن نستطيع تمثيل أي شيء بكلمة ترمز إليه , فنحن نستطيع بواسطة اللغة تمثيل أي شيء بكلمات حتى العواطف المفاهيم المعقدة مثل العدالة والأخلاق . . . الخ  . ونحن في تواصلنا وتعاملاتنا مع بعضنا نعتمد بشكل أساسي على الكلمات وهي رموزالأفكار أي نتعامل بالأفكار.
إن الكثير من الكائنات الحية تفكر بأحاسيسها بشكل متطور , فهي تعالج المدخلات الحسية وتقوم بالاستجابات المناسب لها , وكذلك تقيمها وتصنفها وتضعها في ذاكرتها , وتتعلم الكثير من الأمور , ولكنها لا تستطيع أن تعالج أفكار تمثل الأحاسيس أو الأشياء , فليس لديها لغة مثلنا يمثل فيها كل شيء , تمكنها من ذلك . لقد راى البعض أن التفكير من دون لغة صعب أو غير ممكن , عندما أخذ طريقة تفكيرنا المتطورة فقط كمثال للتفكير .
يمكن اعتبار التفكير بالأحاسيس التي تستدعى من الذكرة هو شكل أولي من التفكير بالتفكير , و بنشوء اللغة المحكية لدينا تطور التفكير بالأحاسيس ليصبح تفكير بكلمات ترمز للأشياء وغالبية الأمور حياتنا , وكان تأثيرالحياة الاجتماعية ونشوء اللغة المكتوبة ونشوء الثقافة وتطورها , هو الذي سمح لقدرتنا على التفكير بالأفكار وجعلها متطورة بهذا الشكل .
فالذي سمح لنا أن نفكر في تفكيرنا هو اللغة بالإضافة للحياة الاجتماعية التي أنشأت الثقافة , ولولا اللغة لما كنا نستطيع أن نفكر في تفكيرنا وتميزنا عن باقي الكائنات الحيّة في طريقة وأسلوب تفكيرنا .
إذاً أهم العوامل التي سمحت لنا التفكير بالأفكار هو امتلاكنا للغة محكية ومن ثم مكتوبة متطورة .  طبعا بالإضافة لوجود : الذاكرة اللغوية المتطورة - وإمكانية نسخ الأفكار أو تذكرها - والتراسل بين فصي الدماغ - واستعمالنا التغذية العكسية أو جدل الأفكار -  فهم عوامل أساسية أيضاً .
إن استدعاء فكرة ( أو إحساس ) لإعادة معالجتها هو الذي يسمح بالتفكير بالأفكار . وأيضاً رصد أفكار الآخرين والتفكير فيه هو بمثابة تفكير بتفكيرهم , وهذا ما أدي إلى تطور وتوسع قرات ومجالات التفكير بالتفكير .
فللغة دور أساسي وهام في نشوء قدرتنا على التفكير بالتفكير , ويمكن اعتبار تصور كيفية حدوثه هو بمثابة تفكير بالتفكير , وأن الجدل الفكري الذاتي هو تفكير بالتفكير . والتفكير بالتفكير هو الذي وسع وعينا وميزنا عن باقي الكائنات الحية المتطور والتي تفكر بطريق جيدة  ولكنها لا تملك لغة متطورة , لذلك لا تستطيع التفكير مثلنا .
سؤال : ما هو الفرق بين الأحاسيس المباشرة وتذكر هذه الأحاسيس ؟
أولاً تنظر إلى الشجرة وتحس تأثيراتها شكلها وأوانها ورائحتها . . الخ .
بعد أن تغادر الشجر تستعيد أو تتذكر تلك الشجرة وما أحدثت فيك من أحاسيس وتأثيرات .
ماهو الفرق بين هتين الحالتين , الإحساس المباشر من جهة , وتذكر هذا الإحساس بعد حدوثه من جهة أخرى , أي إعادة أضرام الشعور بالأحاسيس السابقة .
ما الفرق بين تناول الطعام وما يحدثة من أحاسيس , وتصور أو تذكر أو التفكير في تناول الطعام وما يحدثه من أحاسيس . ممارسة الحب , وتصور أو التفكير في مما رسة الحب .
عيش المشكلة أو المصيبة , وتصور أو التفكير في المشكلة أوالمصيبة . عيش التفوق والنجاخ , وتصور الفوز والنجاح . عيش الآلام والأوجاع , تصور الآلام والأوجاع . ما الفرق بين زيارة بلد والسياحة فيها , وبين مشاهدة ذلك في السنما أو التلفزيون , أو تذكر زيارة سابقة وما جرى فيها . ما الفرق بين سماع لحن أو أغنية , وبين تذكر أو تصور سماع لحن أو أغنية . ما هي خصائص كل من هذين الوضعين , أيهما أشد تأثراً أو أشد قوة ؟ وأيهما أجمل وأحلى ؟  
فأنا عندما أقرر الذهاب في رحلة , أمر بتصورات لأحاسيس وانفعالات كثيرة قبل حدوث الرحلة , وهذه تؤثر على أحاسيسي عند حدوث الرحلة فعلاً وتتفاعل معها . هل الترقب والتوقع لأحاسيس معينة ثم حدوثها , هل يزيد أو ينقص من تأثيرها ؟ وهل يغير من تأثيراتها ؟ الظاهر نعم يغير .
فنحن البشر نتيجة اللغة والتواصل والعلاقات الاجتماعية والثقافة , أصبحت غالبية التأثيرات علينا تتأثر بما يخزن في ذاكرتنا من أحاسيس وأفكار وعواطف وانفعالات وإيحاءات وتوقع وترقب وآمال , وصارت تلك التأثيرات تفوق كثيراً تأثيرات الأحاسيس المباشرة . مع أن في بداية حياتنا تكون الأحاسيس المباشرة هي المؤثرة فقط , وبالتدريج يتم تسجيل القوي والهام في ذاكرتنا , وصبح مصدر تأثير إضافي عن حدوث وا يستدعي تذكره ودخوله ساحة شعورنا .
أن برمجة الاستجابات وبالتالي التصرفات , والتعلم نتيجة الحياة , هو ناتج ترابط الأحاسيس ( الممتعة ) أو ( المؤلمة ) في الذاكرة مع الأفكار . ويجري تصنيف الأحاسيس إلى ممتعة – مؤلمة – محايدة , واعتماد هذا التصنيف بشكل أساسية في تقييم الحوادث والأوضاع , وتجرى تعديلات عليه عندما تستدعي الأمور ذلك .
فتأثير الأحاسيس الممتعة أو المؤلمة التي تسجل في الذاكرة . والتي نتجت عن الاستجابات والتصرفات المجدية بالنسبة للأحاسيس الممتعة , والتي هي بمثابة مكافأة . والمؤلمة بالنسبة للتصرفات الفاشلة أو المعيقة لتحقيق دوافع وحاجات الكائن الحي , والتي هي بمثابة عقوبة . هي التي توجه بشكل أساسي غالبية تصرفات الكائن الحي , وبالنسبة لنا تشكل أفكارنا , فهذا التربط هو أساس برمجة التصرفات والتعلم . ثم يحدث ترسيخ لهذه التعلم نتيجة الممارسة المتكررة لهذه الاستجابات والتصرفات .
فالثقافة والأدب وكافة العلاقات البشرية تستخدم أو تعتمد بشكل أساسي على التفكير بالأفكار .
 
علاقة التفكير بالأفكار بظهور الوعي الراقي المتطور لدينا . عندما قال ديكارت : " أنا أفكر إذاً أنا موجود " فهو كان يفكر بالتفكير وبشكل متطور يعتمد على ثقافة متطورة , وهذا لا يستطيعة أي كائن حي غير الإنسان الذي يملك ثقافة متطورة , فهذا الإنسان يكون مدرك وواعي لأبعاد الوجود وأبعاد " أناه أو ذاته " .
إن " أنا أفكر " تتضمن التفكير في الفكير أو رصد التفكير , لأنّ الأنا التي هي ناتج تفكير يرصد التفكير وتفكر فيه , أي تفكر بالتفكير . فنحن الوحيدين من بين الكائنات الحية الذين يمكننا أن نفكر في تفكيرنا ونرصده . لذلك مفهوم " الأنا " و إدراك الذات والوعي المميز والواضح لها , غير موجود لدى كافة الكائنات الحية , ربما ينشأ وعي بسيط لذاتها عندما يربها الأنسان فترة طويلة ويتعامل معها باللغة , فيعطيها أوامر ويتلقى منها أوامر , وتشكل رفقة وصداقة معه .
ملاحظة على نشوء الأفكار
تنشأ الأفكار نتيجة تيارات كهربائية ومجلالات كهرطيسية تجري في الدماغ . وخصائص الأفكار وتأثيراتها وقواها , هي ناتجة عن خصائص التيارات الكهربائية والمجالات الكهرطيسية , وتأثير الأفكارعلى المادة وقواها الفيزيائية هي ناتجة عن هذه الخصائص , بالإضافة إلى الخصائص الأفكار الكثيرة التي ذكرنا أهمها , فقوى الفكر التي أدهشت الإنسان هي ناتجة عن استخدام خصائص الكهرباء , وهذه القوى يعتبرها الكثيرون قوى غير مادية , ولكن الآن ونتيجة تطور الفيزياء وباقي العلوم تعتبر المادة والكهرباء والمجالات الكهراطيسية ذات أصول واحدة ويمكن أن تتحول إلى بعضها البعض الأخر .

3
إن أكثر أجزاء الدماغ بدائية هو جذع الدماغ المحيط بقمة الحبل الشوكي , وهذا الجزء القاعدي من المخ ينظم وظائف الحياة الأساسية كالتنفس والتمثيل الغذائي لأعضاء الجسم الأخرى كما يتحكم في ردود الفعل والحركات النمطية وهذا الدماغ لا يمكن أن يفكر أو أن يتعلم فهو ليس أكثر من مجموعة أدوات تنظيمية مبرمجة تحافظ على استمرارية قيام الجسم بوظائفه الإحيائية والاستجابة بطريقة تضمن البقاء. وإن هذا الدماغ هو الذي كان سائدا في عصر الزواحف .
وخلال التطور نشأت مراكز المشاعر من جذع الدماغ ثم نشأ العقل المفكر ومن ثم القشرة الدماغية الجديدة . ونشوء العقل المفكر من العقل الإنفعالي يكشف عن العلاقة بين الفكر والمشاعر, فقد كان وجود العقل الإنفعالي موجودا في المخ قبل وجود العقل المنطقي بزمان طويل.
إن أقدم أصل لحياتنا الإنفعالية هو حاسة الشم, فهي الخلايا التي تستقبل وتحلل الرائحة في الفص الشمي من المخ فكل كيان كان سواء أكان مفيدا أم ضارا , رفيقا جنسيا أم عدوا , مفترسا أم فريسة فإن هذا الكيان له بصمة جزيئية مميزة بوسعها الإنتشار في الهواء وعليه فقد كان الشم حاسة في غاية الأهمية للمحافظة على البقاء.
وقد بدأت المراكز الإنفعالية القديمة في التطور من الفص الشمي في الدماغ إلى أن كبر حجمها بالشكل الكافي حتى أحاطت حول مقدمة جذع الدماغ .
وكان المركز الشمي في المرحلة البدائية يتكون من خلايا عصبية على شكل طبقات رقيقة متجمعة وظيفتها تحليل الرائحة من الخلايا التي شمتها ثم تصنفها وترسلها إلى مجموعة الخلايا المتصلة بها والتي تحدد ما هو صالح للأكل أو غير ذلك أو أنه فريسة أو مفترسة أو ممكن التعامل معه جنسيا أو معاد ثم ترسل طبقة أخرى من الخلايا رسائل عاكسة عبر الجهاز العصبي تبلغ الجسم ما يجب عليه أن يفعله بإزاء هذا الآخر, هل يقضمه أم يبصقه أم يقترب أم يبتعد أم يطارده.
وقد نشأت الطبقات الرئيسية للعقل الشعوري الإنفعالي مع ظهور الثدييات وهي الطبقات المتحلقة حول جذع الدماغ وتشبه عمامة صغيرة بداخلها تجويف يستقر به جذع الدماغ ولأن هذا الجزء يلتف ويحيط بجذع الدماغ فقد أطلق عليه ( الجهاز الحوفي ) وهو مشتق من اللاتينية من والتي تعني دائرة , وقد أضاف هذا الجهاز إلى قدرات وأعمال المخ  اللذة والألم والعواطف والانفعالات , فالجهاز الحوفي هو المتحكم الأكبر بنا .
فمنذ حوالي مائة مليون عام تعاظم حجم المخ في الثدييات وتكونت طبقات عدة جديدة من خلايا المخ , وهي المناطق التي تتمثل ما يـأتي عن طريق الحس وتفهمه وتنسق الحركة وهذه الطبقات أضيفت إلى المخ فتكونت القشرة الجديد وعلى خلاف الطبقتين القديمتين فإن الطبقة الجديدة مثلت تقدما مميزاً.
والقشرة الجديدة تمثل مركز التقييم الشعوري , فهي ترتب ما يأتيها عن طريق الحواس وتقيمه وتفهمه, وهي تضيف للشعور القيمة من ناحية أنه مفيد وبالتالي يكون ممتع أو هو ضار وبالتالي يكون مؤلم , وتضيف عليه الانفعالات مما تسمح لنا أن ننفعل من جراء الأفكار والخيال والرموز .
وقد حققت القشرة الجديدة للكائن إمكانات أكبر للنجاة في الشدائد وجعله أكثر تحملا, وكما أن هذه المقدرة للبقاء على قيد الحياة تعتمد على مقدرة القشرة الجديدة على تخطيط استراتيجية طويلة الأجل وغيرها من الحيل الذهنية كما أضافت هذه القشرة تحديد الفروق الدقيقة بين الأفكار.
إن نظام الاثابة والعقاب عن طريق اللذة والألم يعتمد على الدماغ المتوسط والجهاز الحوفي . فعندما ثتار رغبة ما فإن اشباعها أوتلبيتها يؤدي الى توليد السرور. فالنشاط المؤدي الى تحقيق الرغبات يقود في حد ذاته الى السرور , فالسرور هو نوع من الإغراء تقدمه الطبيعة لتجعلنا نحقق أغراضها الحيوية من حيث بقاء النوع والفرد                                      
ومع تطور هذه القشرة أو الجهاز الحوفي فقد تحسنت وسيلتان قويتان هما : التعلم والذاكرة, وأتاحت هذه الخطوة الثورية للحيوان أن يكون أكثر ذكاء في خياراته من أجل البقاء وأن تواكب استجاباته المتطلبات المتغيرة, وأن لا تكون ردود أفعاله آلية كما كانت من قبل . فإذا تسبب الطعام بمرض الحيوان استطاع تجنبه في المرة القادمة, وظلت قدرته على تحديد ماذا يأكل وماذا يتجنب تتم من خلال حاسة الشم وحدها حيث تقوم الرابطة بين بصلة الشم والجهاز الحوفي بمهمة التمييز بين الروائح المختلفة والتعرف عليها والمقارنة بينها في ذلك الوقت وما كانت عليه في الماضي ,وبذلك تفرق ما بين المفيد والضار, حيث كان هذا يتم في الفص الدماغ الشمي .
إن الجهاز الدماغي الحوفي الذي تتميز به اللبونات يؤثر في السلوك الغريزي اللاواعي كالاستجابات المتعلقة بالبقاء ، وكاستجابة «المجابهة أو الهرب» واستجابة التكاثر .
ونحن البشر نتيجة الحياة الاجتماعية واللغة والثقافة , نجد أن الدماغ الحوفي هو المتحكم في غالبية تصرفاتنا إن لم يكن كلها . فهوالمسؤول عن تحديد وتعيين تأثيرات أوضاع التي نتعرض لها وتحديد معانيها , وذلك من أجل التصرف بفاعلية عن طريق استجابات مناسبة . وهو الذي يساهم بشكل أساسي في تحديد وتعيين نتائجها المستقبلية المتوقعة , والتعامل معها بناء على المعاني التي تعطى  لها .
فالضمير , الأخلاق , والقيم , والعادات والتقاليد , واكتساب الخبرة , والتذكر والإلهام , والأحلام , والتحكم بنشوء و إدارة العواطف والافعالات , التحكم بشكل أساسي بنشوء اللذة والألم أو الممتع والمؤلم , بالإضافة للتحكم بتقييم المفيد والضار, التحكم في مدخلات ساحة الشعور , والوضع بالانتظار للأمور التي تطلب الدخول لساحة الشعور . كلهم ناتج عمل أومشاركة الدماغ الحوفي .
إن مراكز العليا من القشرة الجديدة أو اللحاء لا تتحكم في حياتنا خاصة في حالات الطواريء والحالات الانفعالية , ويمكننا القول أنها تنزل عند إرادة الجهاز الحوفي ولأن كثيرا من المراكز العليا نشأت من مجال المنطقة الحوفية أو أنها امتداد لها .
ولهذا يلعب الجهاز الحوفي دوار حاسما في عمل الدماغ ككل , فهو الأصل الذي نما عليه الدماغ الأحدث , حيث نجد أن المراكز الشعورية ترتبط بمجموعة الدوائر العصبية بكل أجزاء القشرة الجديدة, وهذا ما يرفع مراكز الإنفعال إلى مرتبة القوة الهائلة التي تؤثر في أداء بقية الدماغ بما فيها مراكز التفكير.
كما ذكرنا لقد تطور مفهوم الدماغ الحوفي وابتعد كثيراً عن الأصل الشمي , ويشمل هذا الجانب التشريحي والوظيفي معاً , ونستطيع تمييز مفهومين للجملة الحافية الأول مصغر ويشمل عدد من البنى القشرية وتحت القشرية التي تتصف بقدمها من الناحية التطورية والواقعة ضمن الدماغ الانتهائي , والمفهوم الثاني أكثر اتساعاً ويضيف إلى ما سبق عدداً آخر من البنى يقع في الدماغ المتوسط والمهاد .
موقع الجهاز الحوفي : إن الجهاز الحوفي يحيط بأعلى جذع يربط المنطقتين القشرية والدماغ المتوسِّط بالمراكز الأخفض التي تحكم وظائف الجسم التلقائية الداخلية ومن بنياته .
الجسم الحلمي وهو نواة الدقيقة تعمل كمحطة ترحيل، فهي تنقل المعلومات من وإلى القبو والمهاد.
وهناك بصلتا الشَّمّ , إن اتصال هذان الجزأن بالجهاز الحوفي يساعد في تفسير أن حسَّ الشَّم يثير الذكريات القوية والاستجابات الانفعالية.
واللوزة التي تؤثر في جعل سلوك الجسم وأنشطته تتماشى مع احتياجاته الداخلية، وهي تشمل الاغتذاء والرغبة الجنسية ودود الفعل الانفعالية كالغضب والخوف وغيره .
والتلفيف نظير الحصيني وهذه تساعد مع تراكيب أخرى في تعديل التعابير الانفعالية كحدة الغضب والرعب.
والحصين (قرن آمون) وهو وثيق الصلة بالتعلم، والتعرُّف على الأشياء الجديدة، والتذكر، وبشكل خاص تذكر الأوضاع الهامة والتي ولدت انفعالات قوية .
التلفيف الحزامي إن هذه المنطقة بالإضافة إلى التلفيف نظير الحُصينيّ وبصلتي الشَّمِّ، تؤلف القشرة الحوفيَّة التي تعدل السلوك والانفعالات.
وإن المناطق الحوفيَّة تؤثر في النشاط الطبيعي عبر العُقد القاعديَّة، التعنقدات الكبيرة لأجسام الخلايا العصبية، تحت القشرة. وتتصل المناطق الحوفية للدماغ المتوسِّط أيضاً بالقشرة الدِّماغية وبالمهاد.
والبنى الحافية تحت القشرية تضم نوى المنطقة الحجابية , ونواة , والمعقد النووي اللوزي , والعقد القاعدية . وهناك إتصالات متعددة للجملة الحافية , صادرة وواردة , فيما بينها وبين القشرة الخية الحديثة والمهاد والوطاء والدماغ المتوسط والأجسام المخططة والبصلة الشمية .
وتتأثر السلوكيات الاجتماعية بشدة بعمل الجملة الحافية , حيث تهبط بشدة ردود الفعل التقيمية والانفعالية بعد تخريب النوى اللوزية بينما ترتفع بشدة مفرطة عقب تخريب النواة الحجابية التي تخفف ردود الانفعالية بعكس النواة اللوزية .
وتمارس الجملة الحافية دورها من خلال نمطين من العمليات وهي :
النمط الأول : تربط مجموعة العمليات الإدراكية الأولى ذات المضمون الشعوري , مع العناصر الموضوعية ( أو الواقعية ) للمعلومات الحسية مع الأخذ بعين الاعتبار تجارب الفرد السابقة مما يعطي لهذه المعلومات صفة المغزى أو المعنى أوالقيمة , ويسمح للدماغ بإمكانية التوقع أو التنبؤ والمبادرة باستجابة معينة أو الامتناع عن استجابة معينة , كما تكتسب المعلومات الراهنة قيماً دافعة للعمل يحث الفرد على الاستجابة المناسبة .
النمط الثاني : وهو الأهم فهو بمثابة مقارنة وقياس وتقييم , فهو يسمح للدماغ برصد حالات النجاح والفشل , أو بتعبير آخر يسمح برصد مدى تطابق النتائج الحاصلة للاستجابة المنفذة مع النتائج المتوقعة مسبقاً , فعندما يحصل التطابق تنشأ تجربة شعورية سارة وتشتغل جملة التعزيز الإيجابي , ويتم إنهاء المعالجات الفكرية لتحقق المطلوب . أما إذا لم يتحقق ذلك تنشأ تجربة شعورية غير سارة , ويعاد معالجة الأمور فكرياً وعملياً , وترصد وتدرس النتائج , وتنفذ الاستجابة المناسبة .
وقد طرح بابيز مسألة مشاركة الجهاز الحوفي في التحكم في الانفعالات. ووصف بابيز دوائر عصبية ارتدادية بحسبانها الأساس العصبى للانفعال . وتشمل مكونات المخ الأوسط  في دائرة بابيز تحت المهاد، ونويات المهاد ، والتلفيف الحزمى , وفرس البحر , والروابط  بينها. وقد وصف بابيز هذه المكونات بأنها تشكل ميكانيزماً متجانساً من شأنه أن يحسن أداء الانفعالات المركزية وأن يشارك  كذلك في التعبير الانفعالى. واعتبر أن نظريته تتوافق مع نظرية  كانون - بارد.
وطور ماكلين نظرية بابيز بافتراضه بأن الجهاز الحوفي يستخدم كدماغ حشوي
ويعنى به أن وظائف الجهاز الحوفي  ليست  مقصورة على الأعضاء الداخلية ولكنه هو عضو يقوم بتفسير التجربة على أساس  الاحساس أكثر من تفسيرها على أساس لغة رموز معرفية والتجربة التى يفسرها في شكل معلومات تم تلقيها من أحشاء البدن ، والتى يبدو أنه يقصد بها كل بنيات الجسد البدنية والحشوية ، وأشار الى أن الدماغ الحشوى له موقع استراتيجي في الربط بين كل أشكال الادراك الخارجى والداخلى.
أن الشعور والسلوك يتم تفسيرهما على أساس دوائر وألياف عصبية في بعض المراكز العليا في المخ.

دور وأهمية ما يدخل لساحة الشعور . وطرق وأسالبي الإدخال التي تستخدم
الطرق التي تدخل بها المؤثرات والتيارات العصبية والأفكار , إلى ساحة الشعور والوعي هي :
هناك أولاً واردات الحواس وهي التيارات العصبية الآتية من كافة الأعضاء والأجهزة الداخلية مثل الإحساس بالجوع أو العطش, والخوف وأحاسيس الانفعالات الكثيرة الأخرى .  
وثانياً الواردة من مستقبلات الحسية الخارجية, مثل النظر والسمع.... وباقي مستقبلات الحواس الأخرى للعالم الخارجي .
وثالثاً واردات الذاكرة وهي التيارات العصبية الأتية من اللحاء وباقي أجزاء الدماغ, وهي ذات مصادر مختلفة وهي , التداعي نتيجة الإشراط أوالارتباط أو التتابع الزمني , وهناك الاستدعاء المخطط الإرادي الواعي , نتيجة المعالجات الفكرية الإرادية الواعية .
والملاحظ أن المؤثرات التي تدخل ساحة الشعور ( أو يتم الوعي بها ) وتعالج فيها تأخذ أهمية استثنائية على باقي المؤثرات الأخرى التي لا يتم الوعي بها , وبغض النظر عن أهميتها ودورها و وظيفتها الحيوية أو القيمية الفعلية , وهذا راجع إلى أن معالجة هذه المؤثرات لا تأخذ بالحسبان باقي المؤثرات الأخرى التي لم تدخل ساحة الشعور .
والجديد من المؤثرات دوماً له الأفضلية في الدخول إلى ساحة الشعور لتحديده وتحديد مدى أهميته ومن ثم تصنيف تسلسل دوره في الدخول لساحة الشعور لمعالجته .
إن البنيات المتحكمة فيما يتم إدخاله لساحة الشعور هي بمثابة مكتب مسؤول عن ما يدخل لساحة الشعور لمعالجته . والدماغ الحوفي ( أو الجملة الحافية ) عنصر رئيسي في إدارة مدخلات ساحة الشعور , فهو مسؤول عن بناء الذكريات الهامة وأسلوب استخدامها , وما يكتسب تدريجياً من تعلم ومهارات وأساليب تصرف واستجابة لما يتعرض له الإنسان خلال حياته . فتلعب البنى الحافية الدور الأول في إعداد وتنفيذ استجابات وسلوك الإنسان في حياته , فالدماغ الحوفي هو المتحكم الأساس في كل ما يتم إدخاله إلى ساحة الشعور .
البعض يرجح  كون العقد القاعدية هي بوابات مكتب الدخول والمتحكمة في ما يدخل إلى ساحة الشعور , ربما كان التشكيل الشبكي في أول الأمر هو المسؤول عن مدخلات ساحة الشعور عندما كان الدماغ في بداية تطوره , ولكن عندما توسعت وتعقدت الأمور تكونت العقد القاعدية للقيام بهذه المهمة , وبقي للتشكيل الشبكي دوره كمتحكم بمدخلات الشعور في الأمور الأساسي والبسيطة . . ومن المرجح أن  العقد العصبية القاعدية هي التي تتحكم في قدرة المرء علي البدء و التوقف عن الأفكار .
وبانسبة لمكان ساحة الشعور في الدماغ , البعض يعتبر أن الفصوص الجبهية ( والتي يعتبرها البعض تابعة للدماغ الحوفي ) هي التي توجد فيها ساحة الشعور أو هي التي تنشؤها وهذا غير دقيق , إن الفصوص الجبهية مركز معالجة وتقييم شامل ودقيق لكافة الواردات الحسية التي تصل إلى اللحاء وفيها يقيم المفيد والضار, والممتع والمؤلم, والصحيح والخاطئ والمجدي وغير المجدي (طبعاً بمساعدة النتوء اللوزي), ولكنها لا تحدث الوعي لوحدها  فهي تشارك في تشكيل الوعي لدينا بشكل أساسي .
وأهم خاصية لمكتب الدخول هي :
أنه دوماً يكرر إدخال الأمور , وخاصة الأمور الهامة , والتي لم يتم حلها , أوالتي لم يكون الحل الذي تم التوصل إليه مرضي ويقبل به تقييم الدماغ الحوفي .
إن قوة ألحاح مكتب الدخول لتكرار أدخال أمر معين إلى ساحة الشعور مرتبطة بطبيعة وخصائص الإنسان , وما تم تعلمه واكتسابه نتيجة الحياة من قيم ومبادئ وتوجهات وأحكام وتقيمات .
والملاحظ أن التكرار غالباً يستمر طالما لم يتم التوصل لنتيجة أو استجابة ترضي تقييم الدماغ الحوفي , أي الوصول إلى ما يستدعي توقف التكرار , ولكن هذا يرهق الجهاز العصبي والجسم ويبدد الطاقات دون جدوى .
صحيح أنه يمكن أن يحدث توقف مؤقت لتكرار الإدخال عند حدوث أمور جديدة أو هامة تستدعي معالجتها فواراً , ولكن بعد الانتهاء منها يعود التكرار . وهناك الكثير من الأمور لا يتم التوصل إلى حل مرضي لأسباب متعددة أهمها :
1 – عدم توفر العناصر والظروف التي تسمح بحل مرضي , لأن ذلك يستدعي تغير الأوضاع وهذا يحتاج لمرور زمن ليس بقصير .
2 – عدم وجود حل .
3 – الحل يكون متناقض مع أمور أخرى , وهو يؤدي إلى نشوء مشاكل .
4 – القدرات المتاحة للفرد , والمعارف التي تعلمها الفرد , للسيطرة على ما يدخل إلى ساحة الشعور غير مناسبة أو غير فعالة في التحكم والسيطرة .
ولكن غالبة أمور حياتنا في الوقت الحاضر أصبح اتخاذ القرار المناسب فيها  من الأمور الصعبة , نظراً لتوسع الخيارات المتاحة , وتعقد وتشابك الأوضاع , وهذا يجعل البت بالأمور بقرار محدد مناسب ليس بالأمر السهل .
أي لابد من حدوث حالات كثيرة لا يتحقق الحل المرضي وكما نرغب بشكل كامل .
من أشكال التكرار تتولد الحالات التالية :
القلق : قلق الأم على أبنها وعلى صحته وراحته وتغذيته .
الانتظار والترقب : في حالات متعددة في لقاء المواعيد , الانتظار لنتائج لفحص , انتظار الأم لإبنها أو أي انتظار مشابه , . .
التأكد والالتزام : من الملابس والتصرفات والعادات .
الإدمان بأشكاله الكثيرة والمتنوعة .
الندم .
التردد .
الوسواس : وهو اكتساب تصرفات يجري ممارستها باستمرار في أوضاع معينة , كالأفكار التي يتكرر دخولها لسبورة الوعي عدة مرات في اليوم وتبقى لفترة طويلة , أو تكرار القيام بشيء ما عددًا معينًا من المرات . وقد لوحظت سلوكيات مشابهة  الوسواس لدى الحيوانات مثل الكلاب والجياد والطيور .
و تشير الأبحاث إلى أن الوسواس  يتضمن مشكلات في الاتصال بين الجزء الأمامي من المخ المسؤول عن الإحساس بالخوف والخطر والتركيبات الأكثر عمقًا للدماغ  أو البنى الحافية , وتضخيم هذا الخطر , طبعاً للتربية وما يتعلمه المرء في حياته دور أساسي . وكل عادة مكتسبة ومعززة بقوة تصبح بمثابة وسواس يجري ممارس والمحافظة عليها ودون تعديلها أو تطويرها . وهناك أفكار وأمور تبقى عشرات السنين إن لم يكن طول العمر يتكرر دخولها لوعينا , وكذلك هناك أمور ممتعة ومفرحة يتكرر دخولها إلى ساحة الشعور وذلك بقصد إطالة لحظات الاستمتاع ,  مثلما هناك أمور مزعجة أو مؤلمة يتكرر أدخالها إلى ساحة الشعور

4
التناقض الفكري والتناقض السببي
التناقض الفكري
مفهوم التناقض  كما طُرحه هيراقليطس، هو تعبير عن جوهر الأشياء , وهو الصيرورة والتغير، فالشيء وحدة متناقضات ناتجة عن الصيرورة والحركة . وكذلك في المنطق الجدلي يُعبّر التناقض عن المصدر الباطني للحركة ومبدأ التطور ، فهو يشير إلى أن الأشياء في حركتها وتفاعلاتها مع بعضها تفصح عن تناقضات ، عن حدود متعارضة يرتبط كل منهما بالأخر بحلقات توسطية مؤلفة وحدة الظاهرة أو الموضوع، وهذه العناصر هي في وضع تفاعل أوصراع ينفي بعضها بعضاً ، وهذا الصراع بين المتناقضات يمهد الطريق إلى الأمام وينكشف كمبدأ للتطور والحركة . فمنطق التناقض كما عبر عنه هيغل في منظومته الجدلية، والتي يرى من خلالها أن فكرة التناقض هي «الفكرة ـ الأم»، فهو أساس كل حركة وكل صيرورة وتطور ، فقط بقدر ما يحوي شيء من الأشياء تناقضاً، يكون هذا الشيء قادراً على الحركة وعلى الفاعلية . في نظره يطرح هذا المنطق الأشياء على أنها ليست مستقلة عما عداها وهي مرتبطة بالكل وتنتسب إليه، وتبعاً لذلك فإن الشيء ليس «ذاته» وإنما «مغاير لذاته»، مادام يحوي في داخله مبدأ سلبه أو نقضه، وهذا هو معنى  الحركة التلقائية الداخلية بنظر هيغل، فالمتناهي مثلاً هو ذاته متناقض من حيث يستبعد اللامتناهي ويفترضه في الوقت ذاته كحقيقة له (للمتناهي)، فكل علاقة واقعية برأي هيغل إنما هي علاقة تناقض . وهذا المفهوم للتناقض يقصد به الصيرورة والتطور , أوالتفاعل والتأثير المتبادل , أو الجدل كما يسمونه .  
ولكن أرسطو قصد بالتناقض عدم الاتساق في التفكير، وأُسس القانون المنطقي الشكلي للتناقضات بمعنى : أن الشيء لا يمكن أن يكون موجوداً أو غير موجود في الوقت ذاته ، وهذا تابع لمبدأ ( الهوية ) إذ ليس بالإمكان إعطاء تعريفين متعاكسين أي متناقضين في وقت واحد لشيء واحد .
وأيضاً يجب أن لا تتناقض النتائج مع المقدمات , فأذا كانت المقدمة :
 كل أنسان فان   هي صحيحة
وسقراط أنسان
فيجب أن تكون النتيجة  هي سقراط فان وسيموت  , وإذا لم يمت سقراط , أي لم تتفق النتيجة مع المقدمة , فهنا يحدث تناقض , فأما المقدمة غيرصحيحة أو النتيجة غير صحيحة .
فالتناقض الفكري ينتج عندما تتناقض النتائج مع المقدمات المعتمدة , أي تنفيها أولا تتطفق معها , وهذا يؤدي إلى حكم خاطئ على المقدمات , فالتناقض هو الذي يؤدي إلى الخطأ بالحكم على نتيجة مقدمات موضوعة . وهذا ما نعتمده كمفهوم للتناقض .
في المنطق والرياضيات يمكننا تحاشي التناقض الفكري بدرجة تامة إذا لم يحدث أخطاء في المعالجات الفكرية .
والتناقض الفكري لدينا تشكل أو تكون بالاعتماد على التناقض السببي , والتناقض الفكري يتضمن التناقض السببي . فالتفكير المنطقي يقصد به عدم تنافض الأفكار مع بعضها فكرياً , ولكن المهم عدم التناقض السببي , أي عدم تناقضها مع بعضها تجريبياً واقعياً , وذلك من أجل تحقيق أهدافنا ومشاريعنا , فتحاشي التناقض السببي الواقعي هو المهم .
السببية
إن هدف ودور المعرفة هو استباق نتائج الأحداث بهدف التحكم بها أوتعديلها بما يناسبنا . فالتوقع أوالتنبؤ الذي هو أساس المعارف وهو الذي ينتج السببية .
فالسببية هي : تحديد وتعيين واختصار أو اختزال للعوامل والمؤثرات الكثيرة , أي الأسباب  المتعددة الكثيرة بسبب واحد أساسي وأهمال باقي الأسباب , من أجل القيام بتحديد وتعيين الاستجابات المناسبة . فالأسباب  تختزل بسبب واحد ( أو عدد قليل من الأسباب ) يتم التركيز عليه والتعامل معه .
واعتماد أهم العوامل والمؤثرات وجعله  السبب في الحوادث  هو أهم عمل لعقلنا . فالتحكم بالأسباب أوالعوامل هو ما نعتمده في كافة تصرفاتنا من أجل تحقيق دوافعنا وغاياتنا .
ومهمة المعارف والعلوم هي تحديد هذه الأسباب . فيقولون فتش عن السبب  وتحكم به في تغيير مجرى الحوادث . ولكن هذه الآلية لها حدود فهي لا تسمح لنا التعامل الفكري مع اللانهاية واللاتناهي , وهي أيضاً لا تسمح لنا بتصور وجود سبب أول فيجب أن يكون هناك سبب قبله , فلكل وضع أو حادثة أو شيء يجب وجود سبب .
نحن نستطيع التحكم في سير الحوادث وبالتالي بالنتائج عن طريق العمل على إدخال مؤثرات جديدة أو حزف مؤثرات أو تغيير الأوضاع , لتوجيه سير الحوادث نحو وضع معين نريده .
فالأنسان ( وكذلك الكثير من الكائنات الحية ) لهم القدرة على الفعل نتيجة التفكير , والتأثير على سير بعض الحوادث الطبيعي والتحكم فيه وتوجيهه نحو وضع معين يريدونه , وهذا ما جعل الإنسان يشعر أن له إرادة بالتالي حرية العمل والقدرة على التحكم في الأشياء والأوضاع للوصول لوضع معين يريده . وهو يشعر أن يستطيع التخطيط و وضع الأهداف , والعمل على تحقيقها .
التناقض والتضارب السببي
ينتج التناقض السببي عن عدم صحة أو توافق نتائج العوامل ( أوالأسباب ) مع الهدف الموضوع , أو إعتماد أسباب لا تحقق أو تعيق تحقيق الهدف الموضوع مثال :
عمل الآلات الميكانيكية أو الأجهزة الكهربائية أو الإلكترونية . أن عمل الألة وقيامها بالعمل المخصصة له وحصول النتائج المطلوبة , يستدعي عدم حصول أسباب تناقض أو تمنع أو تعيق عمل الآلة المخصصة له .
وكذلك استمرار حياة ونمو أي كائن حي يستلزم عدم حدوث عوامل أو مسببات تمنع أو تعيق استمرار حياته ونموه , مثل المرض أو تضرر الأعضئه أو أجهزته الحيوية .
فمعالجة المرض , وأصلاح أعطال الآلات والأجهزة , وإصلاح أي فشل لمشروع زراعي أم صناعي . . , يستلزم إزالة الأسباب التي أدت لذلك .
إن تحقيق أي هدف أو مشروع أوغاية يستلزم توفر العوامل والأسباب اللازمة , بالإضافة لعدم حصول تناقض أو تضارب سببي يعيق تحقيق ذلك .
فالمشاريع الهندسية والصناعية والعمرانية والزراعية , وكذلك التجارية والاجتماعية , كلها تتحاشى التناقض والتضارب السببي , وتكون نتائجها مرتبطة بمدى تحقيق ذلك .
وفي حالة المشاريع الهندسة والصناعية والعمرانيةغالباً يمكن تحقيق ذلك إذا اعتمدت المعارف والعلوم الدقيقة اللازمة لتحاشي التضارب السببي .
وفي المشاريع الزراعية والبيولوجية وفي الطب  , يكون تحقيق ذلك أصعب ولكنه ممكن الوصول لنائج جيدة عند اعتماد المعارف الدقيقة المتوفرة .
أما في مجالات الاجتماعية الاقتصادية والسياسية فالأمور معقدة جداً نظراً لكثرت العوامل والأسباب وتشابكها , لذلك تحقيق ذلك يكون نسبته متواضعة .
دور وأهمية المعلومات ودقتها في التعامل مع التناقض السببي وإزالته .
التناقض السببي لا يمكن إزالته إلا بوجود معلومات دقيقة عن العوامل أوالأسباب , والتعامل معها بدقة وفاعلية . وحسب دقة وموضوعية المعلومات تكون درجة احتمال تحقيق الهدف الموضوع وتلافي التناقض السببي .
والمنهج الهندسي يعتمد بشكل أساسي على دقة و واقعية المعلومات والاختبار والتأكد من دقتها لتحاشي التناقض السببي الذي يعيق تحقيق المشاريع .

نحن نعرف أن إمكانية حصر كافة العوامل والأسباب لأي وضع , بصورة تامة ومطلقة مستحيل , فنحن نسعى لتحقيق التعامل مع أكبر كمية متاحة من العوامل والأسباب , ومراعات عدم تناقضها أو تضاربها مع مشاريعنا وأهدافنا . ومدى نجاحنا في ذلك مرتبط بكمية ودقة معارفنا , ودقة تنفيذنا ومراعتنا لتحاشي التناقض والتضارب السببي .
" لقد ألحّ "ماخ " على التخلي عن مفهومي السبب والنتيجة بمعناههما التقليدي وتعويضهما بمفهوم الدالة , كما هو وارد في الرياضيات . ولقد بين التحليل بأن ما يسمى بالسبب ليس إلا عنصر مكمل لمركب معقد من العوامل والظروف التي تحدد مجتمعة النتيجة . ويعتبر ماخ أن أبسط مكون للوجود هو العلاقة وليس العنصر الفرد . فلا يمكن إدراك عناصر الطبيعة إلا من حلال علاقة . وتعتبر الدالة الوسيلة الأكثر ملائمة من غيرها للتعبير عن ظواهر الطبيعة باعتبارها علاقات , شريطة أن نتمكن من وصف وقائع الطبيعة بواسطة كمّيات قابلة للقياس .
وكذلك يقول " شليك " ينبغي للعلم الحديث أن يتبنى العمل بفكرة العلاقة الدالية بين الكيفيات القابية للقياس , وأن يتخلى عن فكرة العلاقة السببية التقليدية ."  

هناك أوضاع يظهر فيها التناقض السببي بشكل واضح , وهناك أوضاع يكون التناقض السببي فيها غير واضح أو يصعب اكتشافه , وهناك أوضاع يظهر أن فيها تناقض سببي , ولكن التدقيق فيها يظهر عدم وجود تناقض سببي فيها .  
وعندما تكون الحوادث أو الأسباب احتمالية لعدم استطاعة حصر الأسباب اللازمة , يلجأ إلى اعتماد نسبة الاحتمال في اختيار الأسباب  أو التصرفات وهذا ما يفعلة غالبيتنا , فالتاجر والسياسي وكل إنسان في ممارسته العلاقات الاجتماعية أو الاقتصادية , يعتمدوا الاحتمالات المتوقعة الأفضل لهم . في تلك الأوضاع لا تتوفر الأسباب الدقيقة والصحيحة , فيعتمد على الاحتمالات المتوقعة , وحسب توفر المعلومات والخيارات المتاحة .
سؤال : ما مدى تأثير المعرفة على السببية ومسار الحوادث وتكوّن المستقبل ؟
أن الإرادة البشرية أو ما يسمى الحرية هو ناتج عن حدوث تغذية عكسية تؤدي إلى تحرك المستقبل وعدم ثباته إلى أن تتوقف دارة التغذية العكسية أو يحدث الوصول إلى توازن واستقرار والقيام بأفعال معينة تقرر وتحدد المستقبل .
فالتخطيط والغائية وتوجيه مسار الأحداث باتجاه هدف أو غاية معينة هو بمثابة نشوء تغذية عكسية بين الحاضر والمستقبل الذي يتم توقعه أو تصوره من جهة والمستقبل الواقعي الذي يحصل بالتدريج , وهذا يؤدي إلى توجيه مسار الأحداث باتجاه الهدف الموضوع , فكلما حدث انحراف مسار الأحداث عن الأتجاه إلى الهدف تحدث تأثيرات يؤدي إلى إعادة توجيه مسار الأحداث باتجاه الهدف .
إي التغذية العكسية هي التأثير المتبادل بين الحاضر والمستقبل المتوقع أو المتصور , الذي يصبح حاضر يؤثر في المستقبل المتصور الذي يليه وهكذا دواليك إلى أن يتم الوصول أو تحقيق المستقبل الهدف الموضوع .

5
إن ما يكتسب نتيجة التواصل الاجتماعي الواسع والمنوع والمعقد , والذي يتم نسخه و توارثه بالمحاكاة والتعلم , أدى لنشوء تواصل إيمائي إشاري متطور, وبالتالي مهد لنشوء لغة محكية  حدث تطور لها , ومن ثم تشكلت اللغة المكتوبة . فمنذ حولي مليوني سنة كان الإنسان يملك قدرات جسمية متواضعة نسبياً , مع وجود بيئة وأوضاع وحوادث متنوعة كثيرة ومعقدة و خيارات كثيرة , ووجود الكثير من التهديدات والأعداء . فكان بحاجة الماسة للتكيف مع الظروف والبقاء , وهذا أدى لتطور قدرات التواصل ,الإيمائية أوالإشارية , ومن ثم الصوتية أو اللغوية مع أفراد بني جنسه بشكل سريع , وهذا ما دفع الدماغ وبالذات اللحاء للنمو والتطور السريع خلال زمن قصير نسبياً . وهذا ما أدى إلى توصل الدماغ لقدرات تمثيل وترميز الواقع بأفكار مناسبة ونشوء اللغة , وكان هذا من أهم عوامل حدوث القفزة التي ميزتنا عن باقي الكائنات الحية , وهي القدرة على التخاطب الفعال بواسطة الأيماءات والإشارات ومن ثم تمثيل الواقع بلغة محكية ثم مكتوبة متطورة . والأهمية الكبرى لللغة والتي كانت العامل الأساسي في تطور الذكاء البشري بشكل جعل تفكيره ومعالجة المعلومات المدخلة لدماغه مختلفة ومميز عن باقي الكائنات الحية , حتى التي دماغها أكبر بكثير من دماغه  هي : أنها سمحت لكافة مركز الاستقبال الحسية أكانت سمعية أم بصرية أم شمية . . الخ  تستطيع الترابط مع بعضها بواسطة اللغة , التي استطاعت تمثيل الكثير من تأثيرات المدخلات الحسية برموز صوتية لغوية , وذلك عن طريق مناطق الارتباط الغوية في الدماغ . وهذه المناطق التي تشكلت واتسعت بشكل كبير هي الأساس الذي حقق لنا الذكاء المتميز عن كافة الكائنات الحية .
فبواسطة اللغة يتم التنسيق المترابط بين المركز البصري والسمعي والمراكز الحسية والحركية . .  لتعبر عن المفاهيم ، وهذا ما يجعل الدماغ يعمل كلاً موحداً . فنحن الوحيدين من بين الكائنات الحية الذين نستطيع تمثيل غالبية الأحاسيس والأفكار بواسطة رموز لغوية فكرية  وهي الكلمات , " ويرى تشومسكي أن الإدراك اللغوي والقدرة اللغوية هي صفات إنسانية أساسية تكمن في النوع البشري فقط . حيث أن لغة الفرد العادية هي عملية إبداعية ، وأن كل كلام هو تجديد في ذاته ، فاللغة ملكة إنسانية , والنحو عند تشومسكي هو مجموعة القواعد التي تُمكِّن الإنسان من توليد مجموعة من الجمل المفهومة ذات البناء الصحيح , وهو يفرق بين القدرة التي هي ملكة معرفة اللغة؛ حيث يمكن للفرد إنتاج وفهم عدد غير محدود من الجمل ، وتحديد الخطأ ، وتلمس الغموض الكامن في الناتج اللغوي , من جهة وبين الأداء الذي هو عملية استخدام هذه القدرة في نسق محدد , من جهة أخرى " .
فاختراع الكلمات وسع حدود العقل والوعي . ولم يبدأ التواصل والربط بين مناطق الأحاسيس المختلفة هذا إلا منذ حولي 150 ألف سنة . وأخذت المعلومات عن مختلف جوانب الحياة تمثل بكلمات يتم التواصل بها بين الأدمغة  . وتطورت طريقة ربط الأفكار وهذا أدى لنمو الذكاء البشري بشكل كبير وسريع وغير مسبوق . فبواسطة اللغة المحكية بدأت القصص والروايات ومن ثم الأساطير بالتشكل والتداول بين أفراد الجماعة , وهذا سمح مع أمور أخرى بنشوء وتكوّن الثقافة  الخاصة بكل جماعة , والتي صار يتم توارثها وتناميها نتيجة الحياة والتواصل الاجتماعي عن طريق هذه اللغة المحكية , وفي هذه المرحلة تم حدوث القفزة الكبيرة للتفكير والذكاء البشري التي ميزته عن باقي الكائنات الحية .
منذ حوالي 300 ألف سنة بدأت اللغة بالتكوّن من الأصوات إلى الكلمات , وتطورت لتصبح كما هي عليه الآن خلال 150 ألف سنة . كانت أهمية اختراع الكلمات في التواصل تتمثل في ابتكار أصوات محددة معينة أوضح وأدق من الإيماءات يتم تعليمها للصغار بسهولة . لقد سهلت اللغة عملية نقل الأفكار المتزايدة التعقيد . كانت اللغة المحكية تستلزم التواصل المباشر بين البشر ليتم تناقل وتوصيل المعارف والأفكار , لذلك عندما تشكلت اللغة المكتوبة , وهذا كان منذ وقت قريب حوالي 6500 سنة وهي بداية التاريخ المكتوب , تمت قفزة أخرى سمحت بتناقل المعلومات والأفكار دون التواصل المباشر , وبالتالي تركمها نتيجة توضعها أو تخزينها خارج الدماغ برموز وإشارات مادية تحفظها لفترات طويلة , وبذلك نشأ التاريخ نتيجة التواصل بين البشر الذي حدث نتيجة اللغة المكتوبة التي سمحت بانتقال الأفكار والمعلومات خلال الأجيال المتعاقبة .
لقد اعتمد المجتمعات الأنسانية اللغة الصوتية المحكية كأساس في التواصل , وكانت الكلمات مؤلفة من وحدات صوتية أو فونيمات وليس من حروف . وكانت هذه الوحدات الصوتية تنقل الأفكار والتوجهات والأوامر بين أفراد الجماعة المتعامل بها . والكلمة المنطوقة لها قوة وفعل , فعند الشعوب البدائية اللغة المحكية هي أسلوب للفعل وليس مجرد علامة مقابلة للفكرة , وهي أساس التواصل بينهم . ولن توجد لغة مكتوبة دون أساس محكي لها , والكتابة لا تستغني أبداً عن الحكي , فاللغة المحكية هي الأساس . وكثير من اللغات لم تتحول إلى كتابة . والتفكير البشري يختلف بشكل واضح عندما يتم التحول من اللغة المحكية ألى لغة مكتوبة .
لقد نشأت أولاً اللغة المكتوبة التصويرية أو الهيلوغروفية ومن ثم اللغة المكتوبة الأبجدية . وكانت القراءة هي تحويل اللغة ( أوالرموز البصرية ) إلى رموز صوتية يجري نطقها , وهذا يستدعي سلامة البصر والسمع والنطق . وكان الترابط الوثيق بين قواعد النحو لللغة , والمضمون الدلالي لها , يحدد تكوين النظم اللغوية الفاعلة في تكوين الرسائل المعرفية ويسهل نقلها , ويجعل الطرائق اللفظية المختلفة للكلمات معاني مصاحبة لنمو الأفكار وصياغتها بما يتوافق مع المضامين لمعانيها الشعورية والدلالية لتحقيق أعلى قدر من الانسجام مع نظام الأفكار , بما ينطبق مع حالة الأفكار المعبرة عن مغزى واحد بطرق مختلفة . فالتوافق المنسجم بين الناحية الشعورية والنحوية والمعنى الدلالي يعطي اللغة مقدرة لتحقيق تواصل اجتماعي فعال .
إن المخ البشري الآن مهيأ لتحليل الوحدات الدنيا للجهاز الصوتي إلى فونيم ، أو وحدة صوتية متميزة ، فعندما يختلف معنى الكلام تحدث اختلافات صوتية تتضمن هذا الاختلاف . فالعلاقة بين الأنظمة الصوتية للحروف وقدرة التجاوب مع لفظها من خلال تأمين أوضاع وحركات فموية تميز أصوات الأحرف وحالة إخراجها , وتطور ذلك وأصبح بالامكان نقل الكثير من الدلالات والمعاني والأحاسيس والأفكار . والدماغ عندها يعمل ضمن التنسيق المترابط بين المركز البصري والسمعي والمراكز الحسية والحركية . . .

هناك فرق كبير بين تعلم اللغة المحكية وتعلم اللغة المكتوبة , ففكرة أن الأطفال يمكنهم تعلم القراءة بالطريقة نفسها التي تعلموا بها الكلام , أظهر الواقع عدم دقتها , فتعلم القراءة ليس بالأمر السهل كتعلم الكلام .
يتذكر معظمنا كيف تعلَّم القراءة ، في الوقت الذي لا نستطيع فيه تذكر أي شيء خاص حول تعلّمنا الكلام . ومع أن هاتين المهارتين متصلتان ، فإن طرق اكتسابهما تختلف اختلافا بيِّن . فتعلم الكلام يتم طبيعياّ بالنسبة إلى جميع الأطفال تقريبا , ولكن تعلم القراءة يحتاج إلى تدريس متقن وجهد واع. أننا نتذكرنا بشيء من معاناة طفولتنا المبكرة ، عندما كان تعلم قراءة مقطعٍ بسيطٍ عملا شاقا .
إن الناطقين بمعظم اللغات يتعلمون العلاقة بين الحروف والأصوات المرتبطة بها (الڤونيمات) أي يُعلَّم الأطفال كيف يستخدمون معرفتهم بالأبجدية ليلفظوا الكلمات . إن الصلة بين الحروف والفونيمات تبدو بسيطة بشكل كاف , ومن الواضح أن نقص المطابقة الكاملة بين الحروف والأصوات هو مصدر للتشويش وعقبة كامنة على طريق القرّاء المبتدئين .
أن العديد من آباء يعتقدون بأن الذكاء الفطري سيحدد مدى إتقان أطفالهم لتعلم القراءة، مهما كان نوع التدريس المستخدم لهذا الغرض ، ولكن الدلائل توحي بغير ذلك.
أن لحاصل الذكاء  بصورة عامة تأثيرًا قليلا في القدرة على القراءة المُبكرة . كما وجد الباحثون مؤخرا أن الأطفال الذين لديهم صعوبة في القراءة، غالبا ما يكون حاصل ذكائهم أعلى من المتوسط .
من الواضح أن تعليم الأطفال وهم في سن مبكرة القراءة الجيدة يساعد على تنمية عادة قيِّمة تستمر مدى الحياة؛ لذا فليس غريبا أن يركز المربون تركيزا كبيرا على إيجاد أفضل طريقة لتعليم هذه المهارة.
مع أن كثيرا من الآباء والأمهات يعتقدون بأن الذكاء الفطري لدى أبنائهم سيتحكم في درجة إتقان هؤلاء تعلم القراءة، فإن الدلائل توحي بغير ذلك . عندما يبدأ وقت تعلم القراءة و الكتابة يجب الانتباه للنقاط التالية :
يجب ان يتقن الطفل الكلام بطلاقة قبل ان تفكر في تعليمه القراءة . ومن البديهي ان يكون الطفل ماهرا في الكلام و التعبير عن نفسه قبل الشروع في تلقينه مبادئ القراءة والكتابة ويجب ان يكون الطفل قادرا على تكوين جمل كاملة.
صحة البصر والسمع , من الأسئلة التي يطرحها طبيب المدرسة عن التلميذ الذي لا يقرأ هو: هل هذا التلميذ يبصر جيدا؟ فالتلميذ الذي تؤلم القراءة عينيه لن يتمتع بالقراءة وسيتجنبها قدر الإمكان . وإذا كان إبصاره ضعيفا بحيث لا يستطيع التمييز بين الحروف فانه لن يتعلم القراءة إلا إذا عولجت عيناه. ويتعين على المعلمين أن ينتبهوا إلى أي أعراض قد تشير إلى ضعف البصر لدى التلاميذ.
إن تعلم القراءة يعتمد أساسا على اتصال الفرد اتصالا مباشرا بالأشياء والناس والأحداث. ولا شك أن القراءة بحد ذاتها خبرة مهمة. فعن طريقها يستطيع الفرد تشكيل صور ومفاهيم جديدة تمكنه من توسيع فهمه للواقع. وهذا يعني أن كل خبرة جديدة في القراءة تفيد في تشكيل أرضية مناسبة لفهم مزيد من النصوص والتمتع بها.
أما الكتابة فهي نشاط عقلي معقد  فمن خلاله تتم معالجة انواع مختلفة من المعلومات والأفكار , واختيار الافكار المناسبة لموضوع ما ، وتنظيمها في فقرات متماسكة وبناء الجملة وانتقاء المفردات والتعابير ومراعاة قواعد اللغة . لتشكيل موضوعاً يوصل الافكار والمشاعر الى القارئ . فالترابط الوثيق بين القواعد الناظمة للغة والمضمون الدلالي لها يحدد تكوين النظم اللغوية الفاعلة في تكوين الرسائل المعرفية , فالتوافق المنسجم بين الناحية الإدراكية والحسية , مع النحوية والمعنى الدلالي يعطي اللغة مقدرة لتحقيق  التواصل الاجتماعي الفعال .

6
منتدى علم الإجتماع وعلم النفس والتربية / ما تفكر فيه
« في: سبتمبر 06, 2009, 01:52:39 صباحاً »
ما تفكر فيه

إن الهدف الأساسي للجهاز العصبي هو تحديد وتعيين "معاني" التأثيرات والأوضاع التي يتعرض لها الكائن الحي , وذلك من أجل التصرف بفاعلية عن طريق استجابات مناسبة تؤمن حماية واستمرار ونمو الكائن الحي , وكذلك من أجل تحديد وتعيين نتائجها المستقبلية المتوقعة على الكائن الحي , والتعامل معها بناء على المعنى الذي أعطي لها . والجديد من المؤثرات دوماً له الأفضلية في الدخول إلى ساحة الشعور لتحديده وتحديد مدى أهميته ومن ثم تصنيف تسلسل دوره في الدخول لساحة الشعور لمعالجته .
إن المؤثرات التي تدخل ساحة الشعور ( أو يتم الوعي بها ) وتعالج فيها تأخذ أهمية استثنائية على باقي المؤثرات الأخرى التي لا يتم الوعي بها , وبغض النظر عن أهميتها ودورها و وظيفتها الحيوية أو القيمية الفعلية , وهذا راجع إلى أن معالجة هذه المؤثرات لا تأخذ بالحسبان باقي المؤثرات الأخرى التي لم تدخل ساحة الشعور .
دور وأهمية ما يدخل لساحة الشعور . وطرق وأسالبي الإدخال التي تستخدم
لعب بعقله – غيَرلو رأيو – غسلّو دماغو – ضحك عليه - . .,  كل هذا يتم باستخدام التحكم في ما يدخل لساحة شعور الآخر . وتأثيرات كافة أشكال وسائل الإعلام تعتمد على التحكم في ما يدخل إلى ساحة شعور المتلقين .
الطرق التي تدخل بها المؤثرات والتيارات العصبية والأفكار , إلى ساحة الشعور والوعي هي :
هناك أولاً واردات الحواس وهي التيارات العصبية الآتية من كافة الأعضاء والأجهزة الداخلية مثل الإحساس بالجوع أو العطش, والخوف وأحاسيس الانفعالات الكثيرة الأخرى .  
وثانياً الواردة من مستقبلات الحسية الخارجية, مثل النظر والسمع.... وباقي مستقبلات الحواس الأخرى للعالم الخارجي .
وثالثاً واردات الذاكرة وهي التيارات العصبية الأتية من اللحاء وباقي أجزاء الدماغ, وهي ذات مصادر مختلفة وهي , التداعي نتيجة الإشراط أوالارتباط أو التتابع الزمني , وهناك الاستدعاء المخطط الإرادي الواعي , نتيجة المعالجات الفكرية الإرادية الواعية .
وهذا نموذج  المعالجة المتوازية  لعمل النظام الشبكي اعتمده منذ عدة سنوات الأستاذ " وارن ماكلوك" ومساعدوه في معهد ماساتشوست للتنلوجيا , لتفسير طريقة اختيار ما يسمح بدخوله إلى ساحة الشعور . ويمكًن هذا النموذج من اتخاذ القرارات السريعة , فيما يتعلق بنوع التصرفات المطلوبة , رغم الكمية الهائلة الداخلة من المعلومات المختلفة .
" للتكوين الشبكي  خاصية معينة , فكل خلية عصبية فيه تتصل بمجموعة الخلايا الأخرى , بحيث تكًون قرصاً رقيقاً عبر ساق المخ , وتتصل مختلف الأقراص ببعضها , بطريقة تكاد تكون عشوائية , وهذه الأقراص مرتبة فوق بعضها البعض كعمود من قطع النقود , مكونة البنية العمودية لساق المخ , ومن الممكن أن نتصور أن كل قرص من هذه الأقراص , هو كومبيوتر صغير يعالج ويقيم مختلف المدخلات التي يتلقاها , وهو ينقل محصلة ذلك التأثير إلى بقية زملائه , التي عليها أن تضع تلك المعلومات في الاعتبار , بالإضافة إلى الإشارات الحسية الأخرى التي تتلقاها , والقرص الذي تكون استثارته أكبر ما يمكن , هو الذي يفوز على الآخرين , ويؤدي إلى حدوث استجابة مناسبة لما تلقاه هو بالذات . "
والآن البعض يرجح  كون العقد القاعدية هي بوابات مكتب الدخول إلى ساحة الشعور , ربما كان التشكيل الشبكي في أول الأمر هو المسؤول عن مدخلات ساحة الشعور عندما كان الدماغ في بداية تطوره , ولكن عندما توسعت وتعقدت الأمور تكونت العقد القاعدية للقيام بهذه المهمة , وبقي للتشكيل الشبكي دوره كمتحكم بمدخلات الشعور في الأمور الأساسي والبسيطة . . ومن المرجح أن  العقد العصبية القاعدية هي التي تتحكم في قدرة المرء علي البدء و التوقف عن الأفكار .
وبانسبة لمكان ساحة الشعورفي الدماغ , البعض يعتبر أن الفصوص الجبهية هي التي توجد فيها ساحة الشعور أو هي التي تنشؤها وهذا غير دقيق, إن الفصوص الجبهية مركز معالجة وتقييم شامل ودقيق لكافة الواردات الحسية التي تصل إلى اللحاء وفيها يقيم المفيد والضار, والممتع والمؤلم, والصحيح والخاطئ والمجدي وغير المجدي (طبعاً بمساعدة النتوء اللوزي), ولكنها لا تحدث الوعي لوحدها  فهي تشارك في تشكيل الوعي لدينا بشكل أساسي .
إن البنيات المتحكمة فيما يتم إدخاله لساحة الشعور هي بمثابة مكتب مسؤول عن ما يدخل لساحة الشعور لمهالجته . والدماغ الحوفي ( أو الجملة الحافية ) عنصر رئيسي في إدارة مدخلات ساحة الشعور , فهو مسؤول عن بناء الذكريات الهامة وأسلوب استخدامها , وما يكتسب تدريجياً من تعلم ومهارات وأساليب تصرف واستجابة لما يتعرض له الإنسان خلال حياته . فتلعب البنى الحافية الدور الأول في إعداد وتنفيذ استجابات وسلوك الإنسان في حياته , فالدماغ الحوفي هو المتحكم الأساس في كل ما يتم إدخاله إلى ساحة الشعور . وتتأثر السلوكيات الاجتماعية بشدة بعمل الجملة الحافية , حيث تهبط بشدة ردود الفعل التقيمية والانفعالية بعد تخريب النوى اللوزية بينما ترتفع بشدة مفرطة عقب تخريب النواة الحجابية التي تخفف ردود الانفعالية بعكس النواة اللوزية . وتمارس الجملة الحافية دورها من خلال نمطين من العمليات وهي :
النمط الأول : تربط مجموعة العمليات الإدراكية الأولى ذات المضمون الشعوري , مع العناصر الموضوعية ( أو الواقعية ) للمعلومات الحسية مع الأخذ بعين الاعتبار تجارب الفرد السابقة مما يعطي لهذه المعلومات صفة المغزى أو المعنى أوالقيمة , ويسمح للدماغ بإمكانية التوقع أو التنبؤ والمبادرة باستجابة معينة أو الامتناع عن استجابة معينة , كما تكتسب المعلومات الراهنة قيماً دافعة للعمل يحث الفرد على الاستجابة المناسبة .
النمط الثاني : وهو الأهم فهو بمثابة مقارنة وقياس وتقييم , فهو يسمح للدماغ برصد حالات النجاح والفشل , أو بتعبير آخر يسمح برصد مدى تطابق النتائج الحاصلة للاستجابة المنفذة مع النتائج المتوقعة مسبقاً , فعندما يحصل التطابق تنشأ تجربة شعورية سارة وتشتغل جملة التعزيز الإيجابي , ويتم إنهاء المعالجات الفكرية لتحقق المطلوب . أما إذا لم يتحقق ذلك تنشأ تجربة شعورية غير سارة , ويعاد معالجة الأمور فكرياً وعملياً , وترصد وتدرس النتائج , وتنفذ الاستجابة المناسبة .
لقد تطور مفهوم الدماغ الحوفي وابتعد كثيراً عن الأصل الشمي , ويشمل هذا الجانب التشريحي والوظيفي معاً , ونستطيع تمييز مفهومين للجملة الحافية الأول مصغر ويشمل عدد من البنى القشرية وتحت القشرية التي تتصف بقدمها من الناحية التطورية والواقعة ضمن الدماغ الانتهائي , والمفهوم الثاني أكثر اتساعاً ويضيف إلى ما سبق عدداً آخر من البنى يقع في الدماغ المتوسط والمهاد .
تقع بنى الدماغ الحوفي في الوجه الداخلي لنصف الكرة المخية وتتكون من أربع طبقات  وهي :
1 – طبقة القشرة المغايرة اللحائية الابتدائية , وهي مؤلفة من التلفيف المسنن وقرن أمون والكلابة .
2 – طبقة القشرية المغايرة اللحائية القديمة , وهي أشد تعقيداً من سابقتها وتضم البصلة الشمية والحديبة الشمية والنواة الحجابية والباحة الكمثرية والباحة اللوزية .
3 – طبقة قشرية حول مغايرة تحيط بالقشرة المغايرة الابتدائة والقديمة , وتضم القشرة الجزيرية وعدة بنى أخرى .
4 – طبقة القشرة المجاورة للمغايرة وهي قشرة انتقالية , لذلك تبدو متماثلة أو شبيه بالقشرة المخية الحديثة , كما أنها ذات طابع مميز .
أما البنى الحافية تحت القشرية : فإنها تضم نوى المنطقة الحجابية , ونواة , والمعقد النووي اللوزي , والعقد القاعدية . وهناك إتصالات متعددة للجملة الحافية , صادرة وواردة , فيما بينها وبين القشرة الخية الحديثة والمهاد والوطاء والدماغ المتوسط والأجسام المخططة والبصلة الشمية .
وأهم خاصية لمكتب الدخول هي :
أنه دوماً يكرر إدخال الأمور , وخاصة الأمور الهامة , والتي لم يتم حلها , أوالتي لم يكون الحل الذي تم التوصل إليه مرضي ويقبل به تقييم الدماغ الحوفي .
إن قوة ألحاح مكتب الدخول لتكرار أدخال أمر معين إلى ساحة الشعور مرتبطة بطبيعة وخصائص الإنسان , وما تم تعلمه واكتسابه نتيجة الحياة من قيم ومبادئ وتوجهات وأحكام وتقيمات .
والملاحظ أن التكرار غالباً يستمر طالما لم يتم التوصل لنتيجة أو استجابة ترضي تقييم الدماغ الحوفي , أي الوصول إلى ما يستدعي توقف التكرار , ولكن هذا يرهق الجهاز العصبي والجسم ويبدد الطاقات دون جدوى .
صحيح أنه يمكن أن يحدث توقف مؤقت لتكرار الإدخال عند حدوث أمور جديدة أو هامة تستدعي معالجتها فواراً , ولكن بعد الانتهاء منها يعود التكرار . وهناك الكثير من الأمور لا يتم التوصل إلى حل مرضي لأسباب متعددة أهمها :
1 – عدم توفر العناصر والظروف التي تسمح بحل مرضي , لأن ذلك يستدعي تغير الأوضاع وهذا يحتاج لمرور زمن ليس بقصير .
2 – عدم وجود حل .
3 – الحل يكون متناقض مع أمور أخرى , وهو يؤدي إلى نشوء مشاكل .
4 – القدرات المتاحة للفرد , والمعارف التي تعلمها الفرد , للسيطرة على ما يدخل إلى ساحة الشعور غير مناسبة أو غير فعالة في التحكم والسيطرة .
ولكن غالبة أمور حياتنا في الوقت الحاضر أصبح اتخاذ القرار المناسب فيها  من الأمور الصعبة , نظراً لتوسع الخيارات المتاحة , وتعقد وتشابك الأوضاع , وهذا يجعل البت بالأمور بقرار محدد مناسب ليس بالأمر السهل .
أي لابد من حدوث حالات كثيرة لا يتحقق الحل المرضي وكما نرغب بشكل كامل .
هناك قول مأثور وهو " إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون " لكن ما مدى هذه " الما . تريد " هل فعلاً يستحيل تحقيق ما تريد أم هناك احتمال ولو ضئيل في تحقيقه , والمشكلة الكبرى في اقتناع وقبول الدماغ الحوفي لدينا بالواقع الموجود أو " الما . يكون " , والقيام بالسعي لألغاء الدافع والاستجابة المرغوبة وكفها , لحين أو بشكل دائم , وطبعاً طبيعة المشكلة ومدى أهميتها له تأثير كبير .
لقد وجد أن ممارسي اليوغا و" كهان الزين " لهم القدرة الكبيرة على التركيزعلى أمور أو أفكار معينة بشكل كبير والتحكم في ما يدخل لساحة شعورهم , فهم مهما كانت طبيعة المثير الجديد , الذي دوماً يأخذ أفضلية لدخول ساحة الشعور, لهم القدرة على منعه من دخول ساحة الشعور , والفحص الكهربائي لدماغهم أثبت ذلك , أي هم لهم سيطرة شبه كاملة على مدخلات ساحة شعورهم اكتسبوها بالتعلم والمران المستمر .
 
لماذا يحدث تكرار إدخال أمر معين إلى ساحة الشعور, والاستمرار في معالجة الأمور وتكراره حتى الوصول إلى المطلوب ؟
أن هناك أمور ممتعة ومفرحة يتكرر دخولها إلى ساحة الشعور وذلك بقصد إطالة لحظات الاستمتاع ,  مثلما هناك أمور مزعجة أو مؤلمة يتكرر أدخالها إلى ساحة الشعور .
لكن هناك أهمية كبير لتكرار معالجة الأمور الهامة التي لم تحل , والمثابرة على تحقيقها , هذا ما نشاهده لدى كافة الكائنات الحية والتي تسعى لمحافظة على حياتها وانموها واستمرارها كفرد وكنوع , مثلاً : لنلاحظ تصرفات الحيوانات المفترسة كيف تسعى وتثابر وتكرارالسعي لصيد فرائسها ولا تتوقف حتى تصيدها , أو تتهدد حياتها .
 
طرق إيقاف تكرار الإدخال غير المجدي , والتحكم بما يدخل لساحة الشعور:
التبرير بشتى الوسائل حتى الوسائل غير الواقعية أو غير المطقية , لحل المشكلة وأيقاف التكرار
تعلم طرق للإيقاف نتيجة الممارسة والخبرة , مثل اليوغا وغيرها  .
العلاج النفسي وهو يحل مشكلة التكرار في حالات كثيرة .
استعمال الأدوية في الحالات الصعبة المستعصية .
إشغال الفكر بأمور أخرى , أو الانخراط في العلاقات الاجتماعية والترويح عن النفس .
النوم إن أمكن لإيقاف هدر الطاقة العصبية , وهذا يكون صعب في الحالات القوية .
دور وتأثير العلاقات الاجتماعية في تخفيف المعانات من تكرار دخول الأمور المؤلة أو المزعجة إلى ساحة الشعور .
والملاحظ أن اليأس والإحباط هما حل ضروري لوقف تكرار إدخال الأمور المؤلمة والمزعجة والمستعصية الميؤوس من حلها لساحة الشعور , وأمثلة على أوضاع ميؤوس من منها : موت عزيز , خسارة شاملة وكبيرة , مرض عضال مؤكد , . . . ,  ففي هذا الوضع يكون اليأس والإحباط , الحل الأفضل , فيحفظ الطاقة والجهد الفكري والجسمي المهدور دون نتيجة مجدية .
هذه حالات واضح الوضع فيها والقرار ليس صعب , ولكن هنا الكثير من الأوضاع التي تكون الأمور معقدة ومتشابكة , وبالتالي النتيجة غير واضحة , وهنا تكمن الصعوبه بالنسبة لكل منا , وبالتالي تتعقد وتتصعب الأمور والنتائج .
التربية ودورها : إن ما يدخل إلى ساحة الشعور لدى المولود الحديث أوالطفل , هو المتعلق بتلبية الدوافع والاستجابات الأساسية والهامة , ويبقى في ساحة الشعور حتى يلبى , وتكون هذه الدوافع والاستجابات محدودة وتتعلق بأهم أمور حياة الطفل , وتتزايد هذه الأمور نتيجة تعرف الطفل على المحيط وتأثيراته . ويكون تصميم الطفل على تحقيق دوافعه شديد , وهو على شكل بكاء ويستمر حتى يلبى , أو يحدث أمر أخر أهم , فيجري اعتماده وترك الأول . أي هذه الخاصية هي من أسس عمل الجهاز العصبي الدينا , ولدى غالبية الكائنات الحية إن لم يكم كلها .
إن إقناع الطفل وتعليمه القبول بتأخير تحقيق دوافعه واستجاباته المرغوبة , والانتظار ( إي التوقف عن تكرار طلب التحقيق لفترة زمنية ) عن طريق أقناعه بأنها سوف تحقق في المستقبل القريب , هو تعليمه التحكم بمدخلات الشعور لديه . فالأطفال الذين يقبلون بتأخير تحقيق دوافعهم ورغباتهم  والأنتظار سوف يكونوا في المستقبل مهيئين  للتحكم في ما يدخل لساحة الشعورهم , أي يكون ما يفكرون فيه بشكل منظم ومجدي أكثر .

من أشكال التكرار تتولد الحالات التالية :
القلق : قلق الأم على أبنها وعلى صحته وراحته وتغذيته .
الانتظار والترقب : في حالات متعددة في لقاء المواعيد , الانتظار لنتائج لفحص , انتظار الأم لإبنها أو أي انتظار مشابه , . .
التأكد والالتزام : من الملابس والتصرفات والعادات .
الإدمان بأشكاله الكثيرة والمتنوعة .
الندم .
التردد .
العناد ( يباسة الراس ) , وعدم الاقتناع مهما كانت البراهين .
الطموح والتصميم , والثقة بالنفس والإصرار , والتعصب . . .
الوسواس : وهو اكتساب تصرفات يجري ممارستها باستمرار في أوضاع معينة , كالأفكار التي يتكرر دخولها لسبورة الوعي عدة مرات في اليوم وتبقى لفترة طويلة , أو تكرار القيام بشيء ما عددًا معينًا من المرات . وقد لوحظت سلوكيات مشابهة  الوسواس لدى الحيوانات مثل الكلاب والجياد والطيور .
و تشير الأبحاث إلى أن الوسواس  يتضمن مشكلات في الاتصال بين الجزء الأمامي من المخ المسؤول عن الإحساس بالخوف والخطر والتركيبات الأكثر عمقًا للدماغ  أو البنى الحافية , وتضخيم هذا الخطر , طبعاً للتربية وما يتعلمه المرء في حياته دور أساسي . وكل عادة مكتسبة ومعززة بقوة تصبح بمثابة وسواس يجري ممارس والمحافظة عليها ودون تعديلها أو تطويرها .
هناك أفكار وأمور تبقى عشرات السنين إن لم يكن طول العمر يتكرر دخولها لوعينا

وهناك الوضع في الانتظارسنتكلم عنه بتوسع لاحقاً : فهناك أمور توضع في الانتظار ( أو في الذاكرة القريبة ) لتنفيذها مثل : تنفيذ الأعمال , تنفيذ المشتريات , تنفيذ الخطط والمشاريع . . . , أي التذكر للأمور المطلوب عملها والموضوعة في الانتظار .

7
 كيف تطور العقل البشري
ما الذي يمكن أن يعلل سبب قدرات عقلنا وذكائنا المميز عن باقي الكائنات الحية ؟
ما هي العوامل التي سمحت لكي يصبح الإنسان ذكياً بشكل يجعله مميز , ويفكر بالطريقة التي نحن نفكر بها الآن ؟
كيف حدث هذا الفارق الكبير بيننا وبين كافة الكائنات الحية مع أنه يوجد كائنات حية دماغها يملك قدرات تفوق قدرات دماغنا كالحيتان والفيلة .
ماهي أهم العوامل التي أدت لذلك ؟
يرى البعض أن أهم ما يميز تفكيرنا عن باقي الكائنات الحية وبالتالي ذكائنا المميز عنها هو : ما يكتسب نتيجة التواصل الاجتماعي الواسع والمنوع والمعقد , والذي يتم نسخه و توارثة بالمحاكاة والتعلم . فهو أدى لنشوء تواصل إيمائي إشاري متطور , وبالتالي مهد لنشوء لغة محكية  حدث تطور لها , ومن ثم تشكلت اللغة المكتوبة . بالإضافة لنشوء التقنية وصنع الأدوات وتوارثها نتيجة الحياة الاجتماعية , وهي التي نتجت عن قدرات عمل عقلنا ويدينا والقامة المنتصبة وعوامل أخرى . إن دور التقنية واستعمال الأدوات المتكرر وصنع الأدوات كالرمح والفأس وغيره , وتعليم ذلك للآخرين , ساعدنا بشكل كبير في توسيع قدراتنا وبالتالي خياراتنا في التعامل مع ظروف الحياة . صحيح أن هناك الكثير من الكائنات الحية تستعمل التقنية مثل النحل والعناكب والطيور وغيرها , ولكنها لا تطورها فهي تكتسبها بيولوجياً  . وهناك الكثير من الكائنات الحية تستعمل التقنية أو بعض الأشياء كأدوات ولكنها لا تحتفظ بها ولا تعيد صنعها . وكل هذا أحدث قفزة تطور كبيرة لقدرا عمل دماغنا وبالتالي تفكيرنا , عن باقي الكائنات الحية , وخلال زمن قصير نسبياً .
أن قدرات الذكاء الكائن الحي , بشكل عام , هي نتيجة برامج التفكير أو معالجة المدخلات للدماغ الموروثة بيولوجياً , وبرامج التفكير والمعالجة المكتسبة أو التي يتم تعلمها نتيجة الحياة والحياة الاجتماعية .
فالقدرات الموروثة بيولوجياً هي : القدرة على التفكير ومعالجة الأفكار والقدرة على التعلم , و سرعة الحفظ في الذاكرة وكميته , والقدرة على التذكرة أو الاستدعاء من مخازن الذاكرة واستخدام مخزون الذاكرة , والقدرة على المعالجة الفكرية لزمن طويل , والقدرة على معالجة الأفكار الكثيرة , والقدرة على معالجة الأفكار المعقدة , وكل هذا يكون موروث بيولوجياً  , وهذه القدرات تكون عادة تابع لوزن الدماغ وعدد الخلايا العصبية وطريقة اتصالاتها وتناميها  .
أما قدرات الذكاء التي تكتسب نتيجة الحياة والحياة الاجتماعية فهي : قوة برامج التفكير المكتسبة التي تم تعلمها نتيجة الحياة , وكمية المعلومات أوالمعارف الدقيقة المكتسبة , وهذا يكون عادة تابع لظروف الحياة , وبشكل خاص تأثيرات المجتمع بالنسبة لنا نحن البشر , فهذه التأثيرات هي أساس تميز تفكيرنا عن باقي الكائنات الحية .
أما حساب نسبة وزن الدماغ إلى وزن الجسم في تحديد قدرات الذكاء التي  تستعمل غالباً , فهي غير دقيقة  . إن وزن الدماغ الإنسان بشكل عام يتراوح بين 1300 غ  و2000 غ ، ووسطياً وزن دماغ الأنثى أقل بحوالي 200 غ , فهو بذلك يكون (50/1) من حجم جسم الإنسان . ويقدر وزن دماغ الفيل بين 4000 – 4500 غ , لذا يكون (500/1) من حجم الفيل . ويرى البعض أن الرجل ليس أذكى من المرأة لأن وزن دماغة أكبر . و ليس الفيل أو الحوت أذكى من الإنسان ؛ إذا اعتمد في تحديد  الذكاء  نسبة وزن الدماغ إلى وزن الجسم ككل . ولكن إذا ما قورن دماغ الإنسان بدماغ طائر السنونو فإن وزن دماغ الإنسان يشكل نسبة 2.5 % من وزن الجسم كله . أما وزن دماغ طائر السنونو فيشكل نسبة 4.2 % من وزن الجسم كله ) أي نسبة وزن الدماغ إلى وزن الجسم غير دقيقة.
والملاحظ أن الدماغ يتطور باستمرار نتيجة التعلم ، فالزوائد الشجرية تتفرع كلما اكتسبنا معلومات جديدة ، و زيادة تفرعها يزيد من الذكاء , و بالتالي قدرة أقوى على تذكر المعلومات ، فكلما زاد تشابك الخلايا العصبية في المخ زادت نسبة تواصلها وتبادلها للمعلومات والعمليات المنطقية , وهذا يجعل لوزن الدماغ وعدد خلاياه ومشابكه تأثير أساسي على كمية الذكاء .
إن البحث في تطور العقل البشري يبدأ عادة بالسؤال السهل والصعب في آن معاً وهو :
ما الذي تغير في الدماغ وسمح بالتغير في طريقة تفكيرنا وجعلنا بهذا الذكاء ؟
لقد رأى عالم النفس الكندي ميرلين دونالد أن ذلك مرتبط بطريقة تمثيل عقلنا للواقع , ووجود علاقات اجتماعية متطورة ومعقدة سمحت بتعليم ما يتم اكتسابه من معارف للأبناء وباقي أفراد الجماعة . وهو يرى أن تطور العقل له علاقة جوهرية بالطرق التي يمثل بها تجاربه و كل ما يصادفه من أشياء وحوادث . فهذا يسمح للعقل إدارة أفضل للمعلومات المخزنة فيه عن التجارب التي يعيشها . ونتيجة ذلك استطاع عقلنا تشكيل المفاهيم التي تدل على الأشياء والحوادث , وعن طريق تداول هذه المفاهيم بين الجماعة صار بالإمكان تحقيق تواصل أكثر فاعلية  ووضوح , وهذا سهل نقل الخبرات المكتسبة إلى الآخرين . وكذلك سمح باسترجاع الذكريات المخزنة بسهولة ودقة أكثر , ونقلها للآخرين . وقد حدثت قفزة كبيرة نتيجة الانتقال من التخاطب الإيمائي الإشاري إلى التخاطب الصوتي اللغوي المتطور . فقد كان نقل التجارب والمعلومات للآخرين وتعليمهم معقد وصعب باستعمال الإيماءات والإشارات , فباسخدام التمثيل المتطور نتيجة اللغة المحدية أصبح انتشار الثقافة أسهل وأسرع .
إن النموذج الذي قدمه دونالد بارتكازه على علم الأثار وعلم النفس الحديثين يمكن أن يلخص لنا قفزات عديد حصلت في كيفية إدارة المعلومات المخزنة في الدماغ , حيث كانت كل قفزة تعطي مستوى جديدة من المعرفة وحالة جديدة من الإدراك والوعي .
ويرى دونالد أن أول قفزة معرفية حدثت منذ ما يقارب مليوني سنة مع أول ظهور للبشر البدائيين من فئة الإنسان العاقل حيث تشير أدواتهم الحجرية المتناسقة إلى وجود عقل جديد يمتلك القدرة على التمثيل " الإرادي " , وكان يقوم بتمثيل وتعليم زريته ورفاقه طريقة صنع تلك الأدوات . فبذلك أصبح بمقدورالعقل القدرة على انتقاء تجربة من الماضي وإعادة تقديمها للآخرين . فقد كان يتطلب إيصال الذكريات المسترجعة بشكل " إرادي " القدرة على التمثيل ,الذي يمكّن من إيصال المعلومات التي تسمح بتعلم ونسخ ما تم صنعه سابقاً . وكان ذلك في أول الأمر يعتمد على التواصل عن طريق الإيماءات والأصوات التي ترمز نقل التنبيهات والتوجيهات و من ثم الأفكار للآخرين . فكان يرسل الشخص المعلومات بواسطة الإيماءات الجسدية والأصوات التي سبقت ظهور اللغة , ثم دمجت مع بعضها لتمثيل سلسلة من الأحداث المترابطة , ومن ثم مثلت على شكل مسرحيات بسيطة تعتمد الإيقاع والرقص .
أن تطور وارتقاء إدارة الدماغ للمعلومات المخزنة فيه والتجارب التي يعيشها , كانت منذ حولي مليوني سنة , فقد بدأ باستخدام الأدوات البسطة . لقد كان الإنسان حينها يملك قدرات جسمية متواضعة نسبياً , مع وجود بيئة وأوضاع وحوادث متنوعة كثيرة ومعقدة و خيارات كثيرة ووجود الكثير من التهديدات والأعداء . فكان بحاجة الماسة للتكيف مع الظروف والبقاء , وهذا أدى لتطور القدرات بشكل سريع , لأنه دفع الدماغ لبناء أو تشكيل برامج فكرية متطورة ومعقدة تسمح بالتعامل مع تلك الأوضاع , وبالتالي دفع الدماغ وبالذات اللحاء للتطور والنمو السريع خلال زمن قصير نسبياً . كل هذا أدى إلى توصل الدماغ لقدرات تمثيل وترميز الواقع بأفكار مناسبة . وهذا كان أهم عوامل حدوث القفزة التي ميزتنا عن باقي الكائنات الحية , وهي القدرة على التخاطب الفعال بواسطة الأيماءات والإشارات , والأهم تمثيل الواقع بلغة محكية ثم مكتوبة متطورة .

فمنذ حوالي 300 ألف سنة بدأت اللغة بالتكوّن باختراع الكلمات , وتطورت لتصبح كما هي عليه الآن , خلال 150 ألف سنة . كانت أهمية اختراع الكلمات في التواصل تتمثل في ابتكار أصوات محددة معينة أوضح وأدق من الإيماءات يتم تعليمها للصغار بسهولة . لقد سهلت اللغة عملية نقل الأفكار المتزايدة التعقيد .
والأهمية الكبرى لللغة والتي كانت العامل الأساسي في تطور الذكاء البشري بشكل جعل تفكيره ومعالجة المعلومات المدخلة لدماغه مختلفة ومميز عن باقي الكائنات الحية حتى التي دماغها أكبر بكثير من دماغه , هي أنها سمحت لكافة مركز الاستقبال الحسية أكانت سمعية أم بصرية أم شمية . . الخ  تستطيع الترابط مع بعضها بواسطة اللغة , التي استطاعت تمثيل الكثير من تأثيرات المدخلات الحسية برموز صوتية لغوية , وذلك عن طريق مناطق الارتباط الغوية في الدماغ , وهذه المناطق التي تشكلت واتسعت بشكل كبير هي الأساس الذي حقق لنا الذكاء المتميز عن كافة الكائنات الحية . فنحن الوحيدين من بين الكائنات الحية الذين نستطيع تمثيل غالبية الأحاسيس بواسطة رموز لغوية فكرية  وهي الكلمات .
لقد تطورت كثيراً طرق وأساليب الترميز والتمثيل لدينا نتيجة نشوء اللغة المحكية , فبواسطة اللغة التي هي ترميز ثاني للرموز الحسية الخام ( البصرية والصوتية وغيرها ) تم تمثيل أو ترميز واردات الحواس المختلفة بلغة أو رموز واحدة . فبواسطة اللغة المحكية ( أي الصوتية ) أو المقروءة , تم ترميز الكثير من واردات الحواس المختلفة , وأيضا تم تمثيل أحاسيسنا وعواطفنا وأفكارنا بتلك اللغة . وكان يحدث تدقيق وتصحيح  لتلك التمثيلات أو التشبيهات أو النماذج التي يبنيها دماغنا كي يكون التمثيل أدق وأكثر مطابقة للواقع . فاختراع الكلمات وسع حدود العقل والوعي . ولم يبدأ التواصل بين مناطق الذكاء هذا إلا منذ حولي 150 ألف سنة , وأخذت المعلومات عن مختلف جوانب الحياة تمثل بكلمات يتم التواصل بها بين الأدمغة . وتطورت طريقة ربط الأفكار وهذا أدى لنمو الذكاء البشري بشكل كبير وسريع وغير مسبوق . فبواسطة اللغة المحكية بدأت القصص والروايات ومن ثم الأساطير بالتشكل والتداول بين أفراد الجماعة , وهذا سمح مع أمور أخرى بنشوء وتكوّن الثقافة  الخاصة بكل جماعة , والتي صار يتم توارثها وتناميها نتيجة الحياة والتواصل الاجتماعي عن طريق هذه اللغة المحكية , وفي هذه المرحلة تم حدوث القفزة الكبيرة للتفكير والذكاء البشري التي ميزته عن باقي الكائنات الحية .
كانت اللغة المحكية تستلزم التواصل المباشر بين البشر ليتم تناقل وتوصيل المعارف والأفكار , لذلك عندما تشكلت اللغة المكتوبة , وهذا كان منذ وقت قريب حوالي 6500 سنة وهي بداية التاريخ المكتوب , تمت قفزة أخرى سمحت بتناقل المعلومات والأفكار دون التواصل المباشر , وبالتالي تركمها نتيجة توضعها أو تخزينها خارج الدماغ برموز وإشارات مادية تحفظها لفترات طويلة , وبذلك نشأ التاريخ نتيجة التواصل بين البشر الذي حدث نتيجة اللغة المكتوبة التي سمحت بانتقال الأفكار والمعلومات خلال الأجيال المتعاقبة .
وفي رأيي إن أهمية اللغة ليس فقط أنها سهلت التواصل وسمحت بتمثيل وترميز غالبة الأشياء والأفعال , بل هناك أمر هام آخر وهو أنها جعلتنا نفكر ونعالج الأفكار بشكل إرادي تسلسلي  وواعي  سببي ومنطقي . فبناء اللغة واستعمالها يعتمد التفكير السببي المنطقي التسلسلي . فهناك الإسم والفعل والصفات والحالات . . الخ لتمثيل وترميز الأشياء ومجريات الأمور, وكذلك يستخدم الفعل والفاعل والمفعول لتمثيل السببي والمنطقي لتسسل الحوادث وتطوها والتنبؤ لها , وهذا من أهم ما ميز طريقة تفكيرنا عن باقي الكائنات الحية .
كيف نشأت وتطورة لدينا اللغة المحكية من الأشارت والإيماءات إلى لغة محكية ثم مكتوبة ؟ في البدء بالتنبيه والأشارة وإعطاء الأوامر , ثم الدلالة للأسماء والأفعال , ثم التصنيف الذي اعتمد التعميم نتيجة التشابه في بعض الخصائص , مثال الطعام هو كل ماهو صالح للأكل . ثم كما ذكرنا ذكر الحوادث والقصص والروايات .
وكما ذكرنا إن أهم ما يميز دماغنا عن باقي أدمغة اكائنات الحية الأخرى جميعها هو المناطق المسؤولة عن اللغة الموجودة بين مراكز الأحاسيس في اللحاء , فلبعض الكائنات الحية مثل الفيلة والحيتان لحاء ومتطور ولكن لم تتشكل وتنمو مناطق اللغة التي تربط مراكز الإحاسيس مع بعضها كما هي مودودة لدينا . فنحن نستطيع تمثل الكثير من أحاسيسنا وأفكارنا بكلمات تدل عليها وننقلها بواسطة الكلمات المحكية للأخرين .
وكان لنشوء الثقافة والحضارة نتيجة التوارث الاجتماعي للأفكار والمعلومات والتصرفات والتقنية بكافة أشكالها , الدور الأساسي والأهم الذي جعل تفكيرنا مختلف ومميز عن باقي الكائنات الحية . فنحن البشر دماغنا لديه خصائص موروثة بيولوجياً , بالإضافة إلى أنه يكتسب موروث اجتماعي فكري ثقافي تقني , وهذا ما ميزنا عن كافة الكائنات الحية .
ويمكن أن يظهرة مقدار وأهمية الموروث الفكري الاجتماعي إذا جعلنا مولود بشري يعيش بطريقة تعزله عن كافة التأثيرات الاجتماعي , وتوفير مستلزمات الحياة والبقاء له ( لأنه يستحيل عيشه دون مساعدة كأن ترعاه حيوانات أخرى ويعيش في مجتمعها ) وجعله يعتمد على الموروث البيولوجي فقط , ودون الموروث الاجتماعي البشري , في تعامله مع ظروف الحياة . عندها نلاحظ الخصائص فكرية وتقنية التي سوف يخسرها , إنه قبل كل شيء سوف يخسر اللغة وبذلك يخسر كل ما تمنحة اللغة من ميزات فكرية عن باقي الكائنات الحية , وهذا سوف يجعله شبيه بباقي الكائنات الحية المتطورة ولن يتفوق عليها إلى قليلاُ هذا إذا تفوق .
نشوء الكائنات الفكرية لدينا
إن الأفكار هي بمثابة كائنات الفكرية وهي  بنيات غير مادية , وهي تكون عالم الفكر. ومثلما نشأت الكائنات الحية من العناصر والمركبات الكيميائية بعد أن تفاعلت حسب القوى والآليات الموجودة , كذلك نشأت الكائنات الفكرية في الأجهزة العصبية لدى الكائنات الحية . وكان نشوؤها متسلسل ومتطور , إلى أن وصلت إلى ما هي عليه لدينا في الوقت الحاضر .
 فالأفكار أو الكائنات الفكرية تتكون في أول الأمر - أوفي شكلها الخام - في الجهاز العصبي من السيالات العصبية الكهربائية الواردة من المستقبلات الحسية . فالمتقبلات الحسية بكافة أشكالها تحول - أو ترمز - بعض أنواع التأثيرات الفيزيائية - ضوئية , صوتية , حرارية , ميكانيكية , كيميائية , إلى نبضات عصبية كهربائية على شكل سيالات كهربائية عصبية , ترسل إلى الدماغ الذي يقوم بتقييمها وتصنيفها بناءً على نتائج تأثيراتها على الجسم , إن كانت مفيدة أو ضارة أو محايدة , ثم يقوم بالاستجابة بناءً على ذلك . لقد كانت وسيلة إعلامية , وكذلك وسيلة تنفيذية تقوم بالاستجابات أن كانت استجابات كيميائية فزيولوجية , أو حركية , وتطورت ليصبح جزء منها حسي واعي .
ولدى الإنسان الذي يعيش في مجتمع تطورت هذه البنيات الفكرية العصبية , فترابطت سلاسل لتشكل بنية فكرية متطورة . وقد حدثت قفزة كبيرة عندما مثلت بعض البنيات الفكرية بإشارات - أصوات وتعبيرات وحركات ومن ثم كلمات تدل عليها , وهذا أدى لنشوء البنيات الفكرية اللغوية . فهذه الدلالات - أو البنيات اللغوية الفيزيائية - عادت ودخلت إلى الدماغ كمدخلات حسية , و تحولت من جديد لبنيات فكرية خام وأصبحت بنيات فكرية دلالية أو لغوية , فهي ترمز أفكار تم إرسالها من إنسان لأخر . وبذلك نشأت وسيلة تستطيع بها هذه البنيات الفكرية الخروج من الدماغ أو العقل الذي نشأت فيه الانتقال إلى دماغ أو عقل آخر , وهذا يتم بعد أن تتحول البنيات الفكرية اللغوية إلى بنيات فيزيائية لغوية دلالية - مؤثرات فيزيائية إشارات وأصوات وحركات وإيماءات - فإذا تلقتها حواس إنسان آخر يمكن أن تصل إلى دماغه وتتحول إلى بنيات فكرية لغوية ثم إلى بنيات فكرية , هذا إذا تم فك رموزها . و بهذ استطاعت البنيات الفكرية أن تنتقل من دماغ إنسان إلى أخر , وتصبح مهيأة لكي تتوضع فيه . أي يمكن أن تتحول البنيات الفيزيائية الدلالية أو اللغوية , إلى بنيات فكرية عصبية .
كيف أصبحنا نتمثل أو نتصور الوجود مقارنة بباقي الكائنات الحية
إن نتيجة الحياة الاجتماعية والنشوء الثقافة والحضارة صار تعرفنا على الوجود ليس فقط عن طريق الحواس , فالثقافة أصبح دورها يضاهي دور الحواس في تعرفنا على الوجود . فالترميز اللغوي للأفكار والتواصل بين العقول ونشوء المعارف أو الثقافة وتناميها هو من يحدد الآن نموذج الوجود لدى كل منا . فعندما شكّل عقل الإنسان الأفكار أو البنيات الفكرية , التي استطاعت أن تمثل البنيات الواقعية وتمثل تفاعلاتها مع بعضها , تكون زمن فكري يمثّّل الحوادث و صيرورة الوقائع . فهو ( عقل الإنسان )  يستطيع أن يعرف أي يتنبأ بالأحداث , أو نتائج تفاعلات بين بنيات , حدثت في الماضي أو سوف تحدث في المستقبل . وكذلك يستطيع أن يتنبأ بحوادث أو تفاعلات لم يتأثر إلا بجزء قليل منها , فهو يكمل ما ينقصه ويضع سيناريو للكثير من تلك الحوادث . واستطاع دماغنا تشكيل نموذج مختصر وبسيط  للوجود وصيرورته , بواسطة البنيات الفكرية التي شكلها , تمكّنه من تحريك أو مفاعلة النموذج الذي شكله للوجود , إلى الأمام إلى المستقبل وهذا هو التركيب , أو إلى الخلف إلى الماضي وهو التحليل . وذلك بسرعة أكبر من سرعة تغيرات الواقع الفعلية . فالدماغ بواسطة معالجة ما يرده من المستقبلات الحسية ( أي التفكير ) يستطيع السير بتفاعلاته الفكرية بسرعة أكبر من السرعة التي تجري فيها في الواقع , أي إلى المستقبل . وكذلك يستطيع السير إلى الماضي عن طريق عكسه التفاعلات أو التحليل , ووضعه لسيناريو لما يمكن أن يكون حدث أو ما سوف يحدث , وتزداد دقة تنبؤاته باستمرار لتقترب من الواقع الفعلي .
المعالجة التسلسلية والمعالجة التفرعية أو المتوازية للأفكار .
نحن فقد من بين كافة الكائنات الحية نعتمد التفكير الإرادي ومعالجة الأفكار بطريقة تسلسلية نتيجة التفكير بوجود اللغة , وذلك بالإضافة للطريقة التفرعية التي تفكر بها غالبية الكائنات الحية . والذي يقوم بعملية المعالجة المتوازية للمدخلات الحسية هو الدماغ القديم الزواحفي والدماغ الحوفي , وكان يقوما بذلك قبل نشوء الدماغ الحديث بما فيه اللحاء . لقد كان الدماغ الزواحفي يقوم بمعالجة مجموعة مدخلات في نفس الوقت أي بالتوازي, وليس واحد بعد الآخر, فقد كان لهذا الدماغ القدرة على معالجة كافة المدخلات في نفس الوقت .
فالدماغ في أول نشأته كانت مهمته معالجة كافة المدخلات الحسية في نفس الوقت أي بالتوازي , والمثير الأقوى والأهم هو الذي يقرر الاستجابة , وذلك بعد مقارنة كافة المثيرات الداخلة للمعالجة مع بعضها في نفس الوقت . ثم بعد ذلك صارت بعض المدخلات تأخذ أهمية ليس لقوتها أو تأثيرها الحاضر ولكن لتأثيرها المستقبلي الهام , وهذا حدث نتيجة تشكل آليات الإشراط أو ترابط المثيرات مع بعضها نتيجة التجاور المكاني أو الزماني أو معانيها .
أن أهمّ خاصية للمعالجات الفكرية الإرادية الواعية لدينا والتي تميزنا عن باقي الكائنات الحية , والتي تشكلت  نتيجة استعمالنا للغة محكية وتعتمد السببية والمنطق , هي التركيزه على سلسلة مسار حوادث واحد للتفكير فيه ومعالجته من ضمن المدخلات الكثير , ومن المفيد تجنب تشتيت الانتباه عند ملاحظة المثيرات الجديدة , والتركيز على تحديد الهام منها لمعالجته هو فقط والتغاضي عن البقية , والاستمرار في ذلك المسار حتى نصل إلى نتيجة أو يحدث مثير جديد وهام يستدعي قطع المعالجة الجارية والالتفات لمعالجة هذا الجديد . فالتفكير السببي والمنطقي والرياضي يعتمدوا المعالجة بالتسلسل , لذلك هم مقيدين ومحدودين بسلسلة واحدة من الأفكار .
إن غالبية تصرفاتنا تجري بناء على أوامر وتوجيهات الدماغ القديم . وتصرفاتنا الإرادية الواعية والمعتمدة على التفكير اللغوي والسببي والمنطقي تكون بمشاركة الدماغ الحديث بما فيه اللحاء . وفي الأساس معالجة الدماغ للواردات الحسية البصرية تجري بالتوازي أو بالتفرع وفي نقس الوقت في عدة مناطق من الدماغ , وكذلك معلجة الواردات الحسية الصوتية تعالج بالتفرع , وكافة الواردات الحسية تعالج كلها في نفس الوقت .  
إن المعالجات الفكرية الإرادية الواعية لدينا التي تكون معالجة بالتسلسلة , وفي نفس الوقت تجري معالجة بالتوازي في الدماغ الزواحفي والدماغ الحوفي وتكون غير واعية , ويتم إرسال نتائج هذه المعالجة إلى سبورة الوعي , فالدماغ الحوفي ينظم دخول المثيرات والأفكار بعد أن يعالجها بالتوازي إلى سبورة الوعي , فتشارك في تحديد الاستجابة .
والشيء المهم أن المقارنة اللازمة لإجراء القياس والحكم يلزمها معالجة بالتوازي , فلكي تتم مقارنة مجموعة مدخلات أو مؤثرات أو أفكار مع بعضها البعض يجب إدخالها معاً لمعالجتها دفعة واحدة , لذلك نجد الدماغنا يستخدم المعالجة التسلسلية والمعالجة المتوازية في نفس الوقت  .
إن الواقع هو ناتج تفاعل كمية شبه لا متناهية من العناصر وتفاعل بآليات متعددة الأسباب . وهنا يكمن ( ضعف أو قوة ) التفكير الإرادي الواعي الذي يعتمد تسلسل الأفكار مقارنة بالتفكير الحدسي الذي يعتمد التفكير المتوازي للأفكار في نفس الوقت , لأنه يعتمد سلسلة واحدة من الأفكار . ومن أهم ميزات التفكير التسلسلي دقته العالية ووضوحه ( لأنه واع ) أكثر من التفكير المتوازي الحدسي .
ونحن نجد المخيخ مثال على التفكير الامتوازي , فهو أقدر بنية دماغية على المعالجة المتوازية , فهو يستطيع معالجة الكثير من أعقد الأوضاع الحركية دفعة واحدة اي في نفس الوقت مثل المشي مع المحافظة على التوازن أو ركوب دراجة . . , وتتم هذه المعالجة غالباً دون تدخل الوعي , وعندما يتدخل الوعي تنخفض قدرات المخيخ ويصبح المخيخ يعالج مسار واحد من حركات الجسم وعندها يصعب تنفيذ الحركات المتزامنة في نفس الوقت ويختل نظام أداء العمل  .
المعالجة الفكرية التسلسلية  تعتمد التسلسل زمني . قصص و روايات و سير , والتسلسل سببي أيس الأسباب والنتائج والترابطات السببية أو المنطقية , الرياضيات والهندسة ,  الفرض – الطلب -  البرهان  كمثال . وعمل دماغنا يعتمد على المشاركة بين التفكير التسلسلي والتفكير التفرعي أو المتوازي وهو يظهر على شكل حدس وإلهام , لإدارة وتنظيم كافة أمور حياتنا . وهناك اختلافات بيننا من ناحية اعتمادنا عل التفكير التسلسلي أو التفكير التفرعي , فبعضنا يركز على التفكير التسلسلي , وعادة يكون متفوق بالرياضيات والمنطق , والبعض الآخر يركز على التفكير التفرعي وعادة يكون متفوق بالشعر والأدب والموسيقى والرسم ومخيلة خصبة .


null

8
                                السعادة فن تذوق الحياة
يرى البعض أنه من الصعب تعريف السعادة بشكل دقيق , فهي تشمل أمور وأوضاع كثيرة ومتنوعة ومتشابكة , ومتناقضة أحياناً . فالألم والمعاناة تصنف غالباً بأنها من الأوضاع غير السعيدة , ولكنها في بعض الحالات تكون مترافقة مع سعادة , فالأم تعاني وتتعب في تربية أولادها والعناية بهم ولكنها غالباً تحصل على السعادة ولا تهتم بما عانت وتعبت . والمنتصر في الملاكمة يكون في أشد حالات الألم ولكن يشعر بسعادة الفوز التي تتغلب على آلامه . وفي الكثير من الأوضاع التي تستدعي التدريب والتعلم الطويل والمجهد كما في التدريبات الرياضية والتعلم في المدارس , نجد أنه عندما يتحقق النجاح أو الفوز  تتحقق السعادة وتطغى على كل الألام والمعانات التي حصلت , وهناك لذة الإيثار والعطاء والتضحية , فالمهم هو الإنجاز الذي يتحقق ويحقق الرضا . وكيفية أو طرق تحقيق السعادة كان هدف غالبية العقائد والأديان والفلسفات , فالفلسفة الأبيقورية تعتمد البحث عن السعادة الذاتية وتحقيقها  , ومذهب النفعية أو الزرائعية يعتمد البحث عن السعادة لأكبر عدد من الناس . والآن هو محط اهتمام متزايد من قبل علماء الاجتماع وعلماء النفس والقادة والسياسيين . ويرى بعضهم أن أهم عناصر السعادة هي :
الحصول على لذّات ومتع الحياة  بالاستمتاع باللذات الجسمية  الطعام والشراب والجنس . . يحقق السعادة  وهو يؤمن لنا الصحة والحياة  . الانشغال بأمر باستخدام القدرات وتحقق الإنجازات , مثال على ذلك عندما تستغرق في عمل أو هواية يمكن أن لا تشعر بالسعادة , ولكن فيما بعد سيتملكك إحساس عميق بالرضى لما أنجزته من نجاح , ولزمن طويل . الإحساس بمعنى أن تكون جزء من شيء أعظم منك مثال على ذلك كافة أشكال الانتماءات الدينية والعقائدية والاجماعية  . الوقوع في الحب أو ولادة طفل يحقق السعادة . ربح المال أو اليانصيب . البقاء في أحضان الطبيعة . في الولايات المتحدة وحسب المسح الاجتماعي مصادر السعادة الرئيسية  هي : العلاقات الأسرية , المال , العمل , العلاقات الاجتماعية , الصحة , القيم الشخصية والحرية .
إن السعادة الآن موضع دراسة موسعة من قبل قاعدة البيانات العالمية للسعادة . أسعد الشعوب حسب قاعدة البيانات العالمية هم الدنمركيون فالمالطيون فالسويسريون فالإيرلنديون فالكنديون , وأشقى الشعوب العراقيون والصوماليون .
تعريف السعادة  
شكل ونوع وطبيعة السعادة , مقدارها وشدتها , حسية أو جسمية , نفسية , فكرية أو روحية .
إن السعادة في أساسها شعور وأحاسيس , فهي تابعة لوعينا وأحاسيسنا وبغياب وعينا ينتهي كل شيء . فالسعادة في أساسها تعتمد على تحقيق أحاسيس اللذات والمتع الجسمية والفكرية , وتحاشي الألم والمعاناة أو تخفيفهم أو التكيف معهم وتحملهم ريثما ينتهوا .
في الأساس لم يكن الكائنات الحية أحاسيس , فقد كان لديها أجهزة إعلام وإنذار توجه الكائن الحي  وتساعده في تأمين مستلزمات حياته واستمرارها , فكانت توجهه لما يفيده وتحاشي ما يضره , وبعد ذلك نشأت الأحاسيس المقيمة باللذة والألم , وصار توجيه تصرفات الكائن الحي تابع أيضاً لشعور بهذه الأحاسيس اللذيذة أو المؤلمة . وصارت أهمية ومدى تأثيرها على تصرفات الكائن الحي تابع لمجال وقوة شعور الكائن الحي بهذه الأحاسيس , وبالنسبة لنا نحن البشر فإننا نملك شعور ووعي متطور وواسع جداً وهذا جعل تأثير أحاسيس اللذة والألم هو المقرر الأقوى لتصرفاتنا الواعية .
فالسعادة هي بمثابة مكافأة على استجابة أو تلبية دافع أو تصرف مفيد ( أو يعتبر مفيد ) تم القيام به وإنجازه , والألم هو بمثابة عقوبة لتصرف أو استجابة أو فعل ضار ( أو يعتبر ضار ) تم القيام به . وليس كل إحساس لذيذ يمكن أن يولد السعادة فالمخدرات والمسكرات هما مصدراً لذة وسعادة ولكنهم ضارين بالجسم والشخص , لذلك يتم تحاشيهما ولا يعتبرا مصدر للسعادة .
إننا مدفوعون لتحقيق الكثير من الدوافع ، كما أنه تنشأ لدينا وبشكل مستمر دوافع جديدة ، ونحن نشعر بالسعادة عند تحقيق دوافعنا ونشعر بالألم والإحباط عند عدم تحقيقها . والقضية الأساسية التي تسبب الفشل والإحباط وبالتالي الألم والمعاناة هي محاولة تحقيق مجموعة دوافع أو أهداف في نفس الوقت مع أن هذا شبه مستحيل ، لأن بعض هذه الدوافع متضارب ومتناقض مع بعضها ولا يمكن تحقيقها جميعاً في نفس الوقت ، ونحن لا نتبين أو ندرك ذلك لأنه غير واضح لدينا . وكذلك اختيار أهداف يصعب تحقيقها أو أن احتمال تحقيقها منخفض نظراً لإمكانياتنا أو ظروفنا يمكن أن يسبب لنا الألم والمعاناة , لذلك يكون من المهم تنظيم الدوافع والأهداف , وتوقيت تحقيقها , لكي نتمكن من خفض نسبة الفشل والإحباط إلى أقل حد ممكن ، وبالإضافة إلى ذلك الاهتمام بتحقيق أكبر قدر من دوافعنا الأساسية والهامة . ولكن كيف نحدد هذه الدوافع الأساسية الهامة ؟ ؟ إن هذا ليس بالأمر السهل أبداً . فأغلب الناس في الوقت الحاضر لا ينتبهون لذلك ، فهم يضعون أو يخلقون كثيراً من الأهداف غير المناسبة لهم ، أوهم يدفعون لتحقيق أهداف لا يستطيعون تحقيقها . وأهم الأمور كيف نتعامل مع الخسارة الحقيقية وما تسببه من معاناة واستيعابها والسعي لتخفيف تأثيراتها الضارة والسلبية .
تأثير السعادة الإيجابي نتيجة التغذية العكسية الموجبة التي تقويها وتضاعفها , وكذلك الأمر مع أحاسيس الشقاء والتعاسة .
لقد لوحظ أن الأشخاص السعداء يصبح لديهم جهاز مناعة أقوى ويتعافون من الأمراض أو من الجراحة أسرع من غيرهم , وكذلك يكونون أطول عمراً في الغالب . ويتميز الأفراد السعداء عن بقية الأفراد بأن أسلوبهم في الحياة والتعامل مع الأمور مرن  ويمكن أن يتطور ويتعدل إذا لم تنجح خططهم , فيطورون طرق أخرى أكثر جدوى . بعض الناس محظوظين فيولدون ومفاتيح السعادة في يدهم ( أو كما يقولون  : يولدون وفي فمهم ملعقة من ذهب ) , ولكن السعادة يمكن تحقيقها  بواسطة طرق كثيرة متاحة .  
وفيما يتعلق بعلم الدماغ فقد أظهر الدكتور " ريتشارد دافيدسون " أن للمشاعر السعيدة صلة بنشاط كهربائي أكبر في الفص الأمامي الأيسر من الدماغ , والمشاعر السلبية صلة بالفص الأيمن , فيظهر الناس السعداء نشاطاً أكبر في الفص الأمامي الأيسر , ويستهلكون غلوكلوز أكثر . وتظهر دارسة صور الدماغ أن الرهبان البوزيين ( وكذلك الراهبات  المسيحيين وكافة المتدينين الحقيقيين ) أنهم أكثر الناس سعادة .
وبالنسبة لنا نحن البشر هناك مصادر وعوامل متعددة لها دورها في تحقيق سعادتنا أو شقائنا وهي : دور طبيعة الجسم وخصائصه وقدراته الموروثة  , وبشكل خاص دور الأحاسيس . دور البيئة الطبيعية والمادية . دور المجتمع . دور الدين والعقائد والعادات والتقاليد . المعرفة والأفكار والإدارة . دور القدرات المتاحة , المال والجاه والسلطة . وللحصول على سعادة أكثر ومعاناة أقل . حاول تقبل الخسارة بروح رياضية , واتخاذ الإجراءات المناسبة لاستيعابها . حاول تخفيف لوم نفسك أو الندم قدر الإمكان .
دور الوراثة
إن للوراثة تأثير على المزاج والخصائص النفسية وبالتالي على سعادة الفرد , فبعض المورثات لها علاقة بكمية المواد الكيميائية في الدماغ كمادة السيروتينين التي لمستوياتها المنخفضة صلة بالشعور بالكآبة , وإذا بزيادة مستوياتها تزيل الكأبة وتحسن المزاج , ويمكن للمكسرات وبعض الفواكه تزيد أن ترفع من نسبة السيروتينين التي تسبب الشعور بالسعادة . والإنسان يملك قدرات وخصائص فكرية ونفسية كبيرة ومتنوعة تمكنه من التكيف بسرعة مع الظروف والأوضاع الجديدة , مما يؤهلة للبقاء حتى في أصعب الظروف وهناك دلائل وشواهد كثيرة على ذلك . فالإنسان مزود بخصائص وقدرات حسية موروثة هائلة التنوع وأكثر بكثير مما نتصور, فإذا أخذنا الأحاسيس الصوتية كمقياس , نجد أنه يمكن اعتبار كل حاسة بشرية أخرى تشبهها من حيث التنوع الذي يمكن الحصول عليه بالتلاعب بالدرجات و الترددات و الطبيعة. وكذلك هناك التنوع نتيجة الترابط والجمع والتداخل بين أنواع الحواس , فأحاسيس الطعام والشراب, وأحاسيس الحب , واللمس, والشم , والنظر.... وما تصاحبها من انفعالات متنوعة كثيرة, كلها يمكن العزف عليها مجتمعة في وقت واحد , كما تعزف الألحان الموسيقية في اوركسترا وبذلك نكون ما يشبه الأوركسترا التي تعزف أنواع الأحاسيس معاً . وبالإضافة لذلك هناك الأحاسيس المتطورة والخاصة بالإنسان وحده مثل الأحاسيس الدينية والفلسفية والفكرية  والروحية , والأحاسيس التي نجمت عن الفنون وبشكل خاص الأدب والسينما . وهناك أحاسيس المرافقة للانفعالات وهي كثيرة ومتنوعة, مثل أحاسيس الحب والغيرة والخوف والحقد والغضب والزهو والفخر... الخ . وبالإضافة إلى ذلك نجد عند الإنسان بشكل خاص أحاسيس جديدة تكونت نتيجة الحياة الاجتماعية والثقافية. وتتفاعل هذه الأحاسيس مع بعضها عند حدوثها معاً, فتولد مشاعر ووعي متطوراً ومعقداً, والأحاسيس الأخلاقية والدينية والروحية والفكرية والفنية وباقي الأحاسيس الاجتماعية المتطورة هي مثال على ذلك.
إن إحساسي اللذة والألم  هما غالباً مرتبطين ببعضهما , وهامان وضروريان لتوجيه وحماية الفرد وتطوره نحو الأفضل . ولكن نجد أن أغلب الأهداف الاجتماعية , والعقائد والأديان , تسعى إلى تقليل الألم والمعاناة , ولكننا نجد أن اللذة والألم وباقي الأحاسيس والانفعالات وما تنتجه من تأثيرات حسية وعاطفية بأنواع وأشكال كثيرة قد نشأت وتطورت لأنها حققت فاعلية في توجيه الكائن الحي ليحقق بقائه بتكيف مع الواقع الموجود فيه , إن كان مادياً أو اجتماعياً . فاللذة أو الألم , والانفعالات والعواطف كالغضب والخوف والحب والكراهية والشجاعة والغيرة والتنافس على المكانة وعلى التفوق , لهم الدور الهام والفعال في توجيه وتكيف الفرد مع البيئة ومع الأوضاع الاجتماعية . إن دور اللذة والألم هام جداً وفعال جداً للحفاظ على الكائن الحي وعلى نموه , فاللذة والألم هما حاميان ومنظمان لجسم الكائن الحي .
إننا كلنا نطلب اللذات ونحاشي الألم . فالهدف الأساسي المعلن ( أو غير المعلن ) للجميع هو لذة أكثر وأقوى وألم أقل أو معدوم . فالسعادة مرتبطة لدينا بشكل مباشر باللذة والممتع وتحاشي الألم . وأيضا هي مرتبطة بشكل غير مباشر بتحقيق المفيد وتحاشي الضار , وبتحقيق الدوافع والغايات أو الأهداف والإنجاز .
تأثير الإشباع والملل
أن تأثير رائحة الطعام يتغير بشكل كبير حسب كون الشخص جائعاَ أم شبعان ومتخم , وكذلك الدافع الجنسي وغالبية الدوافع . وهذا مثل الوضع في إرواء أي حاجة أو دافع , فعند حدود معينة يصبح الأرواء غير مؤثر ويحدث الملل , ويمكن أن يتحول إلى العكس فيصبح مؤلم كما في  تناول الطعام بعد الشبع . تظهر دوماً دوافع ورغبات إلى الأحاسيس الجديدة عند الذين لم يعودوا بلذّة القديمة فهم ملّوا منها لأنها لم تعد تمنحهم تلك الأحاسيس التي يرغبونها .
السعي لمشاركة الآخرين نفس الأحاسيس
إن أغلبنا يسعى لنقل أحاسيسه وأفكاره للآخرين , لأن إحداث نفس الإحساس لدى الآخر يؤدي إلى حدوث تغذية عكسية موجبة تقوي هذه الأحساس , فعندما أشاهد منظراً جميلاً أو أسمع صوتاً جميلاً أو أتناول طعاماً شهياً... أسعى إلى من يشاركني هذه الأحاسيس, لأن  مشاركة الآخر تعزز وتقوي إحساسي وتزيد من متعتي . إن هذه الخاصية , زيادة قوة الأحاسيس نتيجة مشاركة الآخرين, ناتجة عن تغذية عكسية موجبة للأحاسيس, كما في المجال الفيزيائي , والأحاسيس التي يشعر بها الإنسان أكانت فرح أم حزن . . . يمكن أن تنتقل إلى الآخر بواسطة التعابير والإيحاءات واللغة .
دور المجتمع وتأثيراته
الفرد هو جزء من المجتمع  وينعكس عليه  ما يتعرض مجتمعه من أمور , وهو في الأساس يكتسب أو يرث من مجتمعه لغته وثقافته وعقائدة وعاداته , ودور المجتمع وتأثيراته علينا الآن وبشكل خاص دور العقائد والأديان الموجودة , بالأضافة للتأثيرات الاقتصادية والسياسية والثقافية والتكنلوجيا الأخرى التي توسعت الآن بشكل كبير وصارت تأثراتها حاسمة في مدى تأثيرها على سعادة ورفاهية الأفراد .
إن للعلاقات الاجتماعية تأثيرات كبيرة وواسعة وهي مصدر سعادة وأيضاً يمكن أن تكون مصدر شقاء ومعانات , فنحن الآن نعيش ضمن دول لها خصائص الطبيعية , ولها أنظمة حكم , ولها أوضاعها السياسية والاقتصادية , ولها عاداتها وعقائدها , وهي تتأثر بباقي الأوضاع الدولية السياسية والإقتصادية , وكل هذا ينعكس على أفرادها إيجاباً أم سلباً  من ناحية سعادتهم أو شقائهم . فهناك دول تؤمن لأفراها مجالات واسعة لرفاهيتهم وسعادتهم , إن كان من ناحية الموارد الغنية بها أو من ناحية أنظمة الحكم والإدارة , وهناك دول أخرى أوضاعها صعبة تفرض على غالبية أفرادها المعانات والحياة الصعبة .
يفرض المجتمع على الأفراد أمور كثيرة فتأثير العلاقات الاجتماعية ودور العقائد والتقاليد الاجتماعية هام وفعال في مساعدة الفرد على تحمل الأوضاع القاسية . فهي تكون إيجابية فتساعد الفرد وتدعمه في تحمل الخسارات والأزمات الكبيرة , وهي أيضاً تفرض علية التنافس والصراع مما يؤدي لتعرضه لضغوط ومعانات كبيرة . فتأثيرات الحياة الاجتماعية والحياة الأسرية بشكل خاص , والعادات والتقاليد , ودور الإيحاء والعدوى بانتقال المشاعر بالمحاكاة والتقليد حلوها ومرها , والأعياد والحفلات المأتم والتعزي , هام جداً ومؤثر بشكل كبير علينا .
دور الأديان والعقائد والمعرفة  .
إن للتدين دور كبير وأساسي في تحقيق السعادة فهو يمنح الإنسان مجالات واسعة من السعادة ويساعده بشكل كبير على تحمل أو تقبل مشقات الحياة والتكيف مع الأوضاع الصعبة التي تسبب الألم والمعانات . فالحياة فيها الحلو وفيها المر , فيها اللذة والسعادة والهناء وفيها الألم والمعانات , فيها النجاح وفيها الفشل , فيها الربح وفيها الخسارة . وكان هدف كافة الأديان الأساسي التعامل مع ظروف الحياة حلوها ومرها " الإيمان بقضاء الله خيره وشره ", بالإضافة إلى دورهم الأساسي في تنظيم وضبط العلاقات الاجتماعية .
فالأديان والعقائد قامت ببناء ونشر أفكار ومناهج للتعامل مع الواقع تحقيق التوافق بين الدوافع والرغبات مع ما هو متاح وما يمكن تحقيقه . إن رجال الدين الناجحين و المؤمنين الحقيقيين هم مثال على الناس الذين نجحوا في اختيار وتنظيم وتحقيق دوافعهم وأهدافهم ، لذلك هم يحصلون على أكبر قدر من السعادة ، نظراً لأنهم يحققون غالباً أكبر قدر من دوافعهم ويتعرضون  لفشل وإحباط أقل .
إن المتدينين الحقيقيين هم مثال على الناس الذين نجحوا في اختيار وتنظيم وتحقيق دوافعهم وغاياتهم ، لذلك هم الذين يحصلون على أكبر قدر من السعادة ، نظراً لأنهم يحققون غالباً أكبر قدر من دوافعهم وأهدافهم , ويتعرضون  لفشل وإحباط أقل . إن المصائب الكبيرة القاسية كموت أبن أو أم أو شريك أو فقد ثروة كبيرة أو مرض شديد . . , يكون التعامل معها بفاعلية عندما يكون الشخص مؤمناً بالله أو بعقيد , إيمان قوي وحقيقي , وعن طريق هذا الإيمان و كيفية التعامل مع هذه الأوضاع , يستطيع هذا اشخص التعامل مع هذه الأوضاع القاسية بفاعلية وأفضل ما مكن , والذي يسمح بتحمل وتجاوز أو تحمل هذه المصائب القاسية . فالأديان والعقائد قامت ببناء ونشر أفكار ومناهج للتعامل مع الواقع تحقق التوافق بين الدوافع والرغبات مع ما هو متاح وما يمكن تحقيقه . إن الدين من أهدافه الأحاسيس الجميلة والسعيدة ولكن ليس هذا هدفه الأساسي فهدف الدين الأساسي هو الخير والمفيد للفرد وللمجتمع , وهذا يجعل الدين يتفوق على الأدب في إقبال الناس عليه وهذا ما نلاحظه بوضوح .
دور المال
علاقة المال بالسعادة هي موجبة كلما كانت الحاجة إليه كبيرة , وعند زيادته لحدود معينة يصبح تأثير الزيادة غير مؤثر . لقد لوحظ أن حصول المكاسب والربح يولد السعادة والغبطة ولكن يعود معظم الرابحين إلى حالتهم السابقة ويصبح الأمر عادي , بعكس حصول الخسارة أو الهزيمة فأن تأثيرهم يستمر فترات طويلة .
في إحدى الدراسات سئل طلبة جامعة هارفارد فيما إذا كانوا يفضلون  كون راتبهم 50 ألف دولار في السنة بينما يكون راتب الآخرون 25 ألف دولار , أم أن يكون راتبهم 100 ألف دولار بينما يطون راتب الآخرين 250 ألف دولار . فكان رد الأعلبية الخيار الأول وهو الذي يكون راتبهم أكثر من راتب الآخرين وأن كان قليل . وتأثير الربح بعد خسارة وتأثير الخسارة بعد الربح . وتأثير الوضع العام على الربح والخسارة .
الإمكانيات والقدرات المتاحة للشخص
هناك حالات وأوضاع تؤثر بشكل كبير وجزري سلبي أو إيجابي على إمكانية تحقيق سعادة الشخص , وأهمها الأوضاع الاقتصادية والمادية أكانت غنى أم فقر , الأوضاع الجسمية الصحية أم المرضية , وإعاقة قدرات أو تفوق قدرات , الأوضاع الاجتماعية والسياسة الموجود فيها الشخص .
كيف نحقق المزيد من السعادة :
إن تحقيق السعادة والهناء في الحياة يلزمه عوامل ومهارات كثيرة , ودراسات منهجية  دقيقة , ويجب أن يدرس في المدارس والجامعات والحياة العملية . فبواسطة الدراسة والعلم يمكن البحث عن مصادر السعادة وما يعطي للحياة معنى , و تحدد عوامل وطرق تحقيق السعادة .  أننا الآن نتذوق الفنون من طعام وشراب وحب وموسيقى وأدب وسينما....الخ بالإضافة إلى تذوقنا للعلاقات الاجتماعية من صداقة وتعاطف وانتماء وحب تملك وحب سيطرة.... و الكثير منا يحصر مجال تذوقه في وجبات معينة ويدمن عليها, فهناك من يجمع المال أو أي نوع من جمع الممتلكات ويتذوق لذة الجمع هذه وهو على الأغلب سوف يعاني ألم الخسارة التي لا بد من حصولها غالباً , وهناك من يسعى لتذوق أحاسيس السيطرة والتحكم والفوز بالصراعات والتنافسات فهو دوماً بين قطبي اللذة والألم الربح والخسارة وحياته الحسية مبنية على ذلك. ولكن تذوق الأدب و الفنون يكون غالباً في مجال اللذة والسعادة بكميات غير محدودة ولا تقيدها آلية الشحن والتفريغ , كما في حالة إرواء الدوافع والغرائز الأساسية - مثل لذة الطعام المحدودة بالجوع والشبع-, و ليست خاضعة لضرورة الارتفاع المستمر في المستوى أو الشدة للاستمرار في الحصول على اللذة والسعادة , فالفنون بتنوعها وكثرة مجالاتها تسمح بتجاوز الإشباع والتحديد للأحاسيس .
أن ممارسة اللذات النفسية  والفكرية وما تحدثه من أحاسيس وشعور بالراحة والأمل والسعادة منتشر  بشكل كبير بين الناس . فالأعياد والحفلات والمهرجانات , و كافة وسائل التسلية والمرح , وطقوس العبادة والصلاة والشعائر الدينية والعقائدية تتضمن دوماً  أحاسيس ومشاعر جميلة وسعيدة , لذلك يمارسها الجميع  .
إن مشكلة التعامل مع الآلام من أهم المشاكل بالنسبة لكل منا .
إن الألم واللذٌة هما المتحكمان والموجهان لأغلب استجاباتنا وأفعالنا , والألم واللذة الجسمية في بداية حياتنا شامل لكافة تعاملاتنا مع الوجود , ثم ينشأ بعد ذلك ونتيجة التعلم والتربية ,  الألم النفسي أو الفكري الذي يحدث دون مؤثر مباشر على المستقبلات الحسية . فالتعامل مع الألم واللذة الجسمي يكون بالاستجابة والفعل المناسب في أول الأمر بتحاشي الألم والسعي للذة , و التعلم يحقق التحكم بهما في حدود معينة . أما التحكم بالآلام الجسمية بشكل فعال فهو يتم عن طريق المخدر والعقاقير . أن الآلام واللذّات النفسية  تبدأ في التشكل نتيجة الحياة والتربية , فتربط الكثير من الاستجابات المحايدة , باللذة أو الألم , فالتوبيخ والشتيمة والاستهزاء والتحقير , وكذلك الخسارة والهزيمة . . . , تنتج الكثير من الآلام النفسية للذي تعلٌم معانيها . وكذلك المديح والافتخار , والربح والفوز.... تنتج اللذة والسعادة . إن الآلام وكذلك اللذّات النفسية تبدأ في التشكل نتيجة الحياة والتربية , فتربط الكثير من الاستجابات المحايدة , باللذة أو الألم , فالتوبيخ والشتيمة والاستهزاء والتحقير , وكذلك الخسارة والهزيمة . . . , تنتج الكثير من الآلام النفسية للذي تعلٌّم معانيها . وكذلك المديح والافتخار, والربح والفوز. تنتج اللذة والسعادة .
إن المنشئ والمتحكم بالآلام واللذات النفسية هو النتوء اللوزي ويساعده المهاد . فهو عندما يقرر نتيجة تقييم مثير ما , أنه ضار  , يطلب أيضاً توليد إحساس ألم نفسي مرافق , فهو بذلك يحول الضار إلى مؤلم , مثلما يحول المفيد إلى ممتع , فهو كما يقولون منشئ أحاسيس العواطف والانفعالات . فالدماغ القديم ومن ضمنه النتوء اللوزي هو الذي يعتمد التقييم وإنتاج النجاح والفشل أو الربح والخسارة  وبالتالي الشعور باللذة أو الألم . والممثل بالغرائز والانفعالات الموروثة وما تم تعلمه في بدايات الحياة , غالباً يكون سلبي ومعيق , لأنه برمج في ظروف قديمة مختلفة عن غالبية الظروف والأوضاع الحالية , فهذه البرامج وما تنتجه من استجابات يمكن أن تكون غير فعالة ومعيقة . وهذا مثال يوضح كيفية تعامل عقلنا في التقييم الأمور :
لنفرض أنك بحاجة ماسة لمبلغ 50 ألف ليرة لكي تجري عملية ضرورية لإبنك ولم تستطع تأمينه , وفي طريقك ناداك رجل فذهبت إليه ,  ودون أن يكلمك أخرج من محقظته 100 ألف ليرة وأعطاها لك . ما هو وضعك الآن ؟ إنك حتماً لا تعرف كيف تشكر هذا الرجل لكرمه وعلى ما فعله لك , إنك في قمة السعادة الآن . في هذه الأثناء مر رجل آخر فناداه الرجل اللذي أعطاك النقود , ومن ثم أعطاه 200 ألف ليرة . ما هو وضعك الآن ؟ ؟ إنك حتماً لم تعد سعيداً مع أن مشكلتك الكبرى قد حلت , ويمكن أن تستاء , إنت تفكر , لماذا أعطى الرجل الآخر أكثر مم ما أعطاك , إنه لم يعد كريماً في نظرك كما كان , وسوف يتغير تقييمك للوضع بشكل كبير .
إن ما يدخل إلى ساحة الشعور هو المهم , فهو الذي يعالج ويقيم وينتج الاستجابات والتصرفات , ففي كثير من الأحيان يكون المهم غير مدرك أو غير منتبه إليه أو غير معروف , ثم يظهر وينتبه إليه وتجري معالجته ويحدث تأثيراته , وعندها يحدث الندم ويتضخم الشعور بالخسارة والفشل . وهنا يظهر الدور الهام للتمهل والتروي والتفكير العقلاني المنطقي بالأمور لاعتماد الاستجابات والتصرفات المناسبة والمجدية .
يمكننا التحكم بتقييماتنا وأحكامنا واستجاباتنا إذا غيرنا انفعالاتنا من الحزن إلى الفرح أو من الإحباط إلى الضحك , أو من الخوف إلى الشجاعة,......الخ , فبعض الناس يلجأ للضحك في أو ضاع خاسرة لكي يحول دون إفراز المواد التي تجعل مزاجه سيئاً , لأن الضحك يؤدي إلى جعل المزاج جيداً , فهو- أي المزاج الجيد واللذة والسعادة- كان ينتج بشكل أساسي عند الفوز والنجاح والنصر, فعندما يضحك الإنسان على خسارته أو فشله تكون استجابة هذه فعالة في التعامل مع الأوضاع السيئة الخاسرة,  فإنه بذلك يحول فشله إلى نصر ولو بشكل كاذب لتلافي النتائج المزاجية السيئة الناتجة عن الفشل أو الخسارة , فالنكات تزدهر في الأوضاع السيئة والصعبة لما تحقق من فاعلية في التعامل مع هذه الأوضاع.
إن مراكز التقييم في الدماغ هي التي توجه وتتحكم بغالبية استجاباتنا وأفعالنا وعواطفنا , والمهم هو كيف نؤثر على هذه المراكز لنحقق أفضل تكيف مع الأوضاع الموجودة ونحقق في نفس الوقت أهدافنا الأساسية في الحياة بفاعلية وكفاءة, ولا نجعل الأمور غير الهامة أو البسيطة تتضخم وتسبب لنا المشاكل التي ليس لها داع .
فن تذوق الحياة والوجود .
لقد توسعت الخيارات المتاحة للإنسان للأحاسيس بشكل هائل وأصبح أمام خيارات واسعة جداً, ومع ذلك فالكثيرون منا محافظون ولا يرغبون ولا يسعون إلى التغيير أو التجديد مع أن المتاح لهم يمكنهم من الشعور بأحاسيس لا تقارن من ناحية الجمال واللذة والسعادة بما تعودوا على  الشعور به وأدمنوا عليها , والملاحظ أن غالبيتنا يقتصرون أو يتعودون على أحاسيس لذيذة أو جميلة معينة وفي مجالات معينة ويدمنون على تناولها , إلى حد يصعب أو يستحيل عليهم تذوق أحاسيس أخرى مختلفة عنها . إن بنيتنا الفسيولوجية والعصبية بالإضافة إلى بنيات المجتمع و غيرها من البنيات تفرض علينا أحاسيس معينة وأيضاً تقيد خياراتنا في  تذوق هذه الأحاسيس .
قدرات الإنسان الواسعة على التكيف مع الأوضاع الصعبة : الملاحظ أن للإنسان قدرات كبيرة على التكيف مع أصعب الأوضاع وأقصاها ( نفسياً وجسمياً ومادياً ) أكانت أوضاع طبيعية مدمرة وقاصية أو أوضاع اقتصادية أو سياسية سيئة أو حروب وصراعات طاحنة , وتحمل المعانات والصبر والمثابرة وإيجاد الحلول البديلة , والتغلب على المشاكل والأزمات .
صحيح أن هناك أوضاع وحالات قاصية جداً يصعب أو يستحيل تجاوزها مثل خسارة غزيز إبن أو أم أو زوجة , أو خسارة مالية كبير لا يمكن تحملها , أو مرض عضال , أو أوضاع أسرية أواجتماعية قاسية جداً . . الخ ويكون الحل في هذه الحالات هو الصبر والتحمل , وبمرور الزمن يتناقص بالتدريج تأثيرات هذه الأوضاع السيئة أو تتبدل الأوضاع للأحسن .  
التعامل مع المصائب الكبيرة القاسية والتي تسبب آلام ومعانات كبيرة , كموت أبن أو أم أو شريك أو فقد ثروة كبيرة أو مرض شديد . . . هذه المصائب يكون التعامل معها بفاعلية عندما يكون الشخص مؤمن بالله أو بعقيد إيمان قوية , وعن طريق هذا الإيمان , يستطيع هذا اشخص التعامل مع هذه الأوضاع القاسية بفاعلية وأفضل الممكن , والذي يسمح بتحمل وتجاوز هذه الخسارات القاسية . وغالباً مرور الزمن يخفف من تأثيراتها ولكن إلى حدود معينة , فمهما حاول الإنسان نسيانها فستظل في ذكرته يتكرر تذكرها , ولكن ألمها يكون غالباً محتمل .
إن من أهم  عوامل السعادة حسن إدارة الإنسان لأمور حياته . و هذا تابع لذكائه وما يكتسبه من معارف ومعلومات وعادات جيدة , فالحياة مليئة بعوامل المعاناة والألم والشقاء بالإضافة لعوامل السعادة واللذة , فتحاشي عوامل المعاناة وتحقيق السعادة والمتع والتكيف مع الأوضاع والظروف , والاهتمام والاعتناء بالجسم وصحته , والتغذية الجيدة والراحة والرياضة والترفيه . .  , وتحاشي الأوضاع أو الخاسرة أو السيئة , والسعي لتحقيق الإنجازات والنجاحات الممكنة والمتاحة , وفاعلية التعامل مع الآخرين والأوضاع الإجتماعية والمادية والتكيف المناسب معها , كل هذا مرتبط بطريقة الشخص في إدارة أمور حياته .

شفرة: [اختيار]

9
                                الرهاب الاجتماعي
الخوف شعور طبيعي لدى الناس ، بل لدى جميع الكائنات الحية ، وكل إنسان يستجيب لهذا الشعور بطريقة مختلفة ، ولكن قد يزيد الخوف عن حده الطبيعي فيصبح عندئذ غير طبيعي ، وهو ما يطلق عليه " الرهاب " . قد يصاب الشخص بالرهاب من أشياء عديدة مثل الخوف من الأماكن المرتفعة ، أو الأماكن العامة أو الحيوانات والزواحف إلى حد لا يتناسب مع خطورة تلك الأشياء بحيث يتحول من إنسان طبيعي إلى شخص لا يمكنه أداء وظائفه بشكل طبيعي . و من أنواع الرهاب التي تصيب الإنسان الرهاب الاجتماعي وهو : خوف وارتباك وقلق " وخجل "  الشخص عند قيامه بأداء قول أوعمل ما , أمام مرأى الآخرين أو مسامعهم , وهو يؤدي به إلى تفادي المواقف والمناسبات الاجتماعية التي يمكن أن تسبب له هذا الارتباك . ويعتبر الرهاب الاجتماعي من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً , وتصل نسبة انتشاره إلى 14 بالمئة من السكان .
إن الخوف من الغرباء يبدأ مع الطفل منذ الشهر السادس , وذلك بشكل غريزي , ويتعلم الطفل أثناء نموه كيف يفهم الآخرين ويعرف نواياهم فهو يطمئن لهذا وينزعج من ذاك أو يخاف منه , وكثيرا ما يعتري الفرد خوف من الرفض أو الانتقاد من قبل الآخرين . وبالتالي فالتجارب السلبية والإيجابية التي يعيشها في بدايات حياته ستترسخ في فكره . ومن خلال تفاعله مع الآخرين وكونه مفرض الحساسية , وفهمه موقفهم السلبي تجاهه تتكون لديه نظرة سلبية أو عدائية عن الآخرين , وأيضاً تهتز ثقته ونظرته لنفسه . ويلعب الضغط الاجتماعي دورا مهما في ذلك , قد يحدث بان يحاول الفرد أن يكون متميزا عن الجماعة وتكون أفكاره انضج من أفكار الآخرين , وعندها يقوم الآخرين بمهجمته ونقدة بسبب الغيرة . في هذه الحالات يمكن أن يتكوّن لديه الرهاب الاجتماعي نتيجة القلق والخوف والخجل من تقيم الآخرين السلبي ل – قدراته - شكله وملبسه - تصرفه وأدائه  , و يصبح يتحاشى التواصل مع الغرباء . فهو يخاف أن يظهر أو يتصرف بطريقة يمكن أن تؤدي إلى إهانته أو التقليل من شأنه . والضعف وعدم القدرة على الرد على الأهاناة أو النقد بالأضافة لعدم الثقة بالنفس  هو ما يزيد الأمور صعوبةً , والخوف منها .  وأذا كانت الجماعة المتحدث إليها صديقة ومشجعة فعندها يمكن أن لا يظهرالرهاب الاجتماعي .
يشكو غالبية الناس من الخوف من الاتصال مع جماعة , فالاتصال مع شخص واحد دوماً يكون أسهل , لقد أشارت بعض الأبحاث إلى أن 90% من الناس يشعرون بقليل من الرهبة أو الخوف من الاتصال بالآخرين الأفراد . فجميع الناس يشعرون بالارتباك أمام الجمهور في الدقائق الأولى من إلقاء محاضرة أو كلمة أو خطبة . ويعتمد طول فترة الارتباك على الموقف وحالة الفرد النفسية آنذاك , وغالباً هذا يكون لفترة قصيرة ثم يزول تدريجيا عند الأشخاص العاديين . ويلعب التدريب دورا مهما في التقليل من مثل هذا الارتباك . ويقول المثل " إذا خفت لا تقل وإذا قلت لا تخف " . أما المصاب بالرهاب الاجتماعي فهو يخاف بشكل غير طبيعي عندما يتواصل مع جماعة ، فهو يتصور أن الجميع ينظرون إليه بتمعن وانتقاد ويراقبون حركاته وسكناته . وهذا الخوف الشديد يؤدي إلى استثارةٍ قوية للجهاز العصبي غير الإرادي حيث يتم إفراز هرمون " الادرينالين " بكميات كبيرة تفوق المعتاد مما يؤدي إلى ظهور الأعراض البدنية على الإنسان الخجول في المواقف العصبية , كالتلعثم الكلام وجفاف الريق , تسارع نبضات القلب واضطراب التنفس , ارتجاف الأطراف وشد العضلات , تشتت الأفكار وضعف التركيز , وهذا ما يصعب الأمر عليه ويزيد من احتمال فشله .
يصنف الرهاب الاجتماعي ضمن أمراض أو اضطرابات القلق والتي هي عبارة عن زيادة في معدل القلق لحد أعلى من الطبيعي ، والقلق نوع من المشاعر الطبيعية فبسبب أفكار معينة عنوانها الخوف وعدم التأكد مما صار أو سيصير يبدأ الجسم بالاستجابة لهذه الفكرة بافراز مادة "الادرينالين" وهي المادة المحفزة التي تجعل كل الجسم يتحفز للدفاع عن نفسه أو الهروب من مكان الخطر .
وكما ذكرنا إن لظروف النشأة , دور في ظهور القلق عموما والرهاب الاجتماعي خصوصا ، فهناك اشياء كثيرة تجعل الثقة بالنفس مهزوزة ما يجعل الانسان لا يجرؤ ولا يستطيع التعبير عن نفسه أمام الآخرين بسهولة ، بسبب شكه في قدراته أو بسبب قسوة من حواليه فيهينونه . فيقلق ويتوتر إذا اضطر للتحدث أمام الناس أو مقابلتهم , فمن يعيش ظروفا في طفولته بهذا الشكل فإنه قد يصاب بالقلق أو الرهاب الاجتماعي تحديدا . والقلق يمكن أن يكون متوارث والدليل على هذا ان القلق ينتشر في عائلات معينة , وان المصاب بالرهاب الاجتماعي هناك احتمال أكبر ان احد اقاربه مصاب بهذه الحالة , وقد ظهر أن للوراثة دور في تشكل الرهاب الاجتماعي , فقد وجدت إحدا الدراسات أن التوائم الحقيقية إذا كان هذا الاضطراب موجود لدى أحدهما غالباً ما يوجد الدى الآخر, مما يدل على وجود عوامل وراثية كيميائية تساهم في ظهور هذاالاضطراب , وكذلك دلت دراسات على انتقاله من جيل لآخر ضمن العائلة . وفي دراسة متميزة أجريت بجامعة ستانفورد الأميركية وشملت عشرة آلاف شخص من مختلف الأعمار والشرائح الاجتماعية والعرقية، تبين أن حوالي 15% من الأفراد الذين شملهم البحث مصابون بمرض الحياء الشديد، كما وأن حوالي 40% أيضا من الذين لم يصنفوا ضمن المصابين بالمرض، أكدوا أنهم كانوا يعانون من الخجل الشديد ولكن تمكنوا من الشفاء منه بعد استخدام وسائل وسلوكيات معينة ساعدت على تخلصهم من مشكلة الخجل والحياء الزائد . وقد رأت إحدى النظريات أن المصابين به لديهم إثارة غير اعتيادية طويلة الأمد أو شديدة , تبقى بعد التعرض لموقف مقلق أو مخيف . فالخجل والقلق الشديد في المواقف الاجتماعية اضطراب نفسي اجتماعي يعاني منه الكثير من أفراد المجتمعات الإنسانية , ومن أسبابه :
- الوراثة - فقدان المهارات الاجتماعية - نظرة سلبية للنفس والذات.
إذاً : ان تفاعل كل منا مع المجتمع ينبني على مجموعة تجاربه التي تولد عنده نمط تفكير معين ، فمن يفشل مرة ويتأذى بسبب ذلك , قد يفشل المرة التالية ليس بسبب عدم قدرته لكن لأنه ترسخت عنده فكرة انه سيفشل . فيفشل . وكذلك من تعود على ان يقوم الآخرون بتخويفه واهانته عند طلبه شيئا ما ، فإنه عندما يعيش في مكان آخر تصاحبه هذه الفكرة فيخشى طلب شيء بسبب الفكرة التي ترسخت عنده انه سيهان أو يخوف عندما يطلب شيئاً . وهكذا الرهاب الاجتماعي قد يكون استجابة لفكرة خاطئة ان ما حوالي الفرد مخيف أو انه لن يقدر عليه أو أنه سيفشل فيقلق زيادة ويتحقق ما يتوقعه بسبب ذلك .
ما يراه الباحثون عموماً : ان الانسان يرث موروثا يجعل مستوى قلقه في الإطار الطبيعي وهذا الطبع الموروث يزيد أو ينقص بحسب الظروف التي يمر بها الانسان فإن مر بتجارب صعبة  متكرر ونقد جارح فإن الأفكار القلقة ستترسخ عنده ويزداد معدل القلق ليصل إلى حالة مرضية تؤثر على أداء الإنسان وحياته , فيفشل في بعض الأمور المهمة بسبب تجنبه هذا القلق الناتج عند مواجهته للمجتمع وحاجته للتفاعل معه.
وتؤكد النظريات السلوكية على حدوث تعلم شرطي وارتباط سلبي بين تحقيق الفرد لشخصيته و وجوده مع الآخرين , وأن هذا التعلم حدث خلال بدايات الحياة في عمر 4-6  سنوات, وهو يؤدي إلى حساسية مرضية قلق وخوف من المواقف الاجتماعية الشبيهة لمواقف قديمة عانى الفرد منها , وتؤكد أيضاً على أهمية المهارات الاجتماعية وضعفها في حالات الرهاب الاجتماعي , و يؤدي نقص فرص التعبير عن الذات ونقص التشجيع وازدياد التنافس والعدوانية إلى المساهمة في نشوء الرهاب الاجتماعي , وكل ما يساهم في تكوين صورة سلبية عن الذات وعدم التعبير المناسب والتشجيع يمكن أن يساهم في استمرار الرهاب الاجتماعي .
وأشهر المواقف التي يظهر فيها هذا الاضطراب :
التقدم للإمامة في الصلاة الجهرية . إلقاء كلمة أمام الطابور الصباحي في المدرسة . التحدث أمام مجموعة من الناس لم يعتد الشخص عليهم . المقابلة الشخصية . الامتحانات الشفوية . الحديث مع المسؤلين . إلقاء نكتة .إعادة بضاعة تم شراؤها . الحديث مع الجنس الآخر . الحديث على الهاتف أمام الآخرين . القيام بالواجبات الاجتماعية كتقديم الشاي والمشروبات أو مقابلة الضيوف , فمثلا عندما يقوم احدهم بأخذ فنجان الشاي والقهوة لايستطيع او قد تسقط منه . وقد تمتد هذه الحالة إلى تجنب المجتمعات عموما والهروب خشية الاحراج .
مضاعفات الرهاب .
أن الرهاب الاجتماعي يصاب به الشخص في الصغر وتظهر نتائجه في المراهقة والشباب , فتظهر تأثيراته السلبية والمعانات منها بالظهور بشكل واضح في أواخر المراهقة وأول سنوات الشباب . فيؤدي الرهاب الاجتماعي إلى صعوبة التحدث مع الأشخاص الجدد والحرمان من التعرف بهم . ويؤدي هذا النوع من الخوف إلى صعوبة في الإجادة في الكلام بحيث لا يستطيع الفرد التعبير عن ملاحظاته وقيمه , وسوف يلاقي الشخص المصاب به  صعوبة في مادة القراءة , وهذا يؤدي غالباً إلى ضعفه ياللغة . ويجعل الشخص سلبياً ومعرضاً عن المشاركة في المواقف والمناسبات الاجتماعية . ويمنعه من تطوير قدراته وتحسين مهاراته . ويؤدي إلى ضياع حقوقه دون أن يبدي رأيه . ويؤدي به إلى مصاعب حياتية ، وصراع نفسي داخلي . قد يؤدي إلى مضاعفات نفسية مثل الانطواء والاكتئاب .
علاج المشكلة
مفتاح التغلب على الرهاب الاجتماعي هو تحدي الأفكار الخاطئة التي تسيطر على الذهن عند التعرض للمواقف الاجتماعية فإذا تمكن الإنسان من تحدي تلك الأفكار والتغلب عليها فسوف تصبح الأمور أسهل .
تعلم المهارات التي تمنعك من الوقوع في الحرج في المواقف الطارئة.
الاهتمام بلباسك ومظهرك فهو يساعد بتعزز ثقتك بنفسك وبقدراتك.
التدرج في مقابلة الآخرين والتحدث أمامهم بصوت مرتفع ، ويمكن أن يبدأ بمجموعة صغيرة ممن يعرفهم ويشجعونه , فيحضر كلمة قصيرة تحضيراً جيداً وتتدرب على إلقائها مسبقاً ثم يلقيها عليهم وتكرار ذلك .
يمكن الاستفادة من البرامج النفسية والسلوكية للتغلب على الخجل وهي تجرى تحت إشراف مختص في هذا الأمر ولها نتائج باهرة
كما تلعب المظاهر المختلفة مثل : التعزيز والاطمئنان والإدراك والدوافع دورا مهما في نمو الذات . يتعلم الفرد تلك المظاهر خلال التنشئة الاجتماعية ، عن طريق العائلة والأصدقاء والمعلمين ورجال الدين
وهناك جلسات علاج سلوكي ومعرفي تقوم على دعم الفرد وتعريضه لمواطن القلق مع مساندته وحسب خطة مسبقة ، وكذلك تقوم على مراقبة الأفكار السلبية ومحاولة تغييرها . وهذا المحور مهم جداً لتخفيف انتكاسات الحالة لكن لا بد من أن يكون من يعالج بهذه الطريقة متدرب بشكل كاف . لأننا للأسف نرى انتشاراً للاخصائيين النفسيين الذين لا يعرفون كيف يقومون بهذه الجلسات العلاجية ، مما يفقد الناس الثقة في هذا التخصص وفي العلاج النفسي عموماً.
وهناك العلاج الاجتماعي وهو مهم لتخفيف الضغوط على الفرد وتصحيح ممارسة كثيرمن الأفراد الذين يعانون منه.
إن حالات القلق بطبيعتها حالات مزمنة تخف بشكل كبير نتيجة المعالجة ، لكن قد تعود بسبب استقرار الضغوط النفسية، وهذا يتفاوت من فرد لفرد , لكن الانتكاس ليس معناه فشل العلاج لكن معناه ان شدة الرهاب عالية , وأن الفرد قد يحتاج لعلاج أقوى أو علاج مستمر أو علاج نفسي فعال ومركز . أيضاً يحدث الانتكاس بسبب ارتباط الرهاب بأمراض أخرى فيرجع مع الاكتئاب مثلاً.
العلاج الدوائي :
مضادات السيتينين الحديثة , فهي العلاج الأساسي للرهاب الاجتماعي ,
المهدئات من زمر بنزوديازيبام ويمكن إعطاؤها قبل المواقف المزعجة بساعة .
هناك أدوية هي علاج لا مهدئ ، ولا تبدأ في أحداث أثر إلا بعد أسابيع، وهي مثل سيروكسات سبرام فارفارين بروزاك ريمرون لسترال وهذه لابد من استعمالها تحت إشراف طبي سواء من طبيب نفسي أو طبيب العائلة.
وهناك أدوية مهدئة سريعة للقلق: استعمالها محدود ومؤقت لكن تفيد وقت الأزمات للتغلب على القلق . وهناك أدوية تخفض الأعراض العضوية للقلق ولا تخفف القلق ذاته وهذه الأدوية تمنع الارتعاشة وجفاف الريق وزيادة النبضات مما يعطي الفرد قدرة أكثر على مقاومة القلق نفسه لقلة الأعراض العضوية.

10
تفكير العقل وتفكير القلب
أن التفكير لدينا يعتمد بشكل كبير على اللغة , وكان البعض يرى أنه لا يمكن التفكير دون لغة , وأن الحيوانات تتصرف غريزياً ودون تفكير . ولكن ظهر أن غالبية الكائنات الحية تفكر وتتصرف بناءً على معالجة فكرية لما تتعرض له من ظروف ومؤثرات حسية , وبناءً على ما تعلمته أثناء حياتها .
هناك سؤال هام :هل هناك فرق جوهري بين تفكيرنا وتفكير باقي الكائنات الحية ؟؟
غالبية الناس ترى , أو يشعرون , أن لدينا شكلين من التفكير ( وفي رايي هذا صحيح ) . الأول تفكير العقل , والثاني تفكير القلب .
والتفكير الأول وهو التفكير الواعي الإرادي المنطقي السببي , وهو تفكير تسلسلي . ففي حالة اللغة المحكية أو المكتوبة وفي حالات النقاش والجدل , وكذلك في حالات ذكر الحوادث والقصص يكون التفكير تسلسلي . وأيضاً في حالة التفكير المنطقي والتفكير السببي والرياضيات  يكون التفكير تسلسلي . وفي حالة كافة أشكال التعلم في المدارس والجامعات يستعمل التفكير التسلسلي بشكل أساسي .
أما التفكيرالثاني فهو تفكير حدسي وغير واع وشامل , مثل الألهام والوحي والإبداع في الشعر والموسيقة والعلوم  , وهو التفكير المتوازي . وألمشي والسباحة وركوب الدراجة , وكافة المهارات الجسمية والمعرفية كإلقاء الخطب والدروس المكتسبة بالتعلم تمارس بالتفكير المتوازي بشكل أساسي , مع توجيه وقيادة الفكير التسلسلي .
أن تعلم كافة الحيوانات التصرفات والمهارات مثل تعلم الصيد من أبويها أو رفاقها , يتم بستخدام التفكير المتوازي , فهي تتعلم دفعة واحدة لكثير من الأمور , وليس خطوة خطوة , فهي لا تفكر بشكل تسلسلي مثلنا لأنها لا  تستخدم لغة متطورة تجبرها على التفكير التسلسلى .
دور وأهمية اللغة :
منذ حوالي 300 ألف سنة بدأت اللغة لدينا نحن البشر بالتكوّن باختراع الكلمات , وتطورت لتصبح كما هي عليه الآن , خلال 150 ألف سنة . كانت أهمية اختراع الكلمات في التواصل تتمثل في ابتكار أصوات محددة معينة أوضح وأدق من الإيماءات يتم تعليمها للصغار بسهولة . لقد سهلت اللغة عملية نقل الأفكار المتزايدة التعقيد .
والأهمية الكبرى لللغة والتي كانت العامل الأساسي في تطور الذكاء البشري بشكل جعل تفكيره ومعالجة المعلومات المدخلة لدماغه مختلفة ومميز عن باقي الكائنات الحية , حتى التي دماغها أكبر بكثير من دماغه , هي أنها سمحت لكافة مركز الاستقبال الحسية أكانت سمعية أم بصرية أم شمية . . الخ  تستطيع الترابط مع بعضها بواسطة اللغة التي استطاعت تمثيل الكثير من تأثيرات المدخلات الحسية برموز صوتية لغوية , وذلك عن طريق مناطق الارتباط الغوية في الدماغ , وهذه المناطق التي تشكلت واتسعت بشكل كبير هي الأساس الذي حقق لنا الذكاء المتميز عن كافة الكائنات الحية . فنحن الوحيدين من بين الكائنات الحية الذين نستطيع تمثيل غالبية الأحاسيس بواسطة رموز لغوية فكرية  وهي الكلمات .
لقد تطورت كثيراً طرق وأساليب الترميز والتمثيل لدينا نتيجة نشوء اللغة المحكية , فبواسطة اللغة التي هي ترميز ثاني للرموز الحسية الخام ( البصرية والصوتية وغيرها ) تم تمثيل أو ترميز واردات الحواس المختلفة بلغة أو رموز واحدة . فبواسطة اللغة المحكية ( أي الصوتية ) أو المقروءة , تم ترميز الكثير من واردات الحواس المختلفة , وأيضا تم تمثيل أحاسيسنا وعواطفنا وأفكارنا بتلك اللغة . وكان يحدث تدقيق وتصحيح  لتلك التمثيلات أو التشبيهات أو النماذج التي يبنيها دماغنا كي يكون التمثيل أدق وأكثر مطابقة للواقع . فاختراع الكلمات وسع حدود العقل والوعي .
ولم يبدأ التواصل بين مناطق الذكاء لغوياً إلا منذ حولي 150 ألف سنة , وأخذت المعلومات عن مختلف جوانب الحياة تمثل بكلمات يتم التواصل بها بين الأدمغة . وتطورت طريقة ربط الأفكار وهذا أدى لنمو الذكاء البشري بشكل كبير وسريع وغير مسبوق . فبواسطة اللغة المحكية بدأت القصص والروايات ومن ثم الأساطير بالتشكل والتداول بين أفراد الجماعة , وهذا سمح مع أمور أخرى بنشوء وتكوّن الثقافة الخاصة بكل جماعة ,والتي صار يتم توارثها وتناميها نتيجة الحياة والتواصل الاجتماعي عن طريق هذه اللغة المحكية , وفي هذه المرحلة تم حدوث القفزة الكبيرة للتفكير والذكاء البشري التي ميزته عن باقي الكائنات الحية .
وقد كانت اللغة المحكية تستلزم التواصل المباشر بين البشر ليتم تناقل وتوصيل المعارف والأفكار , لذلك عندما تشكلت اللغة المكتوبة , وهذا كان منذ وقت قريب حوالي 6500 سنة وهي بداية التاريخ المكتوب , تمت قفزة أخرى سمحت بتناقل المعلومات والأفكار دون التواصل المباشر , وبالتالي تركمها نتيجة توضعها أو تخزينها خارج الدماغ برموز وإشارات مادية تحفظها لفترات طويلة , وبذلك نشأ التاريخ نتيجة التواصل بين البشر الذي حدث نتيجة اللغة المكتوبة التي سمحت بانتقال الأفكار والمعلومات خلال الأجيال المتعاقبة .
"" وفي رأيي إن أهمية اللغة ليس فقط أنها سهلت التواصل وسمحت بتمثيل وترميز غالبة الأشياء والأفعال , بل هناك أمرآخر هام جداً , وهو أنها جعلتنا نفكر ونعالج الأفكار بشكل مختلف عن باقي الكائنات الحية , فنحن أصبحنا نفكر بشكل تسلسلي  واعي  سببي , ومنطقي . ""
فبناء اللغة واستعمالها يعتمد التفكير السببي المنطقي التسلسلي . فهناك الإسم والفعل والصفات والحالات . . , لتمثيل وترميز الأشياء ومجريات الأمور , وكذلك يستخدم الفعل والفاعل والمفعول لتمثيل السببي والمنطقي , لتسسل الحوادث وتطوها والتنبؤ لها , وهذا من أهم ما ميز طريقة تفكيرنا عن باقي الكائنات الحية , والدور الأساسي والأهم الذي جعل تفكيرنا مختلف ومميز عن باقي الكائنات الحية .
 ويمكن  إظهار مقدار وأهمية الموروث الفكري الاجتماعي , إذا جعلنا مولود بشري يعيش بطريقة تعزله عن كافة التأثيرات الاجتماعي , وتوفير مستلزمات الحياة والبقاء له ( لأنه يستحيل عيشه دون مساعدة كأن ترعاه حيوانات أخرى ويعيش في مجتمعها ) وجعله يعتمد على الموروث البيولوجي فقط  ودون الموروث الاجتماعي البشري , في تعامله مع ظروف الحياة . عندها نلاحظ الخصائص فكرية وتقنية التي سوف يخسرها , إنه قبل كل شيء سوف يخسر اللغة وبذلك يخسر كل ما تمنحة اللغة من ميزات فكرية عن باقي الكائنات الحية , وأهمها التفكير التسلسلي , ويصبح يفكر تفكير متوازي شامل كبقية الكائنات الحية , وهذا سوف يجعله شبيه بباقي الكائنات الحية المتطورة ولن يتفوق عليها إلى قليلاُ هذا إذا تفوق .
المعالجة التسلسلية والمعالجة التفرعية أو المتوازية للأفكار .
نحن فقد من بين كافة الكائنات الحية نعتمد التفكير الإرادي ومعالجة الأفكار بطريقة تسلسلية نتيجة التفكير بوجود اللغة , وبالإضافة للطريقة التفرعية التي تفكر بها غالبية الكائنات الحية . والذي يقوم بعملية المعالجة المتوازية للمدخلات الحسية هو الدماغ القديم الزواحفي والدماغ الحوفي , وكان يقوما بذلك قبل نشوء الدماغ الحديث بما فيه اللحاء . لقد كان الدماغ الزواحفي يقوم بمعالجة مجموعة مدخلات في نفس الوقت أي بالتوازي, وليس واحد بعد الآخر, فقد كان لهذا الدماغ القدرة على معالجة كافة المدخلات في نفس الوقت . فالدماغ في أول نشأته كانت مهمته معالجة كافة المدخلات الحسية في نفس الوقت أي بالتوازي , والمثيرات الأقوى والأهم هي التي تقرر الاستجابة , وذلك بعد مقارنة كافة المثيرات الداخلة للمعالجة مع بعضها في نفس الوقت . ثم بعد ذلك صارت بعض المدخلات تأخذ أهمية ليس لقوتها أو تأثيرها الحاضر ولكن لتأثيرها المستقبلي الهام , وهذا حدث نتيجة تشكل آليات الإشراط أو ترابط المثيرات مع بعضها نتيجة التجاور المكاني أو الزماني أو معانيها ( أي التعلم ) .
أن أهمّ خاصية للمعالجات الفكرية الإرادية الواعية لدينا والتي تميزنا عن باقي الكائنات الحية , والتي تشكلت  نتيجة استعمالنا للغة محكية وتعتمد السببية والمنطق , هي التركيزه على سلسلة مسار حوادث واحد للتفكير فيه ومعالجته من ضمن المدخلات الكثير , فمن المفيد تجنب تشتيت الانتباه عند ملاحظة المثيرات الجديدة , والتركيز على تحديد الهام منها لمعالجته هو فقط والتغاضي عن البقية , والاستمرار في ذلك المسار حتى نصل إلى نتيجة أو يحدث مثير جديد وهام يستدعي قطع المعالجة الجارية والالتفات لمعالجة هذا الجديد . فالتفكير السببي والمنطقي والرياضي يعتمدوا المعالجة بالتسلسل , لذلك هم مقيدين ومحدودين بسلسلة واحدة من الأفكار .
إن المعالجات الفكرية الإرادية الواعية لدينا  تكون معالجة بالتسلسلة , وفي نفس الوقت تجري لدينا معالجة بالتوازي في الدماغ الزواحفي والدماغ الحوفي وتكون غير واعية , ويتم إرسال نتائج هذه المعالجة إلى سبورة الوعي , فالدماغ الحوفي ينظم دخول المثيرات والأفكار بعد أن يعالجها بالتوازي إلى سبورة الوعي , فتشارك في تحديد الاستجابة . فالشيء المهم أن المقارنة اللازمة لإجراء القياس والحكم يلزمها معالجة بالتوازي , فلكي تتم مقارنة مجموعة مدخلات أو مؤثرات أو أفكار مع بعضها البعض يجب إدخالها معاً لمعالجتها دفعة واحدة , لذلك نجد الدماغنا يستخدم المعالجة التسلسلية والمعالجة المتوازية في نفس الوقت  .
إن الواقع هو ناتج تفاعل كمية شبه لا متناهية من العناصر وتتفاعل بآليات متعددة الأسباب . وهنا يكمن ( ضعف أو قوة ) التفكير الإرادي الواعي الذي يعتمد تسلسل الأفكار مقارنة بالتفكير الحدسي الذي يعتمد التفكير المتوازي للأفكار في نفس الوقت , لأنه يعتمد سلسلة واحدة من الأفكار . ولكن من أهم ميزات التفكير التسلسلي دقته العالية ووضوحه ( لأنه واعي ) أكثر من التفكير المتوازي الحدسي .
ونحن نجد المخيخ مثال على التفكير الامتوازي , فهو أقدر بنية دماغية على المعالجة المتوازية , فهو يستطيع معالجة الكثير من أعقد الأوضاع الحركية دفعة واحدة اي في نفس الوقت مثل المشي مع المحافظة على التوازن أو ركوب دراجة . . , وتتم هذه المعالجة غالباً دون تدخل الوعي , وعندما يتدخل الوعي تنخفض قدرات المخيخ ويصبح المخيخ يعالج مسار واحد من حركات الجسم وعندها يصعب تنفيذ الحركات المتزامنة في نفس الوقت ويختل نظام أداء العمل  .
إن المعالجة الفكرية التسلسلية  تعتمد التسلسل زمني . قصص و روايات و سير , والتسلسل سببي أي الأسباب والنتائج والترابطات السببية أو المنطقية , الرياضيات والهندسة ,  الفرض – الطلب -  البرهان  كمثال . وعمل دماغنا يعتمد على المشاركة بين التفكير التسلسلي والتفكير التفرعي أو المتوازي وهو يظهر على شكل حدس وإلهام , لإدارة وتنظيم كافة أمور حياتنا . وهناك اختلافات بيننا من ناحية اعتمادنا عل التفكير التسلسلي أو التفكير التفرعي , فبعضنا يركز على التفكير التسلسلي , وعادة يكون متفوق بالرياضيات والمنطق , والبعض الآخر يركز على التفكير التفرعي وعادة يكون متفوق بالشعر والأدب والموسيقى والرسم ومخيلة خصبة .

11
الأخت الكريمة الأستاذة شرشبيل .
شكراً لمرورك وشكراً لك .
تحياتي

12
الأزمة الاقتصادية أسبابها و تأثيراتها  

أهم عوامل وأسباب الأزمة .
يمكن القول بان نمو الفوائض المالية في العالم نتيجة عدة عوامل أهمها زيادة غير مسبوقة بأسعار النفط وتحقيق بعض بلدان العالم لمعدلات نمو كبيرة أدى إلى زيادة في الإيداعات في المصارف العالمية ، وفي الولايات المتحدة عززت بعض الظروف السياسية اتخاذ قرارات باتجاه خفض الفوائد على الإقراض هذه الأمور مجتمعة أدت إلى توفر ما يمكن تسميته بـ "المال السهل". هذا المال الذي ذهب كتلة كبيرة منه باتجاه القروض العقارية ذات التصنيف الائتماني المنخفض ، أي القروض التي أعطيت بضمانات غير كافية ، أدت إلى نشوء طفرة في القطاع السكني وارتفاع أسعار العقارات
والسبب الرئيسي للازمة كما يرى الدكتور فؤاد شاكر رئيس اتحاد المصارف العربية هو التوسع الكبير في القروض العقارية في السوق الأمريكي اعتمادا على الارتفاع الكبير في أسعار العقارات. لكن مع تراجع النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة تراجعت أسعار العقارات من جهة، وتوقف مقترضون عن سداد ديونهم للبنوك مع زيادة البطالة من جهة أخرى ، وبالتالي وجدت البنوك أنها لا تستطيع بيع العقارات لاسترداد قيمة القروض لان قيمة هذه العقارات، ببساطة، أصبحت اقل كثيرا من قيمة القروض. والنتيجة، حسب وصفه، ان فقاعة القروض العقارية قد انفجرت.
ويضيف الدكتور إبراهيم البدوي الخبير الاقتصادي بالبنك الدولي ، ان المؤسسات المالية تشتري سندات مالية securities بضمان الديون العقارية، وهذه السندات المالية يتم إعادة إنتاجها وإعادة بيعها في السوق الموازية Secondary market عدة مرات طالما ان هناك من يشتريها، بمعنى آخر يتم تداول القروض العقارية في الأسواق دون رقابة ودون ضوابط. صحيح ان تدوير رؤوس الأموال يؤدي إلى خلق فرص تمويلية جديدة ، لكنه أيضا يحمل مخاطر كبيرة ، خاصة وان جانبا كبيرا من هذه القروض العقارية تصبح بلا ضمان إذا انهارت أسعار العقارات ، وهو ما حدث.
جذور الأزمة , تطورات التمويل العقاري
شهدت نظم التمويل العقاري تغيرات كبيرة في العديد من الاقتصادات المتقدمة. فحتى الثمانينيات، خضعت أسواق الرهن العقاري لدرجة عالية من التنظيم، وكان الائتمان العقاري يخضع لسيطرة جهات الإقراض المتخصصة التي واجهت قدرا محدودا من التنافس في الأسواق المجزأة . وقد وضعت القواعد التنظيمية حدودا قصوى لأسعار الفائدة وحدودا للقروض العقارية وفترات السداد. وأسفرت هذه القواعد التنظيمية عن ترشيد استخدام الائتمان في أسواق الرهن العقاري .
ومع تحرير أسواق الرهن العقاري الذي بدأ في أوائل الثمانينيات في العديد من الدول المتقدمة، ظهرت الضغوط التنافسية من جهات الإقراض غير التقليدية. وكانت النتيجة أن أصبحت الأسعار أكثر تفاعلا واتسع نطاق الخدمات المتاحة، مما أدى إلى زيادة فرص المستهلكين للحصول على القروض العقارية.
ففي الولايات المتحدة تزامنت عملية تحرير أسواق التمويل العقاري مع الإلغاء التدريجي للقيود على أسعار الفائدة في أوائل الثمانينيات. وفي الوقت ذاته ترتب على نشأة سوق ثانوية للرهن العقاري سهولة كبيرة في تمويل القروض العقارية عن طريق أسواق رأس المال. فأدى ذلك إلى تشجيع مجموعة كبيرة من البنوك والمؤسسات المالية الأخرى على دخول سوق الرهن العقاري.
أسباب الأزمة
لقد شكل وضع شركتي فاني ماي و فريدي ماك "تحت الوصاية" خطوة غير متوقّعة في مسار أزمة الرهونات العقارية التي هي أساس العاصفة المالية القائمة. هاتان المؤسستان اللتان ترمزان إلى ضخامة الفقاعة المالية، كانتا تغطيان بمفردهما مخاطر 45 في المئة من القروض العقارية الأميركية .
كانت مهمّة مؤسّستا Fannie Mae Fannie Mae وFreddie Mac هي تأمين سيولة سوق القروض العقاريّة، من خلال تأمين هذه القروض أو عبر شرائها من المصارف. كذلك تمّ تشجيع الإقتراض نظراً لإمكانيّة خصم الفائدة على الدين العقاريّ من ضريبة الدخل. وكانت Fannie Mae وFreddie Mac تموّلان نشاطاتهما من خلال إصدار سندات معروفة باسم "سندات المنازل المضمونة عقاريّاً" (Residential Mortgage-based Securities, RMBS)، والتي لم يكن نجاحها لدى المستثمرين غريباً عن القناعة بأنّ الحكومة الأميركية كانت تضمنها، ولو دون إعلانٍ صريح.
وقد ازدادت وتيرة نموّها المتسارعة باستمرار، بالتزامن مع إلغاء القيود على المنظومة المالية. ففي العام 1990، كانت المؤسّستان تمتلكان 740 ملياراً من القروض. وقد ارتفع هذا الرقم ليبلغ 1250 مليار دولار في العام 1995، وليتخطّى 2000 ملياراً في العام 1999 ثمّ 4000 مليار في العام 2005. وعشيّة تأميمهما، كان في حوزتهما 5400 مليار دولار (3825 مليار يورو)، أي ما يعادل 45 في المئة من الرقم الشامل للقروض العقاريّة في الولايات المتحدة. من جهة أخرى، كانت الشركتان تدعمان بمفردهما 97 في المئة من السندات المُرفقة بقروض الرهن العقاري. ويمكن تفسير تسارع وتيرة النموّ بالتأثير المتزاوج للفقاعة العقاريّة بين العامين 2001 و2006 وبالتطوّرات التي تحقّقت في مجال الهندسة الماليّة.
كان مهندس هذا الانفجار العقاريّ وأحد أشدّ المؤيّدين للابتكار المالي، هو السيّد "" آلان غرينسبان "" بلا منازع، الرجل الذي أدار الخزينة الفيدرالية الأميركية (Fed) والذي أطلقت عليه الأوساط المالية، بالإجماع تقريباً، اسم "المايسترو" [2]. فتصاريحه المتعاقبة كانت تحدّد الفكر الذي سيسيطر على الدوائر الماليّة.
ففي العام 2002، اعتبر أنّه "ما من سياسة قادرة على وضع حدٍّ لتضخّم فقّاعة ماليّة"، مع استمراره بتغذية هذه الفقّاعة من خلال سياساته التي اعتمدت على خفض معدلات الفوائد.
وفي العام 2004، أكّد على أنّ "الاحتمال ضئيلٌ في حصول انخفاض قويّ في أسعار الأسواق العقاريّة في الولايات المتّحدة، نظراً إلى حجمها وتنوّعها". ثمّ أضاف في العام 2005: "في حال انخفضت أسعار المساكن، لن يترتّب على ذلك عواقب مهمّة على الاقتصاد الكلّي". وفي العام نفسه، اعتبر أنّ "الآليّات الماليّة الأكثر فأكثر تعقيداً قد ساهمت في تطوير نظامٍ ماليٍّ مرن، فعّال وصلب أكثر من الذي كان موجوداً منذ ربع قرن". أمّا، في العام 2006، عشيّة انفجار الفقّاعة العقاريّة، وفي حين لم يعد ربّ عمل الخزينة الفيدرالية الأميركية، فقد اعتبر أنّه "تم بلا شكّ تجاوز أسوأ انخفاض للأسواق العقاريّة [3]".
كان تأثير تلك التصريحات أن شجّعت الاستثمار في أسهم وسندات شركتي Fannie Mae وFreddie Mac اللّتيْن شهدتا حينها نموّاً وأرباحاً قياسيّين . غير أنّ هذا العصر الذهبيّ كان ملطّخاً بالفضائح . ففي العام 2004، اتُّهمت شركة Fannie Mae بتزوير حساباتها بهدف منح علاواتٍ أكبر لمديريها. واضطّر مدراؤها الثلاثة على الاستقالة ودفع غرامة بقيمة 100 مليون دولار. وفي العام 2006، حُكِمَ على شركة Freddie Mac بدفع 3.8 مليون دولار لممارستها الضغط بصورة غير شرعيّة لمصلحة أعضاءٍ في مجلس النواب مكلَّفين بمراقبة نشاطاتها. هكذا سمح الموقع الهجينيّ  لماردي القرض الرهنيّ لهما بالانغماس إلى الآخر في لعبة خلط الطبيعة (بين المال العام والخاص). فبالرغم من مهمّتهما الإجتماعيّة - مهمّة السماح بالتملّك لأكبر عددٍ ممكنٍ من الناس - كانتا تحاولان رفع نسب أرباح المساهمين فيها وخاصّة مدرائها، إلى أقصى حدّ. وعلى سبيل المثال، كانت تصل رواتب كلٍّ من رؤساء شركتي Fannie Mae وFreddie Mac ، إلى مبلغ 70 مليون دولار سنوياً.
اكتسبت الشركتان في الواقع نفوذاً سياسياً ضخماً. وكانتا تظهران سخاءً كبيراً إزاء أعضاء الكونغرس في كلي الحزبيْن، الذين كانوا يخفّفون باستمرار من القيود القانونيّة التي كانت تخضع لها. النتيجة: أنّ انعدام الشفافيّة أصبح هو السائد، في حين أنّ المعايير الاحترازيّة المعتَمَدَة نظريّاً بدأت تتراخى  بشكلٍ متنناقض ، عندما اندلعت، في آب/أغسطس 2007، الأزمة المسمّاة بـ"أزمة الرهون العقارية المخاطرة" subprime، كان من المريح التفكير بأنّ Fannie Mae وFreddie Mac ستنجوان من الإعصار. فقد كانتا تحافظان على نمّوهما، ولم تكن "الأسواق" تعير أيّ انتباهٍ إلى الشوائب في آليّة عملهما. وفي حين ارتفع عدد العائلات التي لم تعُد قادرة على تسديد قروضها بشكلٍ خطير، كانت الهيئات التنظيميّة تمنح ماردي القرض الرهنيّ تنازلات جديدة.
في 19 آذار/مارس 2008 (أي بعد ثلاثة أيام على "عمليّة الإنقاذ" في اللحظة الأخيرة لمصرف Bear Stearns)، سمحت وزارة المال، بحجة إيقاف انهيار القطاع العقاريّ وتثبيت الأسواق المالية، لـ Fannie Mae وFreddie Mac بتقليصٍ بنسبة الثلث للرساميل التي كان يفترض بها احتيازها لمواجهة التزاماتها. غباوة أو تضليل؟
ردّاً على من رأى في ذلك خطوةً نحو ضخّ أموال حكومية فيهما، قال جيمس لوكهارت، مدير الهيئة الرقابية المشرفة عليهما:
"الضخّ الحكومي لا منطق له. فتلك الشركتان في وضعٍ صحيٍّ ومتينٍ، وستبقيان كذلك".
في النهاية، تغلّب تكدّس الخسارات على السيناريوهات المتفائلة للمحلّلين الماليّين [4]. عندها تمّ تفحّص عمل وخلل نظام القرض الرهنيّ بدقّة. وتوصّلت "الأسواق" إلى التالي:
إنّ انهيار سندات "الرهون العقارية المخاطرة" الموجودة بحوزة Fannie وFreddie، وارتفاع عدد المقترضين المفلسين، والانخفاض المستمرّ للسوق العقاريّة، والتخوّفات من حصول أزمة ركود، لهي كلّها عناصر تركّب لوحةً ذات انعكاساتٍ مقلقة.
لوموند ديبلوماتيك .
الدكتور حاز الببلاوي يبسط ويشرح المشكلة وأبعادها
تتطلب البداية أن نفهم أن هناك تفرقة أساسية بين ما يمكن أن نطلق عليه "الاقتصاد العيني أو الحقيقي" وبين "الاقتصاد المالي".
فأما " الاقتصاد العيني" وهو ما يتعلق بالأصول العينية ، فهو يتناول كل الموارد الحقيقية التي تشبع الحاجات بطريق مباشر (السلع الاستهلاكية) أو بطريق غير مباشر (السلع الاستثمارية).
"فالأصول العينية" هي الأراضي وهي المصانع، وهي الطرق، ومحطات الكهرباء، وهي أيضاً القوى البشرية. وبعبارة أخرى هي مجموع السلع الاستهلاكية التي تشبع حاجات الإنسان ، ولكنها أيضاً تتضمن الأصول التي تنتج هذه السلع (السلع الاستثمارية) من مصانع وأراضي زراعية ومراكز للبحوث والتطوير.. الخ. وهكذا فالاقتصاد العيني أو الأصول العينية هو الثروة الحقيقية التي يتوقف عليها بقاء البشرية وتقدمها.
وإذا كان الاقتصاد العيني هو الأساس في حياة البشر وسبيل تقدمهم، فقد اكتشفت البشرية منذ وقت مبكر أن هذا الاقتصاد العيني وحده لا يكفي بل لابد وأن يزود بأدوات مالية تسهل علميات التبادل من ناحية، والعمل المشترك من أجل المستقبل من ناحية أخرى. ومن هنا ظهرت الحاجة إلى "أدوات" أو "وسائل" تسهل التعامل في الثروة العينية. ولعل أول صور هذه الأدوات المالية هي ظهور فكرة "الحقوق" على الثروة العينية.
فالأرض الزراعية هي جزء من الثروة العينية وهي التي تنتج المحاصيل الزراعية التي تشبع حاجة الإنسان من المأكل وربما السكن وأحياناً الملبس . ولكنك إذا أردت أن تتصرف في هذه الأرض فإنك لا تحمل الأرض على رأسك لكي تبيعها أو تؤجرها للغير، وإنما كان لابد للبشرية أن تكتشف مفهوماً جديداً اسمه "حق الملكية" على هذه الأرض. فهذا "الحق القانوني" يعني أن يعترف الجميع بأنك (المالك) لهذه الأرض.
وهكذا بدأ ظهور مفهوم جديد اسمه "الأصول المالية" باعتبارها حقوقاً على الثروة العينية. وأصبح التعامل الذي يتم على هذه "الأصول المالية" باعتبارها ممثلاً للأصول العينية.
فالبائع ينقل إلى المشتري حق الملكية، والمشتري تنقل إليه الملكية العينية من المالك القديم بمجرد التعامل في سند الملكية. وأصبح التعامل الذي يتم على هذه الأصول المالية (سندات الملكية) كاف لكي تنتقل ملكية الأصول العينية من مالك قديم إلى مالك جديد.
ولم يتوقف الأمر على ظهور أصول مالية بالملكية، بل اكتشفت البشرية أن التبادل عن طريق "المقايضة" ومبادلة سلعة عينية بسلعة عينية أخرى أمر معقد ومكلف ، ومن ثم ظهرت فكرة "النقود" التي هي أصل مالي، بمعنى أنها بمثابة "حق"، ولكن ليس على أصل محدد بعينه (أرض معينة أو سلعة معينة) وإنما هي حق على الاقتصاد كله.
فمن يملك نقوداً يستطيع أن يبادلها بأية سلعة معروضة في الاقتصاد. أي أن "النقود" أصبحت أصلاً مالياً يعطى صاحبها الحق في الحصول على ما يشاء مما هو متاح في الاقتصاد من السلع والخدمات المعروضة للبيع.
فالنقود في ذاتها ليست سلعة، فهي لا تشبع الحاجات، فهي لا تؤكل ولا تشبع حاجة الملبس أو المسكن ، وفقط الاقتصاد العيني من سلع وخدمات يسمح بذلك , أي أن "النقود" هي مجرد أصل مالي أو حق على الأصول العينية  ، ولكن وجودها والتعامل بها يساعد على سهولة التبادل والمعاملات في السلع العينية.
ولم يتوقف تطور "الأصول المالية" على ظهور حق الملكية أو ظهور النقود كحقوق مالية على موارد عينية محددة أو على الاقتصاد في مجموعه، بل اكتشف أيضاً أن الكفاءة الاقتصادية تزداد كلما اتسع حجم المبادلات ولم يعد قاصراً على عدد محدود من الأفراد أو القطاعات , فالقابلية للتداول ترفع القيمة الاقتصادية للموارد. ومن هنا ظهرت أهمية أن تكون هذه الأصول قابلة للتداول.
وبشكل عام تأخذ هذه الأصول المالية التي تتداول عادة أحد شكلين، فهي إما تمثل حق الملكية على بعض الموارد (أرض زراعية أو مصانع أو غير ذلك) أو تأخذ شكل دائنية على مدين معين (فرد أو شركة).
وقد تطورت أشكال الأصول المالية الممثلة للملكية (الأسهم) مع ظهور الشركات المساهمة، كما تطورت أشكال الأصول المالية الدائنة (أو المديونية) مع تطور الأوراق التجارية والسندات . ومع اكتسابها لخاصية القابلية للتداول ، أصبحت هذه الأصول أشبه بحقوق عامة على الاقتصاد القومي.
وهكذا جاء ظهور الأوراق المالية من أسهم وأوراق تجارية وسندات مما زاد من حجم الأصول المالية المتداولة التي تمثل الثروة العينية للاقتصاد. وساعد وجود هذه الأصول المالية المتنوعة على انتشار وتوسع الشركات وتداول ملكيتها وزيادة قدرتها على الاستدانة.
ولكن الأمر لم يقتصر على ظهور هذه الأصول المالية الجديدة (أسهم وسندات وأوراق تجارية) بل ساعد على انتشار تداولها ظهور مؤسسات مالية قوية تصدر هذه الأصول باسمها وحيث تتمتع بثقة الجمهور مما أدى إلى زيادة تداول هذه الأسهم والسندات بين الجمهور.
فمن ناحية ظهرت البورصات التي تتداول فيها هذا الأصول المالية مما أعطى المتعاملين درجة من "الثقة" في سلامة هذه الأصول المالية المتداولة فيها ، ومن ناحية أخرى فإن المؤسسات المالية الوسيطة (البنوك بوجه خاص) حين تتدخل في عمليات التمويل فإنها تحل، في الواقع، مديونية هذه البنوك التي تتمتع بثقة كبيرة لدى الجمهور، محل مديونية عملائها.
فالعميل يتقدم للبنك للحصول على تسهيل أو قرض، ومديونية هذا العميل للبنك تستند إلى ملاءته المالية والثقة فيه، ولكن ما أن يحصل العميل على تسهيل البنك فإنه يتصرف في هذا "التسهيل" كما لو كان نقوداً لأن البنوك تتمتع بثقة عامة في الاقتصاد.
وهكذا فإن البنوك تحول المديونيات الخاصة للعملاء إلى مديونيات عامة نتيجة لما تتمتع بثقة كبيرة لدى الجمهور فيقبل عليها المتعاملون لأنهم يثقون في هذه البنوك.
فالاقتصاد المالي، والحال كذلك، يتكون من أدوات ومؤسسات مالية.
فهناك أولاً مجموعة من الأدوات المالية في شكل رموز من حقوق ملكية أو دائنية أو غير ذلك من الالتزامات على أصول الاقتصاد العيني من موارد طبيعية أو بشرية.
 كذلك هناك العديد من المؤسسات التي تتعامل في هذه الرموز (الأصول المالية) بالإصدار والتداول والتقييم والترويج . وقد لعب القطاع المصرفي - والقطاع المالي بصفة عامةـ دوراً هائلاً في زيادة حجم الأصول المالية المتداولة وزيادة الثقة فيها. وبدأت بوادر أو بذور الأزمات المالية عندما بدأ انقطاع الصلة بين الاقتصاد المالي والاقتصاد العيني.
فالتوسع المالي تعمق بإصدار أنواع متعددة من الأصول المالية المتنوعة استقلالاً عن الاقتصاد العيني، وبحيث أصبحت للأسواق المالية حياتها الخاصة بعيداً عما يحدث في الاقتصاد العيني. وهنا موطن الداء ؛ التوسع الكبير في الأصول المالية.
وهكذا تظهر حقيقة الأزمة المعاصرة باعتبارها أزمة "مالية" بالدرجة الأولى نجمت عن التوسع الكبير في الأصول المالية على نحو مستقل ـ إلى حد كبيرـ عما يحدث في "الاقتصاد العيني". كيف؟
يرجع ذلك إلى المؤسسات المالية التي أسرفت في إصدار الأصول المالية ـ وخاصة أصول المديونيات ـ بأكثر من حاجة الاقتصاد العيني.
ومع هذا التوسع الكبير في إصدار الأصول المالية، زاد عدد المدينين وزاد بالتالي حجم المخاطر إذا عجز أحدهم عن السداد ، وهناك ثلاثة عناصر متكاملة تفسر هذا التوسع المجنون في إصدار الأصول المالية خلال السنوات الأخيرة.
أما العنصر الأول فهو زيادة أحجام المديونية أو ما يطلق عليه اسم الرافعة المالية , وهنا أصل المشكلة ، فقد بالغت المؤسسات المالية في التوسع في هذه الأصول للمديونية. وهي ليست مجرد مديونيات فردية وإنما تأخذ عادةً شكل مديونيات قابلة للتداول في الأسواق المالية، وبالتالي فهي أشبه بالمديونيات العامة. فهي جزء من الثروة المالية. وكانت التجارب التاريخية السابقة قد تطلبت ضرورة وضع الحدود على هذا التوسع في الإقراض.
لذلك حددت اتفاقية بازل للرقابة على البنوك حدود التوسع في الإقراض ـ وبالتالي الاقتراض ـ للبنوك بألا تتجاوز نسبة من رأس المال المملوك لها . فالبنك لا يستطيع أن يقرض أكثر من نسبة محددة لما يملكه من رأس مال واحتياطي، وهذا هو ما يعرف " بالرافعة المالية ".
ورغم أن البنوك المركزية تراقب البنوك التجارية في ضرورة احترام هذه النسب، فإن ما يعرف باسم بنوك الاستثمار في الولايات المتحدة لا يخضع لرقابة البنك المركزي، ومن هنا توسعت بعض هذه البنوك في الإقراض لأكثر من ستين ضعف حجم رؤوس أموالها كما في حالة بنك UBS، ويقال أن الوضع بالنسبة لبنك Lehman كان أسوأ . ولكن التوسع في الإقراض لا يرجع فقط إلى تجاهل اعتبارات الحدود المعقولة للرافعة المالية لكل مؤسسة بل أن النظام المالي في الدول الصناعية قد اكتشف وسيلة جديدة لزيادة حجم الإقراض عن طريق اختراع جديد اسمه المشتقات المالية ، وهو اختراع يمكن عن طريقة توليد موجات متتالية من الأصول المالية بناءً على أصل واحد كما سيتضح من المثال الذي سوف نعرضه عن تركيز الإقراض على قطاع أو قطاعات محدودة .
والعنصر الثاني للأزمة، وهو تركيز الإقراض على قطاع أو قطاعات قليلة وأثر ذلك على زيادة المخاطر.
وقد ولدت الأزمة الأخيرة نتيجة لما أطلق عليه أزمة الرهون العقارية. فالعقارات في أمريكا هي أكبر مصدر للإقراض والاقتراض . يشتري المواطن بيته بالدين مقابل رهن هذا العقار، ثم ترتفع قيمة العقار في السوق، فيحاول صاحب العقار الحصول على قرض جديد مقابل ارتفاع قيمة العقار وذلك عن طريق رهن جديد من الدرجة الثانية. ومن هنا التسمية بأنها الرهون الأقل جودة ، وبالتالي فإنها معرضة أكثر للمخاطر إذا انخفضت قيمة العقارات. ولكن البنوك لم تكفي بالتوسع في هذه القروض الأقل جودة بل استخدمت "المشتقات المالية" لتوليد مصادر جديدة للتمويل وبالتالي للتوسع في الإقراض. كيف؟
عندما يتجمع لدى البنك محفظة كبيرة من الرهونات العقارية، فإنها تلجأ إلى استخدام هذه "المحفظة من الرهونات العقارية" لإصدار أوراق مالية جديدة تقترض بها من المؤسسات المالية الأخرى بضمان هذه المحفظة.
وهو ما يطلق التوريق . فكأن البنك لم يكتف بالإقراض الأولى بضمان هذه العقارات، بل أصدر موجه ثانية من الأصول المالية بضمان هذه الرهون العقارية.
فالبنك يقدم محفظته من الرهونات  العقارية كضمان للاقتراض الجديد من السوق عن طريق إصدار سندات أو أوراق مالية مضمونة بالمحفظة العقارية.
وهكذا فإن العقار الواحد يعطي مالكه الحق في الاقتراض من البنك، ولكن البنك يعيد استخدام نفس العقار ضمن محفظة أكبر، للاقتراض بموجبها من جديد من المؤسسات المالية الأخرى. وهذه هي المشتقات المالية. وتستمر العملية في موجه بعد موجة، بحيث يولد العقار طبقات متتابعة من الإقراض بأسماء المؤسسات المالية واحدة بعد الأخرى . ولا تقتصر "المشتقات" المالية على هذه الصورة من "التوريق" بإصدار موجات من الأصول المالية بناءً على أصل عيني واحد، بل أنها تأخذ صوراً أخرى وخاصةً فيما يتعلق بالتعامل مع المستقبل. فالتعامل المالي لا يقتصر على التعامل في أصول عينية موجودة بالفعل في الحاضر، بل قد ينصرف إلى أصول محتملة سوف توجد في المستقبل. فهناك التصرفات الآجلة ، فضلاً عما يعرف "بالمستقبليات" ، وقد لا يقتصر الأمر على مجرد بيع وشراء حقوق مستقبلة بل وتشمل أيضاً على خيارات تستخدم، أو لا تستخدم، وفقاً لرغبة أحد الطرفين.
ويأتي العنصر الثالث والأخير وهو نقص أو انعدام الرقابة أو الإشراف الكافي على المؤسسات المالية الوسيطة. حقاً تخضع البنوك التجارية في معظم الدول لرقابة دقيقة من البنوك المركزية ومؤسسات الرقابة ، ولكن هذه الرقابة تضعف أو حتى تنعدم بالنسبة لمؤسسات مالية أخرى مثل بنوك الاستثمار وسماسرة الرهون العقارية فضلاً عن نقص الرقابة على المنتجات المالية الجديدة مثل المشتقات المالية أو الرقابة على الهيئات المالية التي تصدر شهادات الجدارة الائتمانية والتي تشجع المستثمرين على الإقبال على الأوراق المالية.
وقد تكاتفت هذه العناصر الثلاثة على خلق هذه الأزمة المالية، ولم يقتصر أثرها على التأثير على القطاع المالي بزيادة حجم المخاطر نتيجة للتوسع المحموم في الأصول المالية، بل أنه هدد أحد أهم أركان الاقتصاد المالي، وهو "الثقة".
 فرغم أن العناصر الثلاثة المشار إليها ـ زيادة الاقتراض , وتركيز المخاطر , ونقص الرقابة والإشراف ـ كافية لإحداث أزمة عميقة في الأسواق المالية، فإن الأمور تصبح أكثر خطورة إذا فقدت " الثقة " أو ضعفت في النظام المالي الذي يقوم على ثقة الأفراد.
فمع فقدان الثقة يقل الشراء ويكثر البيع ، وتنخفض أسعار الأصول المالية وندخل في دوامة من الانخفاضات المتتالية وبالتالي مزيد من الانهيار المالي . ويزداد الأمر تعقيداً نتيجة للتداخل بين المؤسسات المالية في مختلف الدول. فجميع المؤسسات المالية ـوبلا استثناءـ تتعامل مع بعضها البعض، وأية مشكلة عويصة تصيب أحد هذه المؤسسات لابد وأن تنعكس بشكل مضاعف على بقية النظام المالي العالمي (العولمة). وهكذا تتكاتف اعتبارات الثقة، أو بالأحرى انعدام الثقة، مع اعتبارات العولمة في تضخيم أثر الانهيار المالي.
وهكذا نجد أن الأزمة المالية الحالية هي نتيجة للتوسع غير المنضبط في قروض القطاع المالي في الولايات المتحدة ومن ورائه في بقية دول العالم المتقدم. والسؤال هل يمكن التجاوز عن هذا الاقتصاد المالي بأدواته المتعددة ومؤسساته الكثيرة؟ للأسف لا يمكن .
تطورت أزمة الأسواق المالية التي تفجرت في أغسطس/آب 2007 حتى أصبحت أكبر صدمة مالية منذ الكساد الكبير، ملحقة الضرر البالغ بالأسواق والمؤسسات الأساسية في النظام المالي.
وقد بدأ الاضطراب بسبب الارتفاع السريع المستمر في حالات التعثر عن السداد في سوق الرهون العقارية العالية المخاطر في سياق عملية تصحيح رئيسية تشهدها سوق المساكن في أميركا وما أعقبها من ارتفاع حاد في فروق العائد على الأوراق المالية المضمونة بتلك الرهون العقارية بما في ذلك التزامات الدين المضمونة بأصول على نحو يجتذب مراتب ائتمانية مرتفعة.
غير أن التداعيات اللاحقة سرعان ما امتدت من خلال نظام مالي شديد الاعتماد على الرفع المالي لتسبب في خفض السيولة في سوق المعاملات بين البنوك وإضعاف كفاية رأس المال وفرض تسوية طارئة لأوضاع مؤسسات وساطة مالية كبرى وإحداث اضطراب عميق في أسواق الائتمان والحث على إعادة تسعير المخاطر في مجموعة كبيرة من الأدوات المالية المختلفة.
ومن أكثر الأمور حدة في هذه الأزمة حدوث خسارة لم يسبق لها مثيل في السيولة، حيث قفزت أسعار الفائدة على المعاملات بين البنوك لأجل ثلاثة أشهر بما يتجاوز بكثير أسعار الفائدة على الإقراض لليلة واحدة والمستخدمة كأداة للسياسة النقدية، وحدث هذا في وقت سعت فيه البنوك إلى الحفاظ على ما لديها من سيولة أمام الضغوط الواقعة عليها، وبسبب الزيادة المستمرة في عدم اليقين المحيط بمدى قدرتها المالية وتوزيع خسائر البنوك من حيازات الأوراق المالية المرتبطة بالرهون العقارية العالية المخاطر وغيرها من أشكال الائتمان.
وانتشرت حالات نقص السيولة بصورة أوسع نطاقا حيث لجأت البنوك إلى تخفيض خطوط الائتمان وزيادة هوامش الضمان للأوراق المالية وزيادة طلبات إيداع هامش الوقاية من الوسطاء الماليين الآخرين.
البعض يعتقد ان الخسائر المالية في أسواق المال مثلاً لا تعني أكثر من كونها تغيير في أسعار رؤوس الأموال الحقيقية تغيير في القيمة الاسمية للاقتصاد بل ربما ذهب البعض إلى ان هبوط القيمة الاسمية هذه ليس أكثر من نتيجة لتضخم هذه القيمة ، إلا ان عطب النظام المالي و حدوث خسائر ضخمة معناه افتقار المؤسسات المنتجة بمختلف أشكالها للتمويل و تراجع الطلب و ارتفاع البطالة و تعثر التسهيلات المالية و بالتالي فإن الانعكاس لهذه الأزمة المالية على القطاعات المنتجة المختلفة حاد للغاية و لا يمكن تخيل قطاعات الاقتصاد المختلفة تعمل بشكل طبيعي دون ان نتخيل الجهاز المالي يؤمن التدفق النقدي بشكل سليم .
أين يمكن ان تتوقف هذه الكارثة ؟
إن الحديث عن اقتصاد مالي متداخل بهذا المستوى يجعلنا لا نشك لحظة واحدة إنها تماماً مثل كرة الثلج التي يزداد حجمها كلما تدحرجت بحيث تبتلع كل ما يمكن ان يواجهها إننا هنا بصدد الحديث عن أزمة تعصف بعصب الحياة الاقتصادية انه الجهاز المصرفي و لذا نحن لسنا بإزاء أزمة قطاع بل أزمة الجهاز المالي للولايات المتحدة و بالتالي العالم إننا نتكلم عن القطاع المصرفي و المسؤول عن خلق أكثر من 80% من عرض النقد .
يرى فؤاد شاكر ان هذه الأزمة ستؤدي إلى تغيير الطريقة التي تعمل بها البنوك والمؤسسات المالية الأمريكية، إذ لابد من وضع ضوابط اكبر على عمليات الإقراض العقاري ، وعلى عمليات بيع القروض بين البنوك كأصول مستثمرة، كما انه لابد من تصحيح هامش الإقراض العقاري مع تغير قيمة العقار في السوق.
ويجب، من وجهة نظره، ان تتم محاسبة مديري البنوك الذين اخفوا الحقائق عن المودعين، وهو أمر بالغ الخطورة لأنه يهز ثقة المودعين في النظام المصرفي . كما يرى ان الأزمة ستؤدي إلى إقامة إطار عام دولي جديد لتنظيم الأسواق المالية حتى لا يكون الاقتصاد العالمي ضحية لمشكلات أمريكية، ويتوقع ان يقوم هذا النظام النقدي الدولي الجديد على دور أوروبي وآسيوي اكبر ودور أمريكي اقل .
هناك خاصية يتميز بها القطاع المالي وهي أنه عند إفلاس أو انهيار مؤسسة مالية بسبب وضعها السيئ فإن الذعر يصيب المودعين في المؤسسات المالية الأخرى، التي يكون الوضع المالي لمعظمها جيدا، ومن ثم يلجؤون إلى سحب ودائعهم.
وبالتالي فإن سحب الودائع بصورة مفاجئة يؤدي إلى انهيار تلك المؤسسات المالية حتى لو كان وضعها جيدا وسليما. وهذا الأمر يطلق عليه أثر الدومينو بحيث لو انهارت ورقة واحدة من أوراق لعبة الدومينو انهارت باقي الأوراق، لذا نجد أن تدخل البنوك المركزية في هذه الحالات يعتبر أمرا ضروريا.
ويتفق الدكتور حاز الببلاوي مع الرأي القائل بان هذه الأزمة ستؤدي إلى مراجعة عمل الأسواق المالية وفرض المزيد من الضوابط عليها، وأنها ستؤدي إلى دخول الولايات المتحدة في دورة كساد لفترة من الزمن ، لكنه يرفض الرأي القائل بأنها تمثل انهيار للرأسمالية الأمريكية.
ويضيف الببلاوي "النظام الرأسمالي ليس له أيدلوجية في الوقت الراهن، بل يتغير حسب المصالح ، وهذا سر قوته. كان يقال أثناء الكساد الكبير ان الدولة يجب ألا تتدخل في عمل الأسواق لكن هذا الأمر تغير الآن .
لكنه يؤكد ان هذه الأزمة تمثل درسا قاسيا للإدارة الأمريكية يجب ان تتعلم منه.
وهذا ما يراه اغلب الاقتصاديين، إذ ان دروس هذه الأزمة ستغير الكثير في عالمنا .  ستتغير طريقة عمل الأسواق والنظام المالي الدولي ، وسيتغير بلا شك دور الولايات المتحدة في هذا النظام.

13
أخي أبو عمر .
أعتذر أشد الاعتذار لأنني لم أشاهد زيارتك إلا الآن .
شكراً لك .
وكذلك أعتذر من الأخت شرشبيل .
وشكراً لك .
تحياتي لكم .

14
منتدى علم الإجتماع وعلم النفس والتربية / أسس الإرادة (2)
« في: أكتوبر 25, 2008, 10:24:50 صباحاً »
أسس الإرادة (2)

لقد ذكرنا في المقال السابق هناك نمطين نستطيع تصنيف كافة أشكال استجابات وإرادة الكائنات الحية حسبهم , وتكلمنا عن النمط الأول وسوف نتكلم عن النمط الثاني .
فالنمط الثاني خاص بالكائنات الحية التي تعيش جماعات  , فهذه تكيفت إرداتها واستجاباتها وتصرفاتها مع الأوضاع الاجتماعية الموجودة ضمنها , تسمح بالحوار والتفاعل مع المجتمع الذي يعيش فيه الكائن الحي .
وفي مجال هذه الاستجابات والتصرفات الاجتماعية تكون المنبهات البيئية , وما تضيفه عليها تجارب الكائن الحي من معان اجتماعية , هي التي تقرر وتوجه منحى أرادة الكائن الحي . وتلعب الدور الأساسي في انبثاق السلوك الاجتماعي . ولا تكتسب المعلومات الحسية صفاتها الدافعة انطلاقاً من سلوكية غريزية موروثة , بل تكتسب من التكيفات الاجتماعية التي تعلمها من مجتمعه . مثال دافع الجوع يعدل ويكيف بطرق اجتماعية متعددة , وكذلك الدافع الجنسي , ودافع الأنانية , . .
وبالنسبة لنا نحن البشر يكون تأثير البيئة والحياة الاجتماعية , ثقافي , ونفسي , وفكري . فنحن نتاج مجتمع وثقافة وحضارة , أكثر من نتاج بيولوجي .
فتأثير الأفكار ( المعارف , والأخلاق , والعقائد , والإعلام ) هائل علينا , ونخضع لسلطة وإرادة البنيات الاجتماعية التي نعيش ضمنها . وإرادتنا مرطبة وتابعة لإرادة الآخرين , فتنتهي حريتنا وإرادتنا عندما تبدأ حرية وإرادة الآخرين . إن غالبية الذين يعيشون حياة اجتماعية إن لم يكن جميعهم , أرادتهم مقيدة وموجه بشكل كبير بطبيعة المجتمع والدولة التي يعيشون بها . يا ترى إلى أي مدى قدرات إرادتنا وفكرنا الحر تحدد مسار سير حياتنا ؟
إن العادات الاجتماعية والعقائد والأديان , والأنظمة والتشريعات والقوانين , تعمل على برمجة تصرفاتنا ( عن طريق برمجة الدماغ الحوفي لدينا ), بما يناسب الأوضاع الاجتماعية والثقافية والفكرية الموجودين ضمنها , ولهم الدور الأكبر في تقرير منحى إرادتنا وحريتنا , ويمكن أن يكونوا في كثير من الأحيان أقوى من المورث البيولوجي . فالقيود التي تفرضها الحياة الاجتماعية على إرادتنا أكبر بكثير مما نتصور .
والأفكار والعقائد والمبادئ التي يتبناها كل منا أوحى له الآخرين في مجتمعه , وصار ملزم بخدمتها وتنفيذ مضمونها حتى وإن تعارضت مع أقوى الدوافع البيولوجية مثل المحافظة على الذات , فهو يضحي بنفسه من أجل الأفكار التي تبناها , والوقائع الكثيرة تؤكد ذلك .
والملاحظ أن المؤثرين الأساسيين وموجهين لإرادة وتصرفات الناس هم :
1 - مالكي السلطة والنفوذ في المجتمع وهم الملوك والأمراء والقادة أمثال : الاسكندر ونابليون وهتلر وستالين والكثيرين غيرهم .
2 - المصلحين والأنبياء والمشرعين والمفكرين أمثال : حمورابي وهوميروس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وموسى وعيسى وبوذا و كونفوشيوس و زراتشت . . فهم الذين خلقوا الأفكار أكانت مبادئ أو عقائد أو معارف , وزرعوها في العقول , وجعلوا تابعيهم يتصرفون حسبها .
أن طرق ووسائل توجيه إرادة الأفراد والتحكم برغباتهم ودافعهم تستخدم الآن في كافة المجالات التجارية والسياسية والعقائدية . وهذه الطرق والوسائل أصبحت تملكها وتتحكم بها الدول والمؤسسات والشركات الكبيرة , فهي الآن تقوم بالتحكم بدوافع وإرادة الأفراد ووضع الأفكار والدوافع .... التي تريد .
وطرق توجيه إرادة الأفراد والتحكم بما يتبنون من أفكار وعقائد ومبادئ , تنجح بسهولة عندما تطبق على الشبان الصغار فالكبار غالباً يصعب جعلهم يعدلوا أو يغيروا مبادئهم وعقائدهم توجهاتهم , فهذا لا يمكن أن يتم بسهولة لدى الكبار, لقوة إرادتهم في المحافظة على ما يتبنون من أفكار وعقائد وقيم  , وأن حدث فهو يحتاج إلى وقت طويل وتكون النتائج متواضعة . يمكن تقليل هذا الوقت باستعمال الكثير من الأساليب التي ثبتت صلاحيتها , مثل استخدام الأحاسيس النفسية والجسمية والمشاعر والعواطف القوية إن كانت مؤلمة أو مفرحة ولذيذة , واستعمال الإقناع الفكري , والترغيب والترهيب ولفترة طويلة , بشكل يتم التحكم بإرادتهم وتجبرهم على تغيير أفكارهم ومبادئهم وعقائدهم , ويمكن أن يتم ذلك الأفراد والجماعات دون أن يدروا أن ذلك جرى لهم , وهذا يتم عن طريق الإعلام بكافة أنواعه وأشكاله المسموعة والمقروءة والمرئية صحف ومجلات وكتب وإذاعات ومحطات تلفزيون ودور عبادة . . .   وبواسطة أجهزة الإعلام بكافة أشكالها .
فالمتحكم الأكبر فينا الآن هو الأفكار المنتشرة في العقول وبالذات التي تنشرها وسائل الإعلام , فهي التي توحي لنا بالكثير من تصرفاتنا وتفرض علينا قوها وتأثيراتها , وبالتالي تفرض علينا غالبية استجاباتنا وتصرفاتنا وتتحكم بإرادتنا .
لقد مات في الحرب العالمية الثانية أكثر من 40 مليون إنسان , كم عدد الذين ماتوا منهم بإرادتهم ؟
هل يختار غالبية الناس عقائدهم أو دينهم بإرادتهم أم يرثونه من مجتمعهم ؟
يقول هربرت . أ . شيللر : تكتيكان يشكلان الوعي تستخدم الأساطير بكافة أشكالها القديمة والحديثة من أجل السيطرة على الأفراد , وعندما يتم إدخالهم على نحو غير محسوس في الوعي الجماعي , وهو ما يحدث بالفعل من خلال أجهزة الثقافة والإعلام , فإن قوة تأثيرها تتضاعف من حيث أن الأفراد يظلون غير واعين بأنه قد تم تضليلهم وتوجيه إرادتهم وخياراتهم .
ويقول جورج جيبرنر :إن بنية الثقافة الشعبية التي تربط عناصر الوجود بعضها ببعض , وتشكل الوعي العام بما هو كائن , بما هو هام , وهو حق , وما هو مرتبط بأي شيء آخر , هذه البنية أصبحت في الوقت الحاضر منتجاً يتم تصنيعه .
لقد قال أبو السلوكية واطسن : أعطوني عشرة أطفال , وأنا سوف أصنع منهم المحامي والعامل والمهندس والرياضي واللص والفاشل . .  , نعم  يمكنه أن يحقق ذلك إذا سمح له بذلك الموروث البيولوجي لهؤلاء الأطفال , واختار لكل طفل ما يناسبه من الأعمال والمهن . أي نحن نستطيع التحكم بواسطة الوسائل الكثيرة المتاحة لنا , بتوجهات وإرادة هؤلاء الأطفال .
الإرادة والتعامل مع الخيارات , جذب الخيارات
نفرض أن لدينا عدة خيارات متاحة لتحقيق هدف معين ونفرض أنها جميعها تسمح بتحقيق الهدف وبالصعوبة نفسها وبالدرجة نفسها تماماً- وهذا نادر جداً في الواقع-
في هذه الحالة هل يمارس تفضيل أثناء اختيار أحدها, إن هذا لن يحدث, لأنه لا يوجد فرق بين هذه الخيارات, وسوف يتم الاختيار عشوائياً.
لنفرض الآن أن هذه الخيارات مختلفة في درجة صعوبتها لتحقيق الهدف في هذه الحالة هل يحدث تفضيل واختيار موجه؟
نقول: نعم في هذه الحالة  ستحدث مقارنة وتقييم ثم اختيار أحدها
أي سوف يحدث تنافس بين هذه الخيارات في جذب اتجاه اختيارنا نحو كل منها
والخيار الذي يقوم بأكبر جذب سوف يتم تبنيه وممارسته.
إذاً اختيار أحد الخيارات من بين مجموعة خيارات متاحة يكون حسب قوى الجذب التي يقوم بها هذا الخيار, ويكون تقييم قوى الجذب حسب الوضع الراهن لجسمنا وعقلنا وباقي العوامل الموجودة
وإذا تغير أحد هذه العوامل يمكن أن تتغير نتيجة الاختيار
وأي اختيار نقوم به مرة ثانية يمكن أن تكون نتيجته مختلفة إذا حدثت أية تغيرات لنا أو لتلك الخيارات
أي أن النتيجة المحددة بشكل مطلق لا تحدث إلا مرة واحدة , وعند التكرار تصبح احتمالية, وتابعة للتغيرات الحاصلة . فالإنسان دائماً في وضع يختار فيه. وهو في الواقع مجبر على الاختيار, لأن لديه معرفة بالبدائل- الإمكانات والاحتمالات- .
لا شيء يحول دون التفكير بأن حرية الاختيار موجودة لدينا وأن لنا إرادة , لأننا نستطيع أن نوجه أفعالنا عندما تسمح الظروف , بتنفيذ مجموعة أفعال معينة , من خلال لعبة إثارة للخلايا العصبية الملائمة.
الإرادة القوية والإرادة الضعيفة
يقولون أن النجاح بالدراسة أو بالأعمال أو بالمشاريع يلزمه قوة إرادة .
إن هذا لا يكفي  فيجب توفر أيضاً البنيات التحتية الجسمية والفكرية والثقافية والظروف المادية والاجتماعية المناسبة لتحقيق هذا النجاح .
هل يستطيع مدمن التدخين أو مدمن الكحول أو مدمن المخدرات أو مدمن القمار . . . الخ التوقف عن إدمانه ؟  
البعض يقول : أن هذا راجع لقوة إرادته فالذي قوة إرادته قوية يستطيع التوقف عن إدمانه والذي قوة إرادته ضعيفة لن يستطيع  , ولكن إلى أي مدى تكون هذه القوة ؟
أنها طبعاً لها حدود , فإذا كانت قوة إدمانه كبيرة جداً كإدمان الهيروين مثلاً , فلن يستطيع مهما حاول , ويجب أن يتلقى مساعدة من الآخرين .
إلى أي مدى كانت قوة إرادة البوذي ( الفكرية) الذي شاهدناه منذ بضع سنين في التلفزيون , والذي أحرق نفسه احتجاجاً , وظل جالس وهو يحترق يقاوم ألم الاحتراق فترة طويلة ثم مال ووقع .
وهل يستطيع المتعبد الملتزم المداوم على ممارسة شعائر دينه أن يقوم بإرادته بالانقطاع عن ممارسة هذه الشعائر ؟ على الأغلب سوف يكون هذا صعب جداً عليه .
ما هي  خصائص النفسية والجسمية والفكرية والثقافية  للشخص القوي الإرادة , والشخص الضعيف الإرادة ؟
و ما هي عناصر وعوامل قوة أو ضعف الإرادة ؟
لقد نجحت بتفوق فتاة درست على ضوء الشمعة وفي ظروف صعبة , ورسب شاب أمّنت له كافة الظروف المريحة للدارسة . لقد كان الدافع القوي للفتاة هو الذي قوى إرادتها على بزل أقصى ما تستطيع من جهد وحققت النجاح والتفوق , بعكس الشاب فقد كان دافعه للدراسة ضعيف وكذلك قوة إرادته على الدراسة وبزل الجهد ضعيفة . إن لقوة الدافع تأثير أساسي على قوة الإرادة .
ونحن نلاحظ قوة أرادة الرياضي الذي يتمرن ألاف الساعات في سبيل تحقيق فوز في الألعاب الأولمبية , وقوة إرادة لاعبي فريق كرة القدم لتحقيق الفوز .  
ما هي قوة إرادة المشرف على الغرق  للسعي للنجاة , أو قوة أرادة الهارب من النار ؟
هي حتماً في قمة القوة .
إن للمكافـأة والعقوبة تأثير كبير على إرادة الأشخاص . إن كافة أشكال التعلم تعتمد على المكافأة والعقاب من أجل توجيه المتعلم والتحكم بإرادته . فالطفل نريبه ونوجهه ونعلمه بالاعتماد على المكافأة والعقاب , ربما نستخدم المكافأة أكثر , ولكن لابد من استخدام العقاب .
كانوا سابقاُ يقولون : إعمال صالحاً تذهب إلى الجنة وتكافأ , وعمل شراً تذهب إلى النار وتعاقب . " وأنت حر في اختيارك "  أي كف عن التصرفات التي تضر بك أو بالأفراد الآخرين أو بالمجتمع وعمل ما يفيد , ولكن ظهر أن هذا لا يكفي .
فالآن هناك الأنظمة والقوانين والعقوبات التي تفرض على إرادتنا عمل ما يفيدك ويدعم المجتمع , أي المطلوب فعله  والمسموح به , و تحاشى الممنوع . و بذلك يوجهون ويتحكمون بإرادتنا .
إرادة البنيات
هل للجماعات والدول والشركات والمؤسسات . . إرادة ؟
كانت الجماعات تعتمد توحيد أرادات أفرادها وتقويتها عندما يكون الوضع بحاجة ليعمل الكل في سبيل تحققي الحاجات الأساسية والضرورية للجماعة , كتأمين الطعام والمأوى والدفاع عن الجماعة وعن ممتلكاتها , وكانت العادات والتقاليد والأخلاق تدعم ذلك . وكما ذكرنا كان يتم التحكم وتوجيه إرادة الأفراد وكذلك الجماعات  بالعقوبة والمكافأة .
بعد أن يقوم الأفراد بتكون الشركات أو المصانع  أو المؤسسات أو الأحزاب أو الدولة , الملاحظ أنه تتكون لهذه البنيات التي أنشؤوها ما يشبه الإرادة , فهي تسعى للحفاظ على نفسها واسمرارها ونموها . وفي كثير من الأحيان تصبح إرادة هذه البنيات أقوى من إرادة الأفراد الذين أنشؤوها , وتفرض إرادتها عليهم , ويمكن أن يضحوا حتى بأنفسهم في سبيلها . وهناك الكثير من الدلائل والوقائع التي تؤكد ذلك .  
والآن تطورت الأمور وتعقدت , وصار كل شيء منظم ومدروس وله تشريعاته وقوانينه . وأصبحت الأمور كبيرة وواسعة , على شكل مشاريع يجري دراستها والتخطيط  لها , ودراسة تكاليفها وجدواها, وعند تنفيذها لا يكون لتأثير إرادة العاملين فيها كبير وحاسم , فكل شيء مدروس احتمالاته وبدائله . وهناك مدراء أو مجلس إدارة هو المسؤول .
السلطة والإرادة
كلما كبرت وتوسعت سلطة الفرد أو كبرت ثروة الفرد , أو الجماعة , توسعت مجالات إرادتهم , فامتلاك المال هو شكل من امتلاك السلطة فالمال هو بمثابة سلطة . و هذا أدى للسعي المحموم للأفراد وللجماعات لامتلاك السلطة أو المال , وبشكل غير محدود , وبالتالي الصراع الدموي على امتلاك السلطة أو المال . وأصبح الصراع على امتلاك السلطة أو المال هو صراع الإرادات .
فبواسطة السلطة أو المال نفرض إرادتنا على الآخرين . وفرض الإرادة الذاتية على الآخرين والتحكم بإرادتهم وتوجيهها هو أهم الدوافع والغايات لدى الكثير من الناس .
وأدى الصراع الهائل على السلطة , إلى نشوء أفراد أو جماعات أو دول  سلطتها كبيرة وتتزايد باستمرار . وهذا له نتائجه الوخيمة على أكثر من مجال . وهنا نجد أن أهمية توزيع السلطات وعدم جعل فرد واحد أو جماعة معينة واحدة  امتلاكها , الوقوف في وجه هذه ومنعه , وجعل السلطة موزعة على بنيات عديدة ولا تملكها أو تسيطر عليها بنية واحدة .
فنحن نلاحظ أن العمليات الأساسية والهامة جداً بالنسبة للكائنات الحية و لدى الإنسان , مثل عمل القلب والهضم والتنفس . . لا تخضع لسيطرته وإرادته التي يمكن أن تكون متقلبة وتضربه , فلا يستطيع أي إنسان إيقاف نبض قلبه , أو إيقاف تنفسه بقصد الانتحار .
وكذلك يجب أن تكون العمليات والقضايا الأساسية والهامة لدى الجماعة أو الدولة , غير خاضعة لمشيئة أحد , بل هي معتمدة ومقررة  سابقاً نتيجة ثبوت ضرورة التقيد بها حفظاً على الجماعة واستمرارها ونموها . وهذه تكون ممثلة في الدولة الآن بالدستور .

15
أسس الإرادة (1)

ما هي الإرادة وما هي خصائصها ومكوناتها ؟
ما هي منابع أو أسس الإرادة , البيولوجية , والنفسية , والعصبية , والفكرية , والاجتماعية .
من يتحكم بنا , ما هي مصادر إرادتنا وتوجهاتنا ؟
برامجنا الموروثة بيولوجياً , الدوافع والغرائز , موروثاتنا الاجتماعية , القوى والعناصر المادية , فكرنا وحريتنا المزعومة ؟
هل يمكن تحليل إرادة الإنسان وتشريحها ؟ وهل الإرادة دافع ورغبة , فالدوافع والرغبات لها تفسير سببي وعلّمي .
لقد كان مفهوم الإرادة من المفاهيم الأولية التي تعامل معه الإنسان , أكان ذلك بوعي منه أو بدون وعي . وقد شغل هذا المفهوم كافة المفكرين لارتباطه بالحرية , وكتب الكثير الكثير عن الإرادة .
نستطيع أن نجد بذور مفهوم الإرادة عند الرواقيين الذين أرجعوا كل شيء إلى الفعل ، ولما كان الفعل لا يتم إلا بالأجسام ، فهي وحدها تؤثر ، فقد قالوا إن كل شيء جسماني وإن كل شيء لا يتم إلاّ بالإرادة .
والرواقية تعترف بالحتمية أو بالقدر ، كما أن الإرادة الإنسانية عندهم تخضع لهذه الحتمية , ويقولون بأن جوهر الإنسان هو إرادته . القول الذي سوف يردده فيما بعد شوبنهاور ، بل إن شوبنهاور ذهب أبعد من الرواقيين حينما قال إن الكون كله في أساسه إرادة وإن من طبيعة الإرادة ، أي القوة المحركة والمكونة للانا ، ألا تعمل إلاّ على نحو متتابع ، فهي لا تنجز إلاّ فعلاً واحداً يمكن إدراكه في المرة الواحدة . وذلك بموجب أنها واحدة ومسيطرة، ومن ثم لا يمكن أن تكون في الوقت عينه.
ويرى البعض أن الإرادة لا تعني سوى الدافع أو الرغبة لإشباع الغريزة , وطالما كانت هي رغبة فإن (عدم الإشباع) صفة من صفاتها , ولكن يتعذر إشباعها (فالرغبات تتوالد)، والإنسان يحمل في داخله إرادة جائعة.
و شوبنهاور وفي كتابه "العالم كإرادة وفكرة" أثار هذه النقطة، وغاص في أعماقها، وتوصل إلى ان شخصية الإنسان تكمن في إرادته، وليس في عقله، فالدم الذي يجري في الجسم، الإرادة هي التي تدفعه، والعقل قد يتعب، أما الإرادة. فيصور الحياة كأنها شر، لأنه كلما ازدادت ظاهرة الإرادة كمالاً ازداد العذاب وضوحاً .
ويرى البعض أن الإرادة هي : الطاقة والقوة التي بداخل الإنسان , و المسؤولة عن قيامه بأفعاله الاختيارية , وإن الإرادة لا وجود لها بدون المفاضلة والاستنتاج ، أي المقارنة والقياس والتقييم والحكم , ومن ثم القيام بالاستجابات المناسبة . فنتائج الاستنتاج والمفاضلة هي الدافع للإرادة على العمل الإرادي , وحياة الإنسان هي سلسلة من رغبات ودوافع والاستجابات والأفعال لا تهدأ ، وكفاح مستمر من أجل الحياة ، بتوفير الطعام والمأوى ، والإبقاء على النوع . . .
فالإرادة هي الفاعل والمحرك للكثير من استجاباتنا وأفعالنا . فالإنسان يشعر بأنه حر عندما ممارسته لإرادته في اختيار أحد الخيارات من بين خيارات كثيرة متاحة له . لذلك يصعب إقناع أي إنسان بأنه ليس له إرادة  وغير حر في اختيار تصرفاته , لأنه يحس ويشعر أنه حر, والأحاسيس يصعب تكذيبها .
فمفهوم الحرية يعتمد على الإرادة التي هي استجابة وفعل يقوم به الإنسان , و تملك كافة الكائنات الحية المتطورة الإرادة , ولكنها لا تملك الوعي بأن لها إرادة .
فالإرادة هي القدرة على التعامل مع خيارات متعددة . فأساس التفكير وكذلك الإدارة هو التعامل مع الخيارات و قيل: أن التفكير هو انتقاء البديل الأمثل من ضمن عدة بدائل ( خيارات ) ممكنة في ضوء الغايات المحددة والمعايير المقررة سلفاً , وهذا معناه أن أساس التفكير وبالتالي الإرادة هو التعامل مع الخيارات لهدف معين , وأبسط أنواع التعامل مع الخيارات هو التعامل مع خيارين فقط : موجود-غير موجود،  صح –خطأ،   فعل – لا فعل ،   مفيد- ضار  ،   أكبر- أصغر ،  قبل – بعد ،  نعم – لا ،   تريد –لا تريد  ،   فوق – تحت ،   يمين – يسار ،  خير – شر ......الخ . في هذه الحالات هناك دوماً تعامل مع خيارين فقط، يتم اختيار أحدهم ، أو تعيين أحدهم ، أو تمييز أحدهم . فالعقل البشري يبدأ بالتعامل مع خيارين بفاعلية عالية ، ويستعمل هذه الآلية البسيطة في كافة تعاملاته مع الخيارات الكثيرة والمعقدة والمتداخلة ، وذلك بإرجاعها إلى خيارين فقط يتم تمييز أحدهم عن الآخر, ولإجراء التمييز لابد من المقارنة  والقياس  ثم الحكم وإصدار القرار .
ومصادر الإرادة الواعية و الغير واعية , أو حرية الاختيار , ناتجة عن عمل العصبي للدماغ , , والحرية تنشأ نتيجة الحوار والجدل الذي يمكن أن تكون نتائجه متغيرة وليست ثابتة وذلك حسب سير الجدل وزمنه.
و يبقى الإنسان وقصته مع الإرادة لغزاً عميقاً، لا يمكن اختزاله أو حتى شرحه في صفحات قليلة . لنحاول تحديد منابع وأسس الإرادة لدينا .
أسس الإرادة لدى الكائنات الحية
نستطيع تصنيف كافة أشكال استجابات وإرادة الكائنات الحية إلى نوعين أو نمطين :
الأول : إرادة مقررة ومحددة ونمطية وهي موروثة بيولوجياً , وتلعب تقلبات عوامل الوسط الداخلي دوراً هاماً في هذا النمط من السلوك الذي يعتبر منظماً بيولوجياً يحفظ الفرد والنوع . فكل ابتعاد عن سوية التوازنات الفزيولوجية للجسم توجه الكائن الحي  نحو العمل على إعادة التوازن إلى سويته الطبيعية وأهم هذه التصرفات , سلوك التغذية , والبحث عن المأوى , والسلوك الجنسي . . .
والنمط الثاني خاص بالكائنات الحية التي تعيش جماعات  , فهذه تكيفت إرداتها واستجاباتها وتصرفاتها مع الأوضاع الاجتماعية الموجودة ضمنها , تسمح بالحوار والتفاعل مع المجتمع الذي يعيش فيه الكائن الحي .
وفي مجال هذه الاستجابات والتصرفات الاجتماعية تكون المنبهات البيئية , وما تضيفه عليها تجارب الكائن الحي من معان اجتماعية , هي التي تقرر وتوجه منحى أرادة الكائن الحي . وتلعب الدور الأساسي في انبثاق السلوك الاجتماعي . ولا تكتسب المعلومات الحسية صفاتها الدافعة انطلاقاً من سلوكية غريزية موروثة , بل تكتسب من التكيفات الاجتماعية التي تعلمها من مجتمعه .
وسوف نتكلم عن النمط الأول , أما النمط الثاني فسوف نتكلم عنه لاحقاَ .
تظهر الإرادة لدى الكائنات الحية عند الكائن الحي وحيد الخلية فهو يريد ويختار, مع أنه لا يفكر وليس له جهاز عصبي , فهذا الكائن الحي يستجيب و يتحرك بإرادة فزيولوجية كيميائية , فيهرب من ما يضره ويهدد حياته , ويسعى إلى غذائه , فهو يتعرف على ما يوجد في بيئته ويتصرف بما يناسبه .
وغالبية الكائنات الحية والزواحف والثدييات لها جهاز عصبي وتفكر ولها إرادة , فهي تبحث عن الطعام أو عن المأوى أو عن الشريك للتزاوج , و تفترس , وتهرب من العدو أو من الخطر بإرادتها , و تتصارع وتتنافس وتفرض أرادتها وسيطرتها على المكان وعلى الطعام . . .
وبالنسبة للكائنات الحية , أواخر الزواحف والثدييات , يبرز دور الدماغ الحوفي كعنصر رئيس في إدارة السلوك , وباعتباره المسؤول الأساسي لبناء الذكريات المستخدمة في التصرفات السلوكيات الاجتماعية , وأسلوب استخدامها . فتلعب الجملة الحافية ( أو الدماغ الحوفي ) الدور الأول في إعداد وتنفيذ سلوك الكائن الحي ( وبشكل خاص الإنسان ) الذي يتفاعل مع بيئته , وهي التي تظهر الفروق السلوكية الفردية وتظهر الشخصية المتأثرة بالحياة الماضية . ويختفي دور هذه الجملة عندما يوضع الفرد في بيئة تختلف كلياً عن بيئته المعتادة , فعندها يصبح مخزون ذاكرته الذي اكتسبه أثناء حياته غير فعال .
إن الجهاز العصبي والدماغ عند الحيوانات هو المسؤول الأول ومقرر إرادة الكائن الحي , وذلك بتوجيه الفعاليات العضلية ، ومراقبة الأعضاء التشريحية ، و تركيب و معالجة معلومات الإدخال التي تلتقطها الحواس ليتم تفسيرها و من خلالها يتم التواصل مع الواقع ، من ثم " مباشرة الفعل " بناء على المعطيات التي ينقلها الواقع .  
وبالنسبة لنا الدماغ هو المسؤول الأول ومقرر إرادتنا . وقد ملك الإنسان الفكر والوعي والإرادة الواعية , وهو يتميز عن باقي الكائنات الحية , بأن إرادته مدركة وواعية ولها أبعاد فكرية واجتماعية في كثير من الأحيان .

لقد قسم البيولوجي باول ماكلين أدمغتنا إلى طبقات عدة متميزة و متمحورة تبدأ من أكثر الطبقات بدائية وتحوى على طبقات متتالية أكثر حداثة تحيط بالطبقات السابقة.
الطبقة الأولى :  من المخ والأكثر عمقا والتى يدعوها باول ماكلين القاعدة العصبية، وهى التى تتحكم فى وظائف الحياة الأساسية مثل التغذية والإطراح ودوران الدم والتنفس وكافة الآليات والأعمال الحيوية، وتتألف من النخاع الشوكي وجزع المخ والمخ الأوسط ، وتؤلف القاعدة العصبية فى الأسماك معظم المخ , وليس لإرادة الكائن الحي تأثير مباشر عليها .
الطبقة الثانية:  وهى طبقة الزواحف- وهذه الطبقة تحيط بالقاعدة العصبية، وهى مشتركة بيننا وبين الزواحف، وتضم الفص الشمي والجسم المخطط والكرة الدماغية الشاحبة، وتتحكم هذه الطبقة فى السلوك ألعدائي و التراتب الاجتماعي وتحديد منطقة النفوذ , وتكون إرادة الكائن الحي مقررة حسب البرامج الوراثية المكتسبة.
الطبقة الثالثة:  وهى تحيط بالطبقة السابقة وتسمى ( النظام أو العقل الحوفي ) , وتوجد ولدى الثدييات ، وهى تتحكم فى العواطف والتصرفات الاجتماعية بشكل رئيسي ، وفى الشم، وفى الذكريات أيضا.
الطبقة الرابعة:  هي اللحاء، وهى تحيط بكل الطبقات السابقة وهى التى تتحكم فى التفكير والإدراك الراقي، ولها وظائف أخرى، وهى موجودة لدى الثدييات الراقية , وهى متطورة جدا لدينا.
ويمكن تشبيه هذه الطبقات الأربعة أو هذه العقول الأربعة بأربعة مراكز قيادة متدرجة من حيث تطورها وقدرتها على إدارة استجابات الكائن الحي.
أو تشبيهها بأربعة معالجات تنظم وتنسق وتدير استجابات وتصرفات وإرادة الكائن الحي، فهي تشارك جميعها فى إدارة حياة الكائن الحي .
يمكن اعتبار الدماغ الحوفي أهم أجزاء الدماغ لأنه المسؤول عن التقييم  , فهو عقل أو معالج أساسي قائم بذاته، وكان يقود ويدير استجابات وتصرفات الكائن الحي لدى أوائل الثدييات .
إن الدماغ الحوفي هو المسؤول الأول عن إدارة غالبية تصرفات الإنسان , فهو المتحكم الأول بإرادته، فهو الذي يحدد ما يدخل إلى ساحة الشعور ( أو سبورة الوعي ) ليعالج ، وهو الذي يجلب ما يطلب من الذاكرة المتوضعة في اللحاء ، لاستدعائه إلى ساحة الشعور ، إن كان بطلب من ساحة الشعور، أو هو يدخل إلى ساحة الشعور ما يعتبره هاما ويستدعي المعالجة في ساحة الشعور .
فالدماغ الحوفي هو الذي يعالج ويقيم واردات الحواس, وينتج الاستجابة المناسبة لها, وأغلب الاستجابات موروثة محددة , وكانت إمكانية تعديل أو تغيير الاستجابة نادرة .
فالمعالجة التي يقوم بها الدماغ الحوفي محدودة وضمن خيارات قليلة معينة محددة , وكل استجابة جديدة يكتسبها الكائن الحي لا يورثها إلى أبنائه بيولوجياً ( يمكن أن تورث اجتماعياً نتيجة الحياة الاجتماعية ) , و يمكن أن تصبح موروثة بيولوجياً نتيجة الحياة الطويلة جداً و الانتخاب , وهذا يكون بطيئاً جداً .
لقد نشأ اللحاء نتيجة الحاجة إلى المساعدة في معالجة واردات الحواس بشكل أوسع . وهذا يشبه تماماً قيادة رئيس القبيلة أو العشيرة أو الإمارة الصغيرة , فهو يكون قادراً على القيادة نظراً لاستطاعته التعامل مع مجريات الأمور, ولكن إذا كبرت العشيرة أو الإمارة لتصبح دولة كبيرة لها الكثير من العلاقات الداخلية والخارجية , عندها لابد لرئيس القبيلة أو الأمير من الاستعانة بالوزراء و الولاة والنواب عنه, وإذا كبرت الدولة أكثر عندها لابد من نشوء الوزارات والمؤسسات , ولابد من المستشارين والخبراء لمساعدة  الرئيس في القيادة و الإدارة , وهذا ما حصل في تطور الدماغ , عند تطور قيادته للجسم , ثم للعلا قات المادية مع الطبيعة ثم للعلاقات الاجتماعية  ثم العلاقات الثقافية .
فقد كان لابد من نشوء بنيات دماغية تقوم بهذه الأعمال, فقد نشأ اللحاء وتطور ليصبح كما هو عليه لدينا . فهو بمثابة المساعد والمستشار والخبير للدماغ الحوفي الذي يبقى هو المعالج الأساسي  والمقيم والمتحكم الأساسي في إدارة كافة شؤون الإنسان الجسمية والاجتماعية والفكرية.
والفرق الأساسي بين اللحاء والدماغ الحوفي هو اتساع وقوة المعالجة واتساع الذاكرة لدى اللحاء .
ويظل اللحاء مستشاراً  فالإدارة والقيادة للدماغ الحوفي , فهو الذي يقرر المعاني وبالتالي يقرر الأهداف والغايات بشكل أساسي . صحيح أن اللحاء يمكنه إقناع الدماغ الحوفي في بعض الأحيان ويجعله ينفذ أهدافه التي غالباً ما تكون أفضل , ولكن هذا لا يتم دوماً بسهولة , فللدماغ الحوفي ثوابته الأساسية الموروثة في المعالجة والتقييم  ويصعب تغييرها , إلا ضمن حدود صغيرة.
فاستجابة أو انفعال الخوف أو الغضب أو الغيرة والكثير غيرها ليس من السهل تعديلها , يمكن تعديلها خلال وقت طويل , أومن خلال تعديل العلاقات الاجتماعية المرافق . فالدماغ الحوفي يتعلم ولكن ببطء شديد ونتيجة التكرار الكثير والزمن الطويل . والضمير لدينا هو ما تم تعليمه للعقل الحوفي نتيجة الحياة الاجتماعية .
تظل القيادة الأساسية والتحكم بالاستجابات , والانفعالات بالذات , بيد الدماغ الحوفي لأنها في الأصل عمله الأساسي , وكان تشكل اللحاء لمساعدته وليس لينوب عنه . ولكن معالجة اللحاء أفضل وأوسع وأدق , ومع هذا فالقيادة والتحكم ليست بيده, فهو مستشار فقط للعقل الحوفي . وفي أحيان كثيرة لا يوافق اللحاء على استجابات الدماغ الحوفي ويحتج عليها, ولكن دون جدوى في أغلب الأحيان , وهنا يقع أهم صراع فكري لدينا وهو بين الدماغ الحديث أو اللحاء ويمثل عادة بالعقل والفكر , والدماغ الحوفي الممثل بالغريزة أو النفس .
وقدرات اللحاء لدينا الآن تنمو بسرعة هائلة نتيجة الحياة الاجتماعية والثقافية والعلمية , سواء أكان في سعة أو دقة المعالجة أو في مخزون المعلومات . فالعقل الحديث الممثل باللحاء يستخدم المعارف والمعلومات الدقيقة التي تم التوصل إليها, بالإضافة إلى استعمال المرغبات أو المكافأة , والمنفرات أو العقوبات , كالأطعمة اللذيذة والوجبات السعيدة أو الجميلة , والتصرفات المناسبة والتي تسمح له بتعديل استجابات العقل الحوفي . فهو يدير الكثير من الاستجابات بطريق غير مباشر وعبر الدماغ الحوفي .
ومع كل هذا يظل الدماغ الحوفي هو باني المعاني الأساسي , فحتى اللحاء نفسه يطلب منه تحديد المعاني , أي أنه يبقى في النهاية هو الأساس, لأنه هو الذي يحدد الممتع والمفيد وباقي المعاني  بشكل أساسي .
ما هي البنى المؤلفة للدماغ الحوفي
لقد تطور مفهوم الدماغ الحوفي ( أو الجملة الحافية ) كثيراً ، وابتعد كثيراً عن الأصل ألشمي الذي نشأ وتطور منه . ونستطيع التمييز بين مفهومين للجملة الحافية .
الأول يدعى الجملة الحافية المصغّرة والتي تقتصر على عدد من البنى القشرية وتحت القشرية التي تتصف بقدمها من الناحية التطورية والواقعة ضمن الدماغ ألانتهائي .
والمفهوم الثاني أكثر اتساعاً فيضيف إلى ما سبق عدداً آخر من البنى تقع في تقع في الدماغ المتوسط والمهاد .
تقع بنى الجملة الحافية القشرية في الوجه الداخلي لنصفي الكرة المخيّة ، وأهم هذه البنى :
التلفيف المسنن ، قرن أمون أو الحصين ، البصلة الشميّة ، اللوزة ( التي هي أكثر النوى القاعدية قدما وتأثيراً ) ، الباحة الحجاجية ، القشرة الأمامية ( ذات الدور الهام جداً لدينا ، وهي تابعة للحاء ) .
اللوزة أو الأميجدالا
حينما يوجه شخص ما وعيه إلى العالم من حوله ، يواجه قدراً متدفقاً من المعلومات الحسية الواردة من المستقبلات الحسية : مناظر ، أصوات ، روائح ، أحاسيس ، وما إلى ذلك . عندها يقوم الدماغ بمعالجة هذه المعلومات في الباحات الحسية الموجودة في الدماغ الحوفي الذي يعالج الأحاسيس الأولية الأساسية مثل الشم والألم وغيرها ، وفي اللحاء الذي يعالج الأحاسيس البصرية والصوتية وباقي الأحاسيس والمعاني اللغوية المتطورة . ويعود ويرسل أو يرحل نتائج هذه المعالجة والتحليل إلى الدماغ الحوفي وبالذات إلى اللوزة ( أو الأميجدالا ) التي تعمل كمدخل للمنظومة الحوفية التي تقوم بتقييم مجمل المدخلات ، وتنظم الرد المناسب لها بالاعتماد على القيام بالاستجابة المناسبة ، وأيضاً تستعين بإضرام الانفعالات المناسبة لذلك .
واعتماد على المعارف أو المعلومات المختزنة لدى الشخص تقرر اللوزة المخيّة كيف يجب على الشخص أن يستجيب فكرياً وعملياً وانفعالياً ، مثلا : بالخوف ( لرؤية لص ) أو بالشهوة ( لرؤية محب ) أو باللامبالاة ( لرؤية شيء تافه ) . وتتدفق الرسائل من اللوزة المخيّة إلى باقي أجزاء المنظومة العصبية المستقلة ، التي تهيئ الجسم للعمل المناسب . فإن كان الشخص يواجه لصاً على سبيل المثال ، فستزداد سرعة نبضات قلبه و سيتعرق جسده ليبرد الحرارة الناجمة عن الجهد العضلي ، ومن ثم يرتجع ( تحدث تغذية عكسية ) تيقّظ المنظومة المستقلة إلى الدماغ ، مضخماً الاستجابة الانفعالية . ومع الزمن تنشئ اللوزة ( الأميجدالا ) المخيّة منظراً عاماً بارزاً ، خريطة تبين تفصيلات الدلائل الانفعالية لكل شيء في بيئة الشخص .
كيف يمارس الدماغ الحوفي عمله
يتم ذلك من خلال مجموعتين من العمليات : المجموعة العمليات الأولى تربط العناصر الإدراكية ذات المضمون الشعوري مع العناصر الموضوعية للمعلومات الحسية , مع الأخذ بعين الاعتبار تجارب الفرد السابقة مما يعطي لهذه المعلومات المعنى , ويسمح الدماغ بإمكانية التوقع والمبادرة للقيام باستجابة ما أو الامتناع عنها . كما تكتسب المعلومات الراهنة قيماً أو معاني وتصبح دافعاً لسلوك معين .
أما مجموعة العمليات الثانية فإنها تسمح برصد حالات النجاح والفشل , أو بمعنى آخر تسمح برصد النتائج الناتجة مع النتائج المتوقعة مسبقاً , وعندما يحصل التطابق تنشأ أحاسيس سارة و تشغّل جملة التعزيز الإيجابي , أما في حال عدم التوافق تنشأ أحاسيس مؤلمة تشغّل جملة التعزيز السلبي . وبهذا يتعزز ظهور الاستجابة في الحالة الأولى بينما ينعدم في الحالة الثانية عندما يتعرض الفرد إلى ظروف مماثلة .
مهما كان نوع التأثيرات حسية أو فكرية , فإن لها تأثير على الاستجابات ( الأفعال والانفعالات والأفكار) . فكل مؤثر مهما كان نوعه حسي أو فكري عندما يدخل الدماغ تتم معالجته , وتظهر نتائجه في الاستجابات التي تحصل .
ما هو دور الدماغ في أرادة الاختيار؟ وكيف يتم الاختيار ؟
هل يتم بناءً عل قواعد سجلت في الدماغ بالوراثة وبالتجربة, وتجبر حرية الاختيار على إتباع طرق معينة مسبقاً بالرغم من وجود وهم الحرية؟ أم الأمر غير ذلك ؟
لا يوجد تناقض بين الادعاء بوجود حرية اختيار بين ملكة إجراء اختيارات متعمدة, بين دوافع متناوبة, ومجموعة توصيلات محددة بيولوجياً في الفكر, والتوكيد بأن القيم الواصلة بين الاختيارات هي محددة بالخصائص البيولوجية للشبكة الدماغية.
إن التعامل مع الخيارات الواعية وغير الواعية , بواسطة التنبيه والتثبيط , يتم بشكل أساسي في التشكيل الشبكي, بالإضافة إلى باقي بنيات الدماغ , والتشكيل الشبكي مركب في معظمه من عصبونات متراكبة فوق بعضها ذات محاور وتغصنات شديدة القصر.
وبفضل هذه الهندسة يكون التشكيل الشبكي حسن التلاؤم مع التغير التدريجي المتقدم, لمستواه من النشاط عن طريق التعديلات البطيئة والمتدرجة للكمون الكهربائي للتغصنات (تغصنات المحاوير) ويجعل هذا التراكب الشديد للألياف العصبية, هذه البنية قادرة على تكميل إثارة تنبيه مصادر متعددة .
فالتشكيل الشبكي يتلقى السيالات الصادرة عن الطرق الحسية(واردات الحواس) في اللحظة التي تصعد فيها نحو القشرة. وعندما تعبر العصبونات الحسية الجزع الدماغي فإنها تتعشق على التشكيل الشبكي وتمده هكذا بمحاوير إضافية. والنتيجة تكون أنه في كل مرة تصعد فيها رسالة حسية, دغدغة أم رنينا.....في السبل العصبية حتى باحتها المتلقية الحسية في القشرة, فإنها تنبه في نفس الوقت التشكيل الشبكي الذي ينقل عندها حالته الخاصة من التنشيط أو التثبيط إلى القشرة, وعلى عكس السبل الحسية التي تتجه نحو باحات التلقي الحسية(في القشرة), فإن التشكل الحسي يسقط بشكل مختلف على مناطق متسعة من القشرة .
فهذه الميزة المتنوعة لتساقطاته هي التي تسمح للجهاز الشبكي المنشط إن يعمل بشكل غير نوعي , أي أن إشاراته العصبية الصادرة مهما كان مصدرها تصيب ليس فقط باحة من التلقي النوعي, ولكنها يمكن بواسطة تأثير الجهاز الشبكي المنشط إن تنشط كل الباحات الأخرى من القشرة .
" لقد اعتبر اكتشاف التشكيل الشبكي بمثابة خطوة عظيمة في سبيل تفهم الأسس المادية للإرادة , وكذلك لفهم  الوعي . فوجود مثل هذا الجهاز الدماغي يبرهن بوضوح على أن الوعي(الخاص بحالة اليقظة أو أثناء الحلم) لا ينشأ عن حالة فزيولوجية وحيدة بل يتصف فزيولوجياً على الأقل بمجموعة اتصالية من الشدة المتدرجة.
فالنشاط الدماغي الذي يديره الجهاز الشبكي يمكن أن يتغير تدريجياً متنقلاً من التنبيه الناشئ عن الخطر أو الاكتشاف إلى الذهول التعب, وبعض علماء الأعصاب ذهلوا بشمولية وظيفة التشكيل الشبكي في عملية تنشيط القشرة وتنسيق الأجهزة العضلية. فكأنه برج مراقبة لا يقتصر في عمله على تنظيم اليقظة, بل يبدو إن تأثيره أكثر حذاقة, فهو يتحكم بسياق الانتباه والتفكير والتذكر."
ولكن يبقى عمل بنيات الدماغ و الدارات العصبية الجارية بين هذه البنيات والعناصر المكونة لهذه البنيات وآليات تفاعلها, معقدة جداً وأغلبها لم يتوضح بعد بشكل دقيق .
بنية التشكيل الشبكي
يحتوي جزع المخ أسفل الجهاز الحوفي على التكوين الشبكي الذي يستقبل المعلومات الحسية ويعمل كمصفاة خاصة بالنسبة للسماح أو عدم السماح للمعلومات الجديدة أو غير المتسقة بالمرور .
لقد اقترح جراي نموذجاً لكيفية تفاعل المكونات المختلفة للجهاز الحوفي , فرأى في فرس البحر أن "دائرة بابيز" التي تربط تكوين فرس البحر بباقي مكونات المخ أنما تعمل كأداة رقابية حيث تتابع السلوك الحادث والمعلومات الآتية من العالم, بحيث تتأكد من أن السلوك يسير وفق خطة أن المعلومات عن العالم تتوافق مع التوقعات. وفرس البحر ينظر إليه على أنه يقوم بدور وسيط يصل بين الانفعالات وبين العمليات الفكرية المصاحبة لها , أي الأساس المعرفي للانفعالات , فهو يقوم بوظائف يمكن وضعها في خدمة انفعال القلق أو بتعبير آخر فحينما ينتابك القلق تجد نفسك منخرطاً في نوع من عمليات التفكير, وهي عمليات تجري في فرس البحر.
هناك علاقات  متبادلة متعددة بين جمل التعزيز الإيجابي والسلبي من جهة , والجملة الحافية من جهة أخرى . بسبب الدور الذي تلعبه هذه الأخيرة , في تسجيل النجاحات والفشل , وفي إعداد ردود الفعل الشعورية , وإضفاء المعاني والمضامين على المنبهات المختلفة .

صفحات: [1] 2 3 4