Advanced Search

عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


مواضيع - نبيل حاجي نائف

صفحات: 1 2 [3]
31
الدماغ .. كيف يفكر
لقد عرف أغلب المفكرين والفلاسفة أن الوجود متحرك وفي صيرورة وهو لا معين . فزينون الإيلي أدرك أن الوجود متصل ولا متناه وهو عندما وضع حججه يرى أن التعامل معه فكرياً في حكم المستحيل . وهذا ما تمت مقاومته من أرسطو وباقي الفلاسفة . فالإبقاء على عدم التعيين لا يحقق مطلب العقل , بتحقيق تعامل مجد مع الواقع . فيجب الوصول إلى ثوابت أكيدة  يتم اعتمادها , ولكن هذا غير ممكن , فلا شيء أكيد بصورة مطلقة , فالصيرورة وعدم التعيين و اللا تناهي هي من خصائص الوجود الأساسية .
هذه المشكلة هي دوماً ماثلة في كل تفكير يسعى لفهم الوجود ويجب التعامل معها لتحقيق ما يرضي العقل ويقبل به , وهذا ما يفعله كل مفكر , فهو يسعى لتعيين الثوابت الأساسية في هذا الوجود , لكي ينطلق منها ويبني عليها أفكاره . فالوجود لا يمكن التعامل معه إلا بعد فهمه ومعرفته , وهذا لا يتم إلا بعد تثبيته وتحديده وتعيينه  .
إن عمل العقل الأساسي هو كشف البنيات في هذا الوجود , فأهم وظيفة للعقل البشري هي كشف البنيات المضمرة في الوجود , وذلك ببناء نماذج فكرية تمثلها . فكما يقول كانت" أن المعرفة وليدة فعل الذهن في الأشياء والعقل لا يدرك إلا ما ينتجه على صورته ومثاله" .
وقد قام العقل من أجل التعامل المجدي مع الواقع وفهمه , باعتماد ما يلي :
1 – التعريف , والتعرّف .
التعريف ( أو التسمية ) هو : تشكيل المفاهيم أو الهويات الثابتة المحددة , التي تمثل الأشياء أو الأشخاص أو أي شيء , فهي بنيات فكرية تمثل الأشياء وما لها من خصائص وصفات محددة .
أما التعرّف فهو : اعتماد هذه المفاهيم , وكلما صادفنا ما يمثل مفهوم معين نتعرف عليه  ‘ على أنه هو هذا الشيء الذي يرمز له المفهوم .
2 – تحريك المفاهيم أو الهويات الممثلة للأشياء , بواسطة المفاهيم التحريكية التي يشكلها العقل , والتي تمثل تغيرات و صيرورة هذه الأشياء . فبذلك يستطيع تمثيل أحداث الوجود فكرياً , وبناء التنبؤات أو التوقعات لما سوف يحدث , أو لما حدث .
فالعقل يشكل نوعين من المفاهيم  أو البنيات الفكرية  
ا - مفاهيم تدل على الأشياء وتحدد هويتها وخصائصها
ب - مفاهيم تدل على حركة أو تغيرات أو صيرورة الأشياء أو الهويات أي مفاهيم تحريكية
فالعقل قام بتمثيل أشياء وعناصر الوجود  وصيرورتها , بهويّات و مفاهيم ثابتة , محددة , معينة , يستطيع التعامل بها .
فهو بذلك يحول اختلافات وصيرورة الأشياء , إلى اختلافات محددة معينة بين وحدات أو هويات معرّفة لديه , عندما يشكل البنيات الفكرية الممثلة للوجود وحوادثه .
وتثبيت المفهوم هو منعه من التغير والحركة والصيرورة , وهذا هو أساس مبدأ الهوية الذي هو :
                               " – أ- تبقي هي– أ- "
وتحديد المفهوم ( أو البنية الفكرية ) هو  فصله عن غيره من المفاهيم وتحديده .
وتعيين المفهوم هو  تعيين صفاته وتأثيراته , فعدم تعيين خصائصه و تأثيراته هو عدم تعيينه .
مثال : فالإلكترون تعيّن صفاته و تأثيره بالنسبة للبروتون أو بالنسبة لمجال كهربائي أو مغناطيسي أو بالنسبة للجاذبية .
فلابد من تعيين صفات وتأثيرات الشيء إذا أردنا تعيينه . وصفات وتأثيرات أي شيء لا يمكن أن تعين بشكل مطلق , فصفات وتأثيرات أي شيء تابع للبنية أو البنيات التي يؤثر فيها .
فالعقل يقوم بالتحريك الفكري ( أي المعالجات الفكرية أو التفكير ) لهذه البنيات الفكرية التي شكلها  , وذلك خطوة , خطوة . أي يقوم بالتحريك الفكري للهويات الشيئية أو الإسمية , بواسطة الهويات  التحريكية .
فبذلك استطاع الدماغ أو العقل تشكيل نموذج مختصر وبسيط  للوجود وصيرورته , بواسطة تلك البنيات الفكرية التي شكلها , تمكنه من تحريك أو مفاعلة النموذج الذي شكله للوجود , إلى الأمام إلى المستقبل وهذا هو التركيب , أو إلى الخلف إلى الماضي وهو التحليل . وذلك بسرعة أكبر من سرعة تغيرات الواقع الفعلية .
وعندما أوجد عقل الإنسان الأفكار أو البنيات الفكرية , التي استطاعت أن تمثل البنيات الواقعية وتمثل تفاعلاتها مع بعضها , تكون زمن فكري يمثّّل الحوادث و صيرورة الوقائع . فهو يستطيع أن يعرف أي يتنبأ بالأحداث , أو نتائج تفاعلات بين بنيات , حدثت في الماضي أو سوف تحدث في المستقبل . وكذلك يستطيع أن يتنبأ بحوادث أو تفاعلات لم يتأثر إلا بجزء قليل منها , فهو يكمل ما ينقصه ويضع سيناريو للكثير من تلك الحوادث .
فالفكر يستطيع السير بتفاعلاته الفكرية بسرعة أكبر من السرعة التي تجري فيها في الواقع , أي إلى المستقبل . وكذلك يستطيع السير إلى الماضي عن طريق عكسه التفاعلات أو التحليل , ووضعه لسيناريو لما يمكن أن يكون حدث أو ما سوف يحدث , وتزداد دقة تنبؤاته باستمرار لتقترب من الواقع الفعلي .

فالعقل ثبّت , وحدد , وعين الأشياء , بتشكيله المفاهيم أو الهويات الشيئية التي تمثل هذه الأشياء , أي شكل البنيات الفكرية الإسمية ( بالنسبة لنا نحن البشر بعد أن ملكنا اللغة) مثل:
الأسماء الخاصة إن كانت خاصة مثل: زيد . عمر . دمشق .
أو الأسماء العامة مثل: شجرة . قطة. سيارة .
أو أسماء عامة مركبة مثل: الأسرة. الدولة. الاقتصاد . العلم . الفكر .
وحددها بالكميات , المقدار والعدد . وبالزمان . قبل , بعد . وبالصفات والخصائص الكثيرة الأخرى  .
وكذلك ثبت وحدد وعيّن العقل التغيرات و الصيرورات وحددها عندما شكل البنيات الفكرية التحريكية مثل :
 كبر , صغر , صار , نما , أكل , ضرب , عمل , فرح . . . .
والبنيات الفكرية التحريكية العامة المعقدة , مثل : التعاون , الصداقة , الحرية , العدالة , الديمقراطية. . . .
وباستعمال قواعد النحو ,العطف والربط والجمع والاستثناء...
واستخدم الاشراط أو الربط المنطقي الذي يعتمد عليه مبدأ أو آلية السببية  ( إذا كان " كذا " يكون " كذا " ) .
واستعمل التصنيف والتعميم والقياس والمقارنة والتقييم والحكم , والاختبار  والتصحيح , لكي تتطابق أو تقترب النتائج بين النموذج والأصل .
وهذا ما أسميه التكميم الفكري . فالتكميم الفكري هو تمثيل الموجودات وصيرورتها ببنيات فكرية اسمية  و تحريكية , ثابتة محددة معينة , أي مكممة .
وبذلك  فُتح الزمن في هذا النموذج الذي صنعه للوجود . فالعقل عندها يستطيع السير فكرياً عبر الزمن إن كان إلى الماضي أو إلى المستقبل .
مثال على تكميم العقل للكثرة
هناك مثل يقول" لا يمكن حمل بطيختان بيد واحدة " هذا صحيح في الوضع العادي . ولكن يمكن حمل بطيختان أو أكثر بيد واحدة إذا ربطت معاً أو وضعت في وعاء لتصبح مجموعة واحدة .
وهذا ما يفعله العقل عند التعامل مع الكثرة , فهو لا يستطيع التعامل إلا بالوحدات المحددة , لذلك هو يستعمل آلية تشكيل المجموعة بجمع عدة وحدات متماثلة أو متشابه في بنية واحدة , فبذلك يستطيع التعامل معها وتحريكها و مفاعلتها مع باقي البنيات .
وطريقة تشكيل المجموعات هي نفسها التعميم الذي يتضمن ضم أو جمع عدد من البنيات الفكرية في مجموعة واحدة , لأنها تتضمن بعض الصفات أو الخصائص المتماثلة أو المتشابهة.
فالمجموعة أو الفئة هي طريقة تكميم استعملها عقلنا في تعامله مع الكثرة , وأعادها للوحدة الواحدة , ليستطيع التعامل معها . فهو لا يستطيع التعامل مع الكثرة , إذا كانت غير معينة برقم أو كمية . فالتعيين برقم أو بكمية أو بخاصية يزيل عدم التعيين .
إذاً استعمل عقلنا الفئات أو المجموعات أو الأسماء العامة وكذلك الأعداد والصفات , لكي يتعامل مع الكثرة . فقد كمم العقل المقدار بالعدد , وكمم المكان بالمسافات والاتجاهات والسطوح و الحجوم , وكمم الزمان بالوحدات الزمنية والاتجاه قبل وبعد أي الماضي , والحاضر , والمستقبل . وكمم قوة المؤثر بمقدار شدتها أو درجتها . وكمم الأحاسيس بتحديد نوعها , أو تصنيفها . والكم ليس بحاجة إلى تصنيف , فتعيين الكم هو تصنيف له .
والعقل عندما يشكل البنيات الفكرية يكون ذلك بناءً على تكميم الكيف . إن الكيف بالنسبة لنا مرتبط بأحاسيسنا بشكل أساسي , فهو تابع لأنواع أحاسيسنا وخصائصها , وهو مرتبط بالممتع والمفيد والجميل وبكافة أنواع الأحاسيس . وتشكيل العقل للكم فقد أتى لاحقاً نتيجة معالجة واردات الحواس بشكل متطور .
أنواع ودرجات التكميم الفكري
للتكميم الفكري درجات أو مستويات , أي يمكن أن يكون ضعيفاً وغير دقيق , ويمكن أن يكون دقيقاً , ويمكن أن يكون تاماً أو مطلقاً , مثال على ذلك :
ضعف تكميم درجة الاحتمال , فكما كان مفهوم العدد محدود وضعيف التكميم لدي الإنسان البدائي , الذي يعرف فقط واحد , إثنان , ثلاثة , كثير . كذلك أغلبنا يقول عن الاحتمال ممكن أو محتمل , ممكن جداً , نادر , حتمي , مستحيل , وهذا تكميم ضعيف لدرجة الاحتمال , فيجب تعيين درجة الاحتمال بعدد محدد وإن لم يمكن فبنسبة محددة بعدد . فأغلبنا لا يدرك نسبة الاحتمال بشكل جيد , فاحتمال نسبته واحد بالعشرة يختلف كثيراً عن احتمال واحد بالألف ويختلف بشكل كبير عن احتمال واحد بالمليون , ومع ذلك لا يدرك أغلبنا مقدار هذا الفرق . فشاري ورقة اليانصيب والتي احتمال ربحها واحد بالمئة ألف أو واحد بالمليون , يقول إن الربح ممكن , وقد ربح فلان وفلان , ويمكن أن أربح أنا , ولا ينتبه إلى نسبة الاحتمال الشبه معدومة . إن التعيين الدقيق لنسبة الاحتمالات هام جداً , وهذا لا يعرفه أغلبنا .
البنيات الفكرية الرياضية , لقد شكل عقلنا البنيات الفكرية الرياضية , والتي هي بنيات فكرية تامة أو مطلقة التكميم . فالبنيات الفكرية الرياضية الشيئية ( الهويات الرياضية الاسمية ) مكممة بشكل مطلق .
فالأعداد وهي التي نستطيع بواسطتها التعامل فكرياً مع الكثرة هي كميات مثبتة ومحددة ومعينة بشكل كامل , فالعدد ( 2 ) يعني شيئين أو وحدتين أو زمنين أو حادثتين... متماثلتين ومتطابقتين بشكل تام , ( مع أن هذا غير موجود في الواقع , فهناك دوما فروق بين أي شيئين أو أي وحدتين , يتم إهماله ) . وهذا مكن من القياس والمقارنة بشكل تام . وكذلك كممت البنيات الرياضية الهندسية النقطة والمستقيم والزاوية والمثلث... بشكل تام , وكذلك باقي البنيات الرياضية .
و كممت الرياضيات أيضاً التغيرات والصيرورة بالبنيات الرياضية التحريكية , مثل عمليات الجمع والطرح والضرب والقسمة , والجزر والتربيع , والمساواة وعدم المساواة , والمعادلة , والتفاضل والتكامل والتناهي ......الخ . وكافة البنيات والعمليات الرياضية مكممة بشكل تام , والبنيات الرياضية تتوسع وتنمو وتتطور باستمرار فقد نشأت فروع ومجالات كثيرة .
وإذا قارنا المنطق بالرياضيات . نجد أن المنطق يكمم الأفكار بشكل تام مثل الرياضيات , ولكنه لم يكمم إلا عدد قليل جداً من البنيات الفكرية الشيئية أو التحريكية . لذلك  " الرياضيات . الرياضيات . الرياضيات , المنطق منذ زمن لم يعد كافياً " .
فالبنيات الرياضية هي  بنيات فكرية تامة أو مطلقة التكميم , أي هي مثبتة ومحددة ومعينة بصورة تامة , وتعتمد البنيات الرياضية المسلمات كأحجار أساسية تبنى منها باقي البنيات الرياضية , فالمسلمات هي بنيات فكرية معتمدة ومتفق عليها من قبل كافة الرياضيين , وهذا لا يمنع من اعتماد مسلمات مختلفة وبناء رياضيات مختلفة  بالانطلاق من هذه المسلمات . وهذه المسلمات هي تابعة للعناصر والخصائص الفيزيائية والبيولوجية والعصبية لتفكيرنا . أما كيف بنينا هذه المسلمة – أو المعلومة- ومدى دقتها .  فهذا تم بعد الاختبار الواقعي وعدم ظهور ما يناقضها واقعياً حتى الآن , وإذا ظهر ما يناقضها يمكن تعديلها لتناسب ما يحصل فعلياً .
كيف نشأت أو كيف تشكلت الأفكار أو البنيات الفكرية في الدماغ
إن البنيات الفكرية تتشكل في أدمغة الكائنات الحية في أول الأمر , من واردات الحواس . فهي تتكوٌن نتيجة  ترابط كمية معينة  من واردات الحواس مع بعضها  نتيجة تزامن حدوثها معاً  بالإضافة إلى تكرار هذا الحدوث , ونتيجة آليات وعوامل أخرى , فتتشكل بذلك البنيات الفكرية الأولية أو الأساسية . وهذا يتم بعدما أن تتوضع في الذاكرة وتكون على شكل بنيوي أي حدوث نمو لمشابك ومحاور الخلايا العصبية , التي تكرر مرور التيارات العصبية فيها . وعندها يصبح بالإمكان إعادة إنشائها  نتيجة وصول جزء منها , وليس كلها.
فالبنيات الفكرية تتشكل نتيجة تثبيت وتحديد مجموعة معينة من واردات الحواس التي دخلت معاً إلى الدماغ . والتثبيت ينتج عن تنامي محاور ومشابك الخلايا العصبية . و واردات الحواس تكون ذات كمية وشدة وخصائص ثابتة محددة أثناء إرسالها إلى الدماغ , فهي بمثابة صورة ثابتة محددة  التقطت للواقع أثناء صيرورته .
هذا النوع من البنيات الفكرية الخام موجود لدى غالبية الكائنات الحية , فأصول الدماغ واحدة , فالفرق بيننا وبينهم هو في زيادة التخصص والتعقيد , ونشوء اللغة المحكية ثم المكتوبة هو الذي أحدث تلك الفروق الكبيرة بيننا وبينهم .
و عندما يولد الأطفال يبدؤون في أول الأمر بتشكيل بنياتهم الفكرية الخام , وبعد فترة  يبدؤون بتشكيل بنياتهم الفكرية اللغوية .
وكل شيء ليس له واردات حسية يصعب على العقل تشكيل بنية فكرية له , والأفكار التي تنتج عن معالجة البنيات الفكرية هي فقط التي توجد بنيات فكرية ليس لها أصل واقعي .
التواصل الفكري
ولدى الإنسان الذي يعيش في مجتمع , تطورت هذه البنيات الفكرية العصبية نتيجة التواصل بين الأفراد , فترابطت سلسلة بنيات فكرية لتشكل بنيات فكرية متطورة , عندما مثلت بعض البنيات الفكرية بإشارات فيزيائية ( أصوات وتعبيرات وحركات . . ) تدل عليها , وهذا أدى لنشوء البنيات اللغوية الفكرية وتطورها لتصبح كما هي عليه لدينا الآن.
فهذه البنيات اللغوية الفيزيائية المرسلة للدماغ الآخر تصبح هي أيضاً مدخلات حسية , وهي تتحول من جديد لبنيات فكرية خام , وتصبح بنيات فكرية دلالية . فهي ترمز أفكار تم إرسالها من إنسان لآخر .
وبذلك نشأت وسيلة تستطيع بها البنيات الفكرية الانتقال من عقل إلى آخر وذلك عن طريق ترميزها ببنيات لغوية فيزيائية أصوات وإشارات تنتقل إلى المستقبلات الحسية للعقل الآخر ويقوم هذا العقل بفك رموزها وإعادتها إلى بنبات فكرية . أي نشأت وسيلة للتواصل بين الناس . فهذا تم بعد أن تحولت البنيات الفكرية اللغوية إلى بنيات فيزيائية لغوية ( مؤثرات فيزيائية إشارات وأصوات) . فإذا تلقتها حواس إنسان آخر يمكن أن تتحول إلى بنيات فكرية لغوية ثم إلى بنيات فكرية ومعاني , إذا تم فك رموزها . فبهذا تنتقل البنيات الفكرية من دماغ إنسان إلى أخر وتصبح مهيأة لكي تتوضع فيه , أي يمكن أن تتحول هذه البنيات الفيزيائية اللغوية إلى بنيات فكرية عصبية , و تتوضع في دماغ المتلقي .
فاللغة لدينا هي تمثل البنيات الفكرية والحسية الكثيرة المتنوعة , ببنيات فكرية لغوية فيزيائية  محددة معينة وموحدة  يتم التواصل بها بين الأفراد . ولقد استعملها دماغنا أيضاً في معالجته البنيات الفكرية , فكل جملة هي بيان لعلاقات أي هي تصف أو تمثل صيرورة جزء من الوجود .
إن هذا هو الذي أدى لحدوث قفزة هائلة لقدراتنا على معالجة الأفكار , عن باقي الكائنات الحية , وبناء التنبؤات أو المعارف . فالفيل والحوت وبعض الدلافين يملكون خلايا دماغية أكثر منا , ولديهم قدرات معالجة فكرية خام أكبر من قدراتنا , ولكن ليست أنجع من طرق معالجتنا . فنظام التشغيل في دماغنا أفضل وأنجع نتيجة استعمال البنيات الفكرية اللغوية المتطورة جداً لدينا , وهذا ما حدٌ كثيراً من فاعلية معالجتهم للبنيات الفكرية التي يتعاملون بها , فذاكرتهم أفضل وأدق ( والذاكرة من أسس قدرات التفكير ) , ولكنهم يتعاملون مع بنيات فكرية خام , لأنها لم تمثل بدقة ببنيات فكرية لغوية . ويمكن تشبيه الفرق بيننا وبينهم , بأن طريقة تفكيرنا رقمية وهي عالية التكميم نتيجة اللغة المتطورة , و طريقة معالجاتهم التي يمكن اعتبارها غير رقمية .

لقد استطاع العقل التعامل مع صيرورة وعدم تعيين الوجود بتلك الطريقة , صحيح أنه لن يستطيع بلوغ المطلق, ولكنه سوف يصل إلى نسبة عالية جداً من دقة التنبؤ  تكفي متطلباته  وأوضاعه .
إن كشف بنيات الوجود المتنوعة و اللا متناهية –  بتمثيلها ببنيات فكرية-  هو ما  قام به العقل البشري, فهو يقوم بكشفها وتحديدها وتعيين خصائصها وبدقة متزايدة . والبنيات الفكرية العلمية العالية الدقة التي يكشفها - أو يشكلها- العقل البشري بمساعدة التكنولوجيا والذكاء الصناعي - الكومبيوتر وما شابهه-  تتزايد بسرعة هائلة سواء كان بكميتها أو بدرجة دقتها أو سعتها وشمولها .
ولا يمكن كشف كامل بنيات الوجود مهما فعلنا لأنها لا متناهية , وهي في صيرورة دائمة , وتتخلق باستمرار بنيات جديدة وتختفي بنيات , فبنية الوجود الكلية لا يمكن تحديدها وتعيين خصائصها بصورة تامة , أي أن عدم التعيين والصيرورة لهذا الوجود , موجودة مهما فعلنا.
لكن نحن لا يهمنا ولا نريد إلا ما نحن بحاجة إليه, صحيح أن ما يمكن أن نحتاجه يمكن أن يكون شبه لا متناه وغير محدد , ويظهر جديد باستمرار فكلما ظهرت حاجة أو دافع جديد  نسعى إلى تحقيقه .
- يقول لجون كوتنغهام
       " ما من ريب أن الفكرة التي تذهب إلى أننا نستطيع الوصول إلى نوع من الحقيقة المطلقة على خطأ: فنحن كائنات متناهية والواقع إذا لم يكن متناه , فهو أوسع بشكل غير محدود من أي شيء يمكن أن تفهمه عقولنا المتناهية, ولكن إذا لم نتمكن من إنشاء مرآة غير مصدوعة تعكس البنية الهائلة والمعقدة للواقع , فنحن قادرون على الأقل أن نميز جزءاً من بنيته, ولو من خلال زجاج هو بالضرورة مظلم ومشوه . وقد تكون الملاءمة الكاملة التي تصورتها " الأفكار الواضحة والمتميزة" عند ديكارت بالغة التفاؤلية . ولكن ذلك ليس سبباً للتنازل عن فكرة الواقع الموضوعي , أو التخلي عن الكفاح لجعل رؤيتنا أوضح وأشمل وأدق بالتدريج . "
إن قدرات العقل البشري هائلة , وعندما يتعامل مع الواقع اللا معين و اللا متناه تكون الخيارات المتاحة لتفسيره هي أيضاً لا متناهية, فهو يستطيع تشكيل أغلب ما يريد من البنيات الفكرية ويعطي المعاني التي يريد لهذه البنيات.
وأول من عرف ذلك هم السفسطائيون , وقد اقتربوا بذلك من فهم الوجود بشكل كبير لأنهم عرفوا أهم خصائص الوجود, وخصائص العقل , فاللعب بالأفكار المتاحة واسع جداً , وخاصةً بالنسبة للعقل الذي تعلم الكثير من الأفكار, فقد أدركوا الخيارات الهائلة المتاحة أثناء التفكير, وهذا جعل كل شيء متاح في التفكير, فكل فكرة مهما كانت يمكن الرد عليها إما بتفنيدها ونقدها أو بتأييدها ودعمها .

32
الرياضيات العامة اللامنهجية / تذوق الرياضيات
« في: يوليو 28, 2008, 04:40:13 مساءاً »
تذوق الرياضيات
أننا جميعاً نتذوق الطعام والشراب وكافة الأحاسيس الجسدية اللذيذة والجميلة, وكذلك جميعنا يتذوق الموسيقى والكثير من الفنون الأخرى وأغلبنا يتذوق الأدب .
ولكن القليل منا من يتذوق الأحاسيس و اللّذات الفكرية والفلسفية والروحية,.
والقليل القليل من يتذوق الّلذات الفكرية الرياضية, وهذا راجع إلى التعامل مع الرياضيات على أنها أفكار مجردة ضعيفة الاتصال مع الواقع العيني الحسي الملموس المعاش .
لقد أهمل السعي إلى ربط الرياضيات بالواقع بشكل واضح وجلي وأهمل تحميلها الأحاسيس الجمالية والأحاسيس اللذيذة, وكان إذا تم ذلك وصفت الرياضيات بالتناسق والتناظر اللذين هما أسس الجمال, ولكن ظل الإحساس بهذا التناظر والتناسق ضعيفاً وصعب التذوق وغير واضح للأغلبية.
إن الذين استطاعوا تذوق الّلذات الفكرية الرياضية وخبروا وعرفوا هذه اللّذات غالبيتهم لم يسعوا إلى تعليم أو تعريف غيرهم بهذه الّلذات الفكرية , فقد كان هذا صعباً في أغلب الأحيان لأنه يتطلب قدرات ورغبات غير متوفرة لدى غالبيتهم لكي يستطيعوا تعليم تذوق الرياضيات, وهذه القدرات هي:
التمكٌن من التفكير الرياضي وتذوقه والقدرة على إيجاد الروابط التي تسمح بربط التفكير الرياضي المجرد بالواقع والأحاسيس, أي القدرة على نقل و شرح الأفكار الرياضية وجعلها قابلة للإحساس والتذوق.
فالسعادة أو اللذة التي يشعر بها من يبرهن على نظرية هندسية باكتشافه التناظر والدقة المطلقة عندما يجد أن الحل مبني على ترابط واقع فكري مطلق الدقة والصحة ولا يمكن أن يكون إلا كذلك وأي حل آخر غير صحيح بشكل واضح وحتمي, فهذه الدهشة والتعجب- وهي لذة من نوع خاص- التي يشعر بها هي نتيجة هذه الرابطات والدقة والحتمية التي اكتشفها, ويمكن أن نشبه هذا بما يشعر به أغلبنا عند سماعه نكتة جميلة- مع ملاحظة أن تذوق النكتة يحتاج إلى قدرات عقلية متطورة- , فالتعجب و المفاجأة والإدهاش بالإضافة للدقة وحتمية الصحة أو حتمية الخطأ هو ما يميز الأحاسيس الناتجة عن التفكير الرياضي .
عندما كان عشاق الرياضيات و متذوقوها يتنافسون ويتراهنون على الوصول إلى حل "المعادلة من الدرجة الثالثة  "المستعصي , ويبذل كل منهم مئات وآلاف الساعات في التفكير للوصول إلى الحل  ويجد دوما الطرق مسدودة, ثم يتوصل أحدهم إلى الحل , فهذا الذي توصل إلى الحل شعر وأحس حتماً بشعور هائل بنشوة الفوز وبالتالي السعادة والرضا , إنه تذوق التفكير الرياضي في أعلى مستوياته وهو الوصول إلى الحل الصعب - و من الحلول الصعبة التي تم الوصول إلى حلها حساب محيط الدائرة ومساحة الدائرة والكثير غيرها , لقد طلب الرياضي" فيرما" أن يضع على قبره أنه أوجد الرقم 34 بعد الفاصلة لحساب (البي), لقد كان يعتبر ما أنجزه عملاً خارقاً يعتز به ويستحق إعلانه بفخر لأنه بذلك استطاع الوصول إلى دقة عالية جداً لحساب (البي) التي يحسب محيط أو مساحة الدائرة  وحجم الكرة بناء عليها.
لقد كان الفيثاغورثيون من متذوقي الرياضيات وقد قدسوا الرياضيات لأنهم عرفوها و تذوقوها.
فتذوق الأفكار الفلسفية والروحية والعلمية والرياضية هو من ألذ وأقوى وأمتع الأحاسيس .

33
الحزورة بسيطة ولكن حلها فعلاٌ صعب .
لأنني أعطيتها للكثيرين ولم يحلها أحد
لأنه لم يبزل أحدهم الجهد لحاها .

الحزور هي

لدينا 12 قطعة ذهب جميعها متساوية الوزن ما عدى واحدة .
فهي مختلفة الوزن , ويمكن أن تكون أثقل ويمكن أن تكون أخف .
ولدينا ميزان ذو كفتين .
نريد تحديد هذه القطعة من خلال ثلاث وزنات فقط .
إي لدينا مجهولين معرفة القطعة , ومعرفة وزنها هل هي خفيفة أم ثقيلة .
إنني حليتها خلال ثلاث أرباع الساعة .

كيف هي هذه الوزنات الثلاثة ؟؟

34
منتدى علوم الفلك / لانفجار الأعظم» ما الذى فجره؟
« في: يوليو 26, 2008, 12:56:02 مساءاً »
هذا الموضوع نشرته في جريدة عرب أونلان الأسبوعية

لانفجار الأعظم» ما الذى فجره؟

"الانفجار الأعظم"، انه لغز الكون الأول الذى ما يزال يثير الحيرة فى عقول العلماء من مختلف اختصاصات الفيزياء والرياضيات والكيمياء والهندسة وغيرها.

وفى حين يفترض الكثير من هؤلاء العلماء ان الكون بشكله الحالى نشأ عن ذلك الإنفجار، إلا انهم يختلفون حول السبب الذى أدى إليه، وما إذا كانت هناك قوة دافعة وراء حدوثه.

وأهمية هذا الموضوع تكمن فى أن له أبعادا كثيرة، فهو الذى سوف تبنى عليه كافة معارفنا "وعقائدنا" عن هذا الكون، فالأساس الفيزيائى الموثق لطبيعة وخصائص الكون، هو الذى يسمح لنا معرفة خصائص الوجود وبالتالى معرفتنا أنفسنا وكل شيء فى هذا الوجود.
ولعله مما يثير العجب كثرة العلماء الذين يعتبرونها صحيحة ويبنون القوانين الكونية التى تعتمد عليها، ولكن هناك عدة آراء لعلماء تحاول التشكيك بها.

وتنطوى نظرية الانفجار الأعظم على تناقضات كثيرة يجرى تبريرها بطرق غير دقيقة، وأهم هذه التناقضات هو عمر الكون وعمر المجرات التى يظهر أحياناً أنها أكبر منه.

وفى المقابل، تستمد نظرية الانفجار الأعظم صحتها عن طريق 3 قضايا أساسية:
الأولى: أن المجرات تتباعد عن بعضها بسرعة أكبر كلما كانت أبعد عنا، وهذا بالاعتماد على "ظاهرة دوبلر" التى تقول بانخفاض التردد عندما يتحرك مصدره مبتعدا عنا.

الثانية: الخلفية الإشعاعية أو الحرارية التى أثبت وجودها منتشرة فى الكون المنتشر حولنا.

الثالثة: كمية الهيدروجين والهليوم ونسبته فى الكون تؤيد هذه النظرية.

كان خلق الكون مفهوماً غامضاً ومهملاً لدى الفلكيين، والسبب فى ذلك هو القبول العام لفكرة أن الكون أزلى فى القدم وموجود منذ زمن لا نهائي. وبفحص الكون افترض العلماء أنه كان مزيجاً من مادة والطاقة، ويظن أنهم لم يكونا ذا بداية، كما أنه لا توجد لحظة خلق تلك اللحظة التى أتى فيها الكون وكل شيء للوجود، وتضمنت أن المادة والطاقة كانتا الشيء الوحيد الموجود فى الكون، وأن الكون وجد منذ زمن اللانهائى وسوف يبقى إلى الأبد.

اكتشاف تمدد الكون

كانت الأعوام التى تلت 1920 هامة فى تطور علم الفلك الحديث. ففى عام 1922 كشف الفيزيائى الروسى ألكسندر فريدمان حسابات بين فيها أن تركيب الكون ليس ساكناً. حتى أن أصغر اندفاع فيه ربما كان كافياً ليسبب تمدد التركيب بأكمله أو لتقلصه وذلك طبقاً لنظرية أينشتاين فى النسبية.

لم تحظ التأملات النظرية لهذين العالمين فى تلك الفترة باهتمام يذكر، غير أن الأدلة التى نتجت عن الملاحظات العلمية فى عام 1929كان لها وقع الصاعقة فى دنيا العلم. ففى ذلك العام توصل الفلكى الأمريكى الذى يعمل فى مرصد جبل ويلسون فى كاليفورنيا إلى واحد من أعظم الاكتشافات فى تاريخ علم الفلك.

ادوين هابل هو باختصار الشخص الذى غيّر رؤيتنا إلى الكون، ففى العام 1929 اثبت أن المجرات تبتعد عنا بسرعة متناسبة مع المسافة التى تفصل ما بينها. وتفسير ذلك بسيط مع انه ثوري: الكون يتوسع.

ولد هابل فى ميسورى فى العام 1889. وأدى فى مطلع العشرينيات دوراً مهما فى تحديد ماهية المجرات. وكان من المعروف أن بعض اللولبيات السديمية تحتوى على نجوم من دون أن يكون هناك إجماع فى أوساط العلماء حول ما إذا كانت هذه مجموعات صغيرة من النجوم فى مجرتنا أو إذا كانت مجرات منفصلة أو حتى أكوانا مستقلة لا يقل حجمها عن حجم مجرتنا لكنها ابعد بكثير.

وفى العام 1924 قاس هابل المسافة التى تفصل الأرض عن سديم "اندروميدا" "المرأة المتسلسلة" التى تبدو كمجموعة خافتة الضوء ولا يزيد قطرها عن قطر القمر واثبت انه مجرة منفصلة تبعد مئات آلاف المرات عن اقرب نجم إلى الأرض.

وكان هابل قادراً على قياس مسافات عدد محدود من المجرات إلا انه أدرك امكان احتساب درجة لمعان المجرات كمؤشر على بعدها عن الأرض، والسرعة التى تتحرك بها إحدى المجرات اقترابا من الأرض وابتعادا عنها كانت سهلة القياس نسبيا بفضل تفسير دوبلر لتغير الضوء.

مع استخدام محدد دقيق لألوان الطيف تمكن هابل من قياس درجة احمرار ضوء المجرات البعيدة، وعلى الرغم من أن المعلومات التى توفرت لهابل فى العام 1929 كانت عامة جدا إلا انه نجح فى التكهن، سواء كان مقادا بحدسه العلمى آو بحسن حظه، بالعلاقة بين درجة الاحمرار وابتعاد المجرات.

وقام هابل باختباراته على أفضل منظار فى العام الذى كان موجودا فى تلك الحقبة على جبل ويلسون جنوبى كاليفورنيا. ويحمل اسمه اليوم أفضل تلسكوب فى العالم الموجود فى مدار حول الأرض، ويكمل منظار هابل العلمى ما بدأه هابل نفسه من رسم خريطة للكون وتقديم أفضل الصور للمجرات النائية.

وهابل لم يكتف بذلك بل استمر بأرصاده وحساباته وبدأ يستخدم طرقا أخرى لقياس مسافات المجرات عنا فوجد أن العديد منها يبتعد عنا بسرعات تزداد كلما كانت المجرات أبعد، وهذا ما جعله يخلص إلى استنتاج تناسب السرعة التى تبتعد بها تلك المجرات مع بعد هذه المجرات عنا.

وهكذا خلص فى عام 1929 إلى القانون الذى يعرف باسمه والذى يربط بعد المجرة عنا بمقدار عددى يسمى اصطلاحا بثابت هابل 0 V0= H0 d "و الذى يستحسن أن نسميه بعامل هابل لأنه ليس ثابتا أبدا ولم ينفك يتغير منذ أن أعلنه هابل وهو حتى الآن غير محدد القيمة بدقة". ونتيجة لعمل هابل بشكل كبير جدا فقد تمكن من حساب سرعات العديد من المجرات وهذا أدى فيما بعد إلى نتائج علمية هامة.

وقد أظهرت أرصاد هابل وفق هذا المبدأ أن المجرات تتحرك بعيداً عنا، وبعد فترة وجيزة توصل هابل إلى اكتشاف آخر مهم، وهو أن المجرات لم تكن تتباعد عن الأرض بل كانت تتباعد عن بعضها البعض أيضاً، والاستنتاج الوحيد لتلك الظاهرة هو أن كل شيء فى الكون يتحرك بعيداً عن كل شيء فيه، وبالتالى فالكون يتمدد، ومع تقدم العلم والتقنيات ظهرت صحة استنتاج هابل. فالمجرات تبتعد عنا والكون يتمدد، ومع نظرية النسبية العامة التى وضعها ألبرت اينشتاين فى العام 1915، أصبح من المسلم به أن جميع المجرات والكون برمته يتوسع.

فى عام 1948 طور العالم جورج غاموف حسابات جورج لوميتر عدة مراحل للأمام وتوصل إلى فكرة جديدة تتعلق بالانفجار الكبير، مفادها أنه إذا كان الكون قد تشكل فجأة فإن الانفجار كان عظيماً ويفترض أن تكون هناك كمية قليلة محددة من الإشعاع تخلفت عن هذا الانفجار والأكثر من ذلك يجب أن يكون متجانساً عبر الكون كله.

خلال عقدين من الزمن كان هناك برهان رصدى قريب لحدس غاموف، ففى عام 1965 قام باحثان هما آرنوبنزياس وروبرت ويلسون بإجراء تجربة تتعلق بالاتصال اللاسلكى وبالصدفة عثر على نوع من الإشعاع لم يلاحظه أحد قبل ذلك وحتى الآن، وسمى ذلك بالإشعاع الخلفى الكوني، وهو لا يشبه أى شيء ويأتى من كل مكان من الكون وتلك صفة غريبة لا طبيعية، فهو لم يكن موجوداً فى مكان محدد.

وبدلاً من ذلك كان متوزعاً بالتساوى فى كل مكان، وعرف فيما بعد أن ذلك الإشعاع هو صدى الانفجار الكبير، والذى مازال يتردد منذ اللحظات الأولى لذلك الانفجار الكبير. وبحث غاموف عن تردد ذلك الإشعاع فوجد أنه قريب وله القيمة نفسها التى تنبأ بها العلماء، ومنح بنزياس وويلسون جائزة نوبل لاكتشافهما هذا.

فى عام 1989 أرسل جورج سموت وفريق عمله فى ناسا تابعاً اصطناعياً للفضاء، وسموه مستكشف الإشعاع الخلفى الكونى "cobe" وكانت ثمانية دقائق كافية للتأكد من النتائج التى توصل إليها كل من بنزياس وويلسون، وتلك النتائج النهائية الحاسمة قررت وجود شيء ما له شكل كثيف وساخن بقى من الانفجار الذى أتى منه الكون إلى الوجود، وقد قرر العلماء أن ذلك التابع استطاع التقاط وأسر بقايا الانفجار الكبير بنجاح.

وإلى جانب ذلك، فثمة دليل آخر مهم يتمثل فى كمية غازى الهيدروجين والهليوم فى الكون. فقد أشارت الأرصاد الى أن مزيج هذين العنصرين فى الكون أتى مطابقاً للحسابات النظرية لما يمكن أن يكون قد بقى منهما بعد الانفجار الكبير، مما أدى الى دق إسفين قى قلب نظرية الحالة الثابتة، لأنه إذا كان الكون موجوداً وخالداً ولم تكن له بداية فمعنى ذلك أن كل غاز الهيدروجين يجب أن يكون قد احترق وتحول إلى غاز الهليوم.

وبفضل جميع هذه الأدلة كسبت نظرية الانفجار الكبير القبول شبه الكامل من قبل الأوساط العلمية. وفى مقالة صدرت فى عام "1994" فى مجلة "الأمريكية العلمية" ذكر أن نموذج الانفجار الكبير هو الوحيد القادر على تعليل تمدد الكون بانتظام، كما أنه يفسر النتائج المُشاهَدة.

أن الكون الذى يتوسع باستمرار تنقص كثافته شيئا فشيئا منذ بداية ولادته، ففى اللحظة التى ولد فيها الكون كان حجمه صغيراً وكثافته عالية جداً، وفى اللحظة التى ابتدأت فيها ولادة الكون ابتدأ التوسع وأخذت الكثافة تنقص شيئا فشيئا. والمراحل التى مر بها الكون منذ ولادته سنوردها موجزة "مع التذكير بأن ما يلى هو فى إطار نظرية الانفجار الأعظم والنظرية التضخمية التى تعتبر أن ولادة الكون هى اللحظة التى ولد فيها الزمن أيضا" وهذا يعنى أنه لا يصح أن نسأل عما قبل ولادة الزمن لأن ما قبل الزمن أو ما قبل الكون سؤال ليس له معنى من وجهة نظر هذه النظرية.

نظرية التضخم هى نظرية فيزيائية تتنبأ بأن الكون كان فى البداية أكثر حرارة بكثير مما ترى نظرية البيغ بانغ الأساسية وأنه قد تعرض لفترة توسع كونى هائل فى اللحظات الأولى "ما بين 10 34- و 10 32- ثانية" فى بداية ولادته.

تشير نظرية البيغ بانغ التضخمية إلى أن الكون ابتدأ حياته بكثافة عالية جدا "كثافة المادة أكثر من 10 93 كغ/م3 فور ولادته"، ومعدل توسع مرتفع جدا 10 61 "نانومتر/سنة"/كم وهذا المعدل يقابل بلغة مفهومة 100 مليون مليار سنة ضوئية فى كل ثانية ولكل نانو متر من أبعاد الكون أو بشكل آخر تضخم الكون خلال هذه الفترة 10 150 مرة.

وهذا المعدل المرتفع جدا لو تتابع لأدى لانحلال الكون خلال الجزء الثانى من الثانية. ولكن هذا التوسع السريع جدا رافقه انخفاض درجة الحرارة والكتلة الحجمية مما أتاح للكثافة الكونية أن تنخفض إلى معدل أصبحت معه ولادة الكون بالشكل الذى نراه اليوم ممكنة. هذا الانخفاض هو الذى أدى إلى هذا التوسع الكونى اللا معقول، بحيث أصبح هناك فى الكون تناسب بين التوسع والكثافة لضبط هذا التوسع والتخفيف من حدته:

تنخفض الكتلة الحجمية بفعل التوسع الكونى وهذا الانخفاض فى الكتلة الحجمية يجعل معدل التوسع أكثر انخفاضا.

وتشير النظرية إلى أنه فى فترة التضخم من 3310- ثا إلى 3210- ثا لم يكن فى الكون سوى نوع واحد من الجسيمات يخضع لقانون فيزيائى واحد تتوحد من خلاله القوى الكونية الأربعة "الجاذبية، القوية، الضعيفة والإلكتروكهرطيسية".

وفى تلك الفترة التى كانت فيها القوى الكونية متحدة كانت الشروط الفيزيائية غريبة جدا عما نعرفه نحن. إذ تدل الحسابات "كما دلت بأن للفوتونات كتلة كبيرة فى الأزمنة الأولى لولادة الكون" بان هناك كتلة للفراغ بل وهى كبيرة جدا 7310 كغ/م3 ثم تناقصت إلى أن أصبحت حاليا معدومة. ففى اللحظة 3310- ثا بعد البيغ بانغ وصل الأمر بالتوسع الكونى إلى الحد الذى جعل فيه الكتلة الحجمية للفراغ تطغى على المادة.

وهنا حصلت ظاهرة غريبة "أيضا": فمع أن الكون يتوسع فإن الكتلة الحجمية الكونية لا تنقص. حيث تدل الحسابات على أنه مع توسع الفراغ ذو الكتلة إلا أن كتلته الحجمية لا تنقص عن 7310- كغ/م3. أى أن الذى يحصل فى النتيجة هو ازدياد الفراغ لا أكثر.

ومع انتهاء فترة التضخم أخذت القوى الكونية تتمايز إلى القوى الأربعة التى نعرفها اليوم ويتتابع التوسع الكونى كما هو وفق النظرية التقليدية. وسيبقى التوسع الكونى الحالى على ما هو طالما بقيت كتلة الفراغ مهملة.

وهكذا فسرت النظرية التضخمية العديد من الأمور التى كانت عالقة أو غير مفهومة فى النظرية بنسختها التقليدية. فمثلا بالنسبة لنقاط ضعف النظرية الأساسية الثلاث، تجيب النظرية التضخمية:

1- بأن المادة كانت كلها محتواة فى حيز صغير بحيث أمكن لجميع الجزيئات تبادل الطاقة فى اللحظة 3410- ثانية.

2- التضخم الكونى يسطح الكون تماما كما يفعل التوسع بسطح كرة.

3- بالنسبة للمادة المضادة يمكن أن نجد الحل فى الفيزياء الجزيئية التى تحاول شرح الأمر من خلال النظر فى مسألة توحد القوى الكونية.

وهذه هى باختصار نظرية البيغ بانغ الأساسية والنظرية التضخمية اللتان تتكاملان لتفسير نشوء الكون وتطوره إلى ما هو عليه اليوم، بقى أن نأمل أن يتوصل العلم إلى إزاحة الستار عن الغموض الذى يحيط باللحظات الأولى لولادة الكون والزمن صفر.... وهذا ما يتطلب زمنا طويل جداً. فكلما ازدادت معرفتنا يزداد جهلنا وتزداد الأسئلة المطروحة لأن العلم لا نهاية له.

تساؤلات حول نظرية الانفجار الأعظم

إن أوائل المجرات تشكلت عندما كان عمر الكون حولى 10 بالمئة من عمره الآن أى عندما كان عمر الكون حوالى مليار ونصف سنة، وكان موجودا فى هذه النجوم العناصر الثقيلة وهذه يلزمها زمن أكثر من مليار ونصف سنة لأنها تتكون بعد سلسلة من تكون وولادة النجوم وموتها، وكذلك الكوزارات تحتاج لأكثر من هذا الزمن كى تتكون.

فالمجرات القصية التى فيها كوزارات والتى تبعد عنا حولى 12 مليار سنة، هى مجرات نراها عندما كان عمر الكون بين 2 - 1.5 مليار سنة. وتلك المجرات القصية والتى تبعد عنا أكثر من 12 مليار سنة، ونحن نراها عندما كانت قبل 12 مليار سنة، كان يلزمها 12 مليار سنة كى تبعد عنا هذه المسافة إذا كانت تسير بسرعة الضوء أى هى موجودة قبل 12 + 12 مليار سنة.

ونظرية الانفجار الأعظم تقول بتوسع المكان كى تتحاشى سير المجرات بسرعة أكبر من سرعة الضوء، فهى تقول أن المجرات تبتعد عن بعضها بسرعة كبيرة ويضاف لهذه السرعة السرعة الناتجة عن توسع المكان، وكما نعلم فان تجاوز سرعة الضوء مستحيل، وهذا من أسس قوانين الفيزياء.

لقد اعتمدت نظرية الانفجار الأعظم الحجم الأصغرى للكون والطاقة الأعظمية كبداية لوجود الكون. وهذا يناقض كافة أسس قوانين الفيزياء المعتمدة التى تعتمد كبداية العكس الحجم الأعظمى والانكماش وتركيز الطاقة فى حيز متناقص، وعندما يصل تركيز الطاقة فى الحيز المكانى إلى مقادير عالية جداً جداً يحدث الانفجار والتحول إلى الانتشار.

إن بناء نظرية الانفجار الأعظم تم انطلاقاً بالعودة إلى الوراء عن طريق الرجوع فى الزمن. وتوجد فيها قفزات غير مبررة بشكل دقيق وخيالية، فالمرصود هو فقط تباعد المجرات عن بعضها، وليس تباعد الغازات أو السحابات أو المجموعات الشمسية. وهذا لوحده لا يكفى ليثبت أننا إذا عدنا فى الزمن سوف نعود إلى نقطة واحدة تضم كافة مكونات الكون.

ونظرية الانفجار الأعظم تعتمد وجود درجات حرارة متناهية فى الكبر، وهذه غير مثبت إمكانية وجودها بشكل دقيق.

لقد تم حديثاً اكتشاف فراغ هائل الأبعاد، وهذا يصعب تفسير وجوده بناء على نظرية الانفجار الأعظم.
كما ان تصادم المجرات يصعب تفسيره بشكل دقيق حسب هذه النظرية، فكيف يحدث تصادم بين مجرتين إذا كانت كلتاهما ناتجتان عن انفجار واحد "حيث يجب ان تبتعدان عن بعضهما البعض".
وهناك كشوف حديثة تهز من أركان هذه النظرية، وتكشف قصور فيها عن مجرة كشفت حديثا. فحسب المعادلات التى تخص هذه النظرية يجب أن يكون عمر هذه المجرة حسب المسافة عن نقطة الانفجار العظيم 700 مليون سنة، ولكن الحقيقة أن هذه المجرة عمرها 13 مليار سنة، مع أن النظرية تقول أن عمر الكون 14 مليار سنة، وهو ما يعنى انه يمكن أن يوجد خلل فى هذه النظرية.

منذ عشرين سنة، قدر معظم علماء الفلك عمر الكون حولى أربع عشر مليار سنة، وافترضوا أن المجرات تشكلت خلال المليارات الأولى من وجوده.

واليوم، تطرح المقتضيات المطلوبة من أجل رصد المجرات المتنامية البعد مشكلات حقيقية أمام منظرى الكون، ذلك أن الاكتشاف اليابانى ليس معزولاً، فقد اكتشف علماء الفلك الأوربيون، الذين يستخدمون المقراب الشهير "فيرى لارج" المنصوب فى التشيلى مجرات مشابهة لمجرتنا "الدرب اللبنية"، لكنها تقع على بعد 11,7 مليار سنة ضوئية عن الأرض! المشكلة هى أن أحداً لا يفهم اليوم جيداً كيف تسنى لأجرام يبلغ قطرها نحو 100 ألف سنة ضوئية، وتتألف من مئات مليارات النجوم، أن تتراكم "تتجمع" فى غضون مليارى سنة.

وهناك بعض المجرات التى لا تخضع لقانون هابل. فأقرب مجرة كبيرة إلينا، أندروميدا، تتحرك فعلياً نحونا ولا تبتعد عنا. والسبب فى ظهور هذه الإستثناءات هو أن قانون هابل يسرى فقط على السلوك الوسطى للمجرات. وقد يكون لبعض المجرات حركات محلية متواضعة، كأن تدور بتأثير الثقالة حول بعضها، وهذه حال مجرة درب التبانة وأندروميدا. وكذلك ثمة مجرات بعيدة سرعاتها المحلية صغيرة.

عندما نطبق قانون دوبلر المعهود على الأجرام التى تقارب سرعاتها سرعة الضوء، نجد أن الانزياح نحو الأحمر يقارب اللانهاية. فموجات هذا الضوء تصبح أطول من أن تُلاحظ.

ولو صح هذا على المجرات، لكان يعنى أن أبعد الأجرام المرئية تتقهقر بسرعة أكبر بكثير من سرعة الضوء. ولكن قانون الإنزياح الكوسمولوجى نحو الأحمر يؤدى إلى غير هذه النتيجة. ففى النموذج الكوسمولوجى القياسى الحالي، نجد أن المجرات التى يصل إنزياح موجاتها نحو الأحمر إلى نحو 1.5 - أى التى موجاتها أطول بـ150 فى المئة مما قيست به فى المختبر - تتقهقر بسرعة الضوء.

وقد رصد الفلكيون نحو 1000 مجرة إنزياح موجاتها نحو الأحمر أكثر من 1.5. وهذا يعنى أنهم شاهدوا 1000 جرم تقريباً كل واحد منها يتجاوز فى تقهقره سرعة الضوء.

وهذا يكافىء قولنا إننا نحن نتقهقر عن هذه المجرات بسرعة تفوق سرعة الضوء. "أى لو كان هناك أحد على تلك المجرات يراقب الأرض، فانه سيرانا نتحرك أسرع من الضوء، الأمر الذى يجعلنا مجرد ضوء او شيئا مماثلا له، وهذا غير صحيح، ولكن هات من يخبره بذلك، إذا كان يؤمن بالنظرية نفسها"، بل إن إشعاع الخلفية الكونية من الموجات الميكروية تجاوز ذلك وبلغ إنزياحه نحو الأحمر 1000 تقريباً. وعندما بثت البلازما الحارة هذا الإشعاع الذى نرصده الآن فى بداية الكون، كان يتقهقر عن موضعنا بسرعة تقارب 50 مرة سرعة الضوء.

شيء آخر يتعلق بهذه النظرية العلمية هو قصورها حتى الآن عن الوصول بالفهم إلى ما حصل فى اللحظة صفر "أو الزمن صفر". إذ ما يمكن الوصول إليه حتى الآن هو فى حدود ما تصل إليه الفيزياء الحالية من فهم أو ما يعرف بحدود بلانك: ذلك أن العلم غير قادر –اليوم- على فهم ما يجرى عندما تكون الأبعاد أصغر من حدود بلانك "وهى 3210 K للحرارة و 10 35- متر للمسافة و 10 -43 ثانية للزمن" وقادر على أن يفهم ما هو أكبر من هذه الحدود "ولكن لنكن متفائلين، فكل ما تم فى هذا الإطار لا يتعدى عمره 70 سنة فقط".

لقد عارض نظرية الانفجار الكبير الفلكى فريد هويل. ففى منتصف القرن العشرين أتى هذا الفلكى بنموذج جديد ودعاه بالحالة الثابتة، وكان امتداداً لفكرة المتضمن أن الكون يتمدد، فافترض هويل وفق هذا النموذج أن الكون كان لا متناه فى البعد والزمن، وأثناء التمدد تتولد فيه مادة جديدة باستمرار بكمية تجعل الكون فى حالة ثابتة. وهذه النظرية كانت على خلاف كلى مع نظرية الانفجار الكبير، والتى تدافع عن أن للكون بداية.

والذين دعموا نظرية هويل فى ثبات الحالة ظلوا يعارضون بصلابة الانفجار الكبير لسنوات عديدة، ومع ذلك فالعلم كان يعمل ضدهم.

ويوجد عدد من النماذج الأخرى طورها علماء قبلوا بنظرية الانفجار الكبير، لكنهم حاولوا إبعادها من فكرة أن للكون بداية، وأحد تلك النماذج هو "الكون ذو النموذج الكوانتي"، وهو محاولة أخرى لتنظيف الانفجار الكبير من متطلبات التخلقية وتخليصها من حقيقة الخلق، وقد بنى الداعمون لهذا النموذج محاولتهم تلك على المشاهدات الكوانتية للفيزياء ما دون الذرية.

إذن فى الفيزياء الكوانتية لا توجد المادة إذا لم تكن موجودة قبلاً، وما يحدث هو أن طاقة مختفية تصبح فجأة مادة وكماً.

نموذج الكون الهزاز

طُور هذا النموذج من قبل الفلكيين الذين لم تعجبهم فكرة أن الانفجار الكبير كانت بداية الكون، ويقضى ذلك النموذج بأن التمدد الحالى للكون سوف ينعكس أخيراً عند نقطة معينة ويبدأ بالانكماش والتقلص.

وهذا الانكماش سوف يسبب انهيار واندماجاً لكل شيء فى نقطة واحدة، ومن ثم تعود تلك النقطة لتنفجر ثانية مستهلة جولة جديدة من التمدد، وكما يقولون فهذه العلمية تتكرر بشكل لا محدود مع الزمن، ويفترض هذا النموذج أن الكون عانى لغاية الآن هذا التحول عدداً لا نهائياَ من المرات، وأن تلك العملية سوف تستمر إلى الأبد، وبكلمة أخرى سيبقى الكون سرمدياً خالداً رغم أنه يتمدد وينهار خلال فواصل زمنية مختلفة مع حدوث انفجار هائل يختم كل دورة، والكون الذى نحن فيه هو واحد فقط من هذه الأكوان اللانهائية والتى تمر عبر الدورة نفسها.

فى سباق علماء الفيزياء الفلكية لمعرفة أصول الكون، اليابانيون هم اليوم الأكثر تقدماً. فقد تمكنوا، بمقرابهم العملاق "سوبارو" من اكتشاف أبعد مجرة معروفة الآن "إس دى إف 132418" على مسافة 12,8 مليار سنة ضوئية من الأرض.

فى الواقع، حسب نظرية الانفجار الأعظم، تبتعد الأجرام عنا بسرعة قريبة من سرعة الضوء، محمولةً بتمدد الكون. ومن منطلق هذا التمدد الإجمالى للزمكان، فإن الضوء الذى تطلقه ينزاح بمفعول دوبلر باتجاه الأطوال الموجية الأكبر.

والنتيجة هى أن فوتونات الضوء فوق البنفسجي، التى انبعثت منذ 12,8 مليار سنة، تنزاح اليوم فى الأشعة تحت الحمراء. وفى الصورة التى التقطها "سوبارو"، هناك أكثر من 50 ألف مجرة، من بينها 60 مجرة اكتشفتها برمجيات استكشاف تلقائي، وهى تطلق أشعة منزاحة جداً فى الأحمر.

منذ عشر سنوات، كان الأمريكيون هم من حطم أرقام البعد القياسية. من المؤكد أن الأمر ليس مجرد مأثرة تكنولوجية بالنسبة إليهم، فالرصد بعيداً فى الفضاء بالنسبة إلى عالم الفلك يعنى العودة فى الزمن. ولما كانت صور الكون تصلنا بسرعة الضوء
"300 ألف كم/ثا"، فإن الجرم الكونى الذى يقع على مسافة مليار سنة ضوئية من الأرض يشاهد كما لو كان موجوداً قبل مليار سنة ماضية، إلا أن المجرة التى اكتشفها الفريق اليابانى موجودة على بعد 12,8 مليار سنة ضوئية، غير أن عمر الكون، وفقاً لجميع قياسات القمر الصناعى "دبليو إم إى بي" هو 13,7 مليار سنة. بعبارة أخرى، إذن هذا الجرم رُصد كما كان عقب الانفجار الأعظم بـ900 مليون سنة فقط.

وهكذا، فإن ما يجرى اكتشافه إبان فجر الكون مثير للحيرة يوماً بعد يوم. وفى الواقع، فإن الرهان الرئيسى لقياس عمر الكون يقوم على فهم كيف بُنى الكون عقب الانفجار الأعظم. ولكن، كلما أعطى علماء الفلك الكونَ عمراً أصغر، وتلك هى الحال منذ عشرين سنة، تضاءل زمن التشكل المعطى للنجوم والمجرات!

35
هذا الموضوع نشرته في جريدة عرب أونلاين بتاريخ 5 - 4 - 008
                                          
 الإدارة علم وأسرار ومهارات اجتماعية

إن إدارة حرب أو إدارة دولة أو إدارة المشاريع مثل مشروع بناء حاملة طائرات أم بناء محطة فضائية أو إدارة شركة كبيرة . . . , يستدعي أن تكون هذه الإدارة منهجية وفعالة ومعتمدة على العلوم الدقيقة والهندسة والرياضيات . لقد نشأ علم الإدارة لتحقق إنجاز الأعمال والمشاريع الكبيرة والمعقد , وتحقيق النجاح بأسرع وأفضل طريقة . ليس معنى هذا أنه لم تكن هناك إدارة , لقد كان الإنسان دوماًُ يقوم بإدارة وتنظيم أموره ولكن بشكل طبيعي  دون دراسة وتحليل لما يقوم به , ولكن عندما تعقدت الأعمال والأمور ونشأت المشاريع الكبيرة فرض دراسة وتحليل  عمليات الإدارة .
فالإدارة الآن لها مبادئها ومناهجها وعلومها , وفروعها الكثيرة التي تشمل كافة مناحي حياتنا , فلم يعد يعتمد على الارتجال والتقليد  في إدارة الأمور كما كان متبع سابقاً . فالإدارة اليوم علم متطور ، أتى بمبتكرات كثيرة .
في الواقع، كلنا مدراء , فمهما يكن موقعك أو وظيفتك عليك أحيانا إدارة بعض الأمور . وحتى يمكنك إدارتها بشكل جيد، عليك أن تعي العملية الإدارية وعناصرها الرئيسية ومبادئها العامة.
يقول ليفجستون : الإدارة هي الوظيفة التي عن طريقها يتم الوصول إلى الهدف بأفضل الطرق و أقلها تكلفة و في الوقت المناسب و ذلك باستخدام الإمكانيات المتاحة .
وعرف وليم هوايت الإدارة : هي فن ينحصر في توجيه و تنسيق و رقابة عدد من الأشخاص لإنجاز عملية محددة أو تحقيق هدف معلوم .
فالإدارة الآن علم يعتمد على التفكير و العمل يستخدم أسساً و مبادىء معينة جمعت في وظائف خمسة هي : التخطيط , و التنظيم , والتوظيف , و التوجيه , و الرقابة .
الهدف الأساسي من تنفيذ هذه الوظائف استخدام الإمكانيات البشرية و المادية " للبنية التي نديرها " أكانت مؤسسة أم مصنع أم شركة أم أسرة أم دولة . . . , أحسن استخدام , وخلق الجو الصالح المناسب لتشغيل كافة الموارد المتوفرة إلى أقصى طاقاتها الممكنة لتحقيق الأهداف المنشودة  بأقل التكاليف , مراعية في ذلك الناحية الإنسانية في معاملة العنصر البشري و تحقيق أكبر قدر ممكن من التعاون في المشروع .
ترتبط الإدارة بجميع الأنشطة الحياتية , وفي الواقع إن التصنيف على أساس المجال قد لا يكون تصنيفا منحصرا إذ أن الأنشطة الحياتية منوعة وغير منحصرة .
و يمكننا أن نصنف الإدارة تصنيفا عاما وشاملا على أساس الهدف من النشاط(اجتماعي خدمي ـ مادي) فتصبح الإدارة بذلك نوعين:
إدارة الأنشطة ذات الهدف الخدمي الاجتماعي بكافة أشكاله , أكان ثقافي أم عقائدي وأخلاقي أم سياسي أم اقتصادي أم نفسي .
إدارة الأعمال الإنشائية والصناعية بكافة أشكالها . . .
إن العملية الإدارية هي نسيج متكامل ومتشابك من أنماط السلوك في الأبعاد الثلاثية ، فالإداري مثلا يتخذ قرارا ، بشأن تنظيم شؤون العاملين ، فهو إذا لا يمارس هذه الأنماط من السلوك مستقلة عن بعضها بل هو يمارسها جميعا في نفس الوقت لأنها في أساسها غير منفصلة .
من المنظور التنظيمي الإدارة هي إنجاز أهداف تنظيمية من خلال الأفراد وموارد أخرى . وبتعريف أكثر تفصيلا للإدارة يتضح أنها أيضا إنجاز الأهداف من خلال القيام بالوظائف الإدارية الخمسة الأساسية (التخطيط، التنظيم، التوظيف، التوجيه، الرقابة).
من المؤكد أنك ستطبق أصول الإدارة في عملك وفي حياتك الخاصة أيضا. لكن تطبيقها يعتمد على ما تقوم بعمله. فعندما تعمل مع موارد محددة ومعروفة يمكنك استخدام الوظائف الخمسة للإدارة . أما في حالات أخرى فقد تستخدم وظيفتين أو ثلاثة فقط .
الوظائف الخمسة للإدارة :
التخطيط :
وهو دراسة في الوقت الحاضر لطرق الاستفادة من الموارد المتاحة مستقبلا .  هذه الوظيفة الإدارية تهتم بتوقع المستقبل وتحديد أفضل السبل لإنجاز الأهداف التنظيمية.
غالبا ما يعدّ التخطيط الوظيفة الأولى من وظائف الإدارة، فهي القاعدة التي تقوم عليها الوظائف الإدارية الأخرى. والتخطيط عملية مستمرة تتضمن تحديد طريقة سير الأمور للإجابة عن الأسئلة مثل ماذا يجب أن نفعل، ومن يقوم به، وأين، ومتى، وكيف. بواسطة التخطيط سيمكنك إلى حد كبير كمدير من تحديد الأنشطة التنظيمية اللازمة لتحقيق الأهداف.
فالتخطيط بشكل عام هو الاختيار من بين البدائل بالنسبة لهداف موضوع , أو هو اختيار من بين مسارات بديلة للتصرف المستقبلي , أي هو التعامل مع الخيارات الحالية المتاحة والخيارات المستقبلية المحتملة بناءً على ( برنامج ) موضوع , وهناك بعض الفروق بين التفكير والتخطيط .
فالتخطيط هو تعامل فكري مع الخيارات المتاحة يسبق التعامل الواقعي معها , وهذا ما يميز التخطيط البشري عن تخطيط الكائنات الحية الأخرى , فتخطيطها يجري بالتعامل مع الخيارات المادية الموجودة , حسب البرنامج الوراثي الموضوع , ودون استباق المستقبل بشكل فكري , وإن حدث وقامت بعض الكائنات الحية بمشاريع مستقبلية , فيكون هذا مبرمج فزيولوجياً وعصبياً وليس فكرياً بشكل واع . وهذا هو الفرق الأساسي والهام جداً بين تفكيرنا وتفكير غالبية الكائنات الحية الأخرى .
فنحن نفكر ونتعامل مع الوجود بطريقة مختلفة عن باقي الكائنات الحية , لأننا نستخدم السببية والمنطق والتنبؤ واستباق المستقبل .  فنحن فقط نستطيع أن نختار الخيار الأنسب من بين مجموعة خيارات متاحة لنا , وذلك بالاعتماد على أفضليتها المستقبلية وليس الحالية , وذلك باستعمال المعارف والعلوم . وكلما كانت دقتها أعلى كان تخطيطنا أكثر فاعلية في تحقيق أهدافنا الموضوعة.
التنظيم:
يعرف التنظيم على أنه الوظيفة الإدارية التي تمزج الموارد البشرية والمادية من خلال تصميم هيكل أساسي للمهام والصلاحيات. ورسم و توزيع المهام و المسؤوليات والتنظيم يبين العلاقات بين الأنشطة والسلطات.
"وارين بلنكت" و "ريموند اتنر" في كتابهم "مقدمة الإدارة" عرّفا وظيفة التنظيم على أنها عملية دمج الموارد البشرية والمادية من خلال هيكل رسمي يبين المهام والسلطات.
العملية التنظيمية ستجعل تحقيق غاية المنظمة المحددة سابقا في عملية التخطيط أمرا ممكنا. بالإضافة إلى ذلك، فهي تضيف مزايا أخرى.
التوظيف:
يهتم باختيار وتعيين وتدريب ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب في المؤسسة أو الشركة التي تحتاج للكثير من العاملين , التوظيف يبدأ بتخطيط الموارد البشرية واختيار الموظفين ويستمر طوال وجودهم بالمنظمة.
التوجيه:
بمجرد الانتهاء من صياغة خطط المنظمة وبناء هيكلها التنظيمي وتوظيف العاملين فيها، تكون الخطوة التالية في العملية الإدارية هي توجيه الناس باتجاه تحقيق الأهداف التنظيمية. في هذه الوظيفة الإدارية يكون من واجب المدير تحقيق أهداف المنظمة من خلال إرشاد المرؤوسين وتحفيزهم.
وظيفة التوجيه يشار إليها أحيانا على أنها التحفيز، أو القيادة، أو الإرشاد، أو العلاقات الإنسانية. لهذه الأسباب يعتبر التوجيه الوظيفة الأكثر أهمية في المستوى الإداري الأدنى لأنه ببساطة مكان تركز معظم العاملين في المنظمة. وبالعودة لتعريفنا للقيادة "إنجاز الأعمال من خلال الآخرين"، إذا أراد أي شخص أن يكون مشرفا أو مديرا فعالا عليه أن يكون قياديا فعالا، فحسن مقدرته على توجيه الناس تبرهن مدى فعاليته.
الرقابة:
الوظيفة الإدارية الأخيرة هي مراقبة أداء المنظمة وتحديد ما إذا كانت حققت أهدافها أم لا. وهي العملية التي تحقق للمدير تطابق العمليات الحقيقية لما هو محدد في الخطة , و كشف الأخطاء و محاولة تصحيحها .
التّخطيط، والتنظيم، والتّوظيف، والتوجيه يجب أن يتابعوا للحفاظ على كفاءتهم وفاعليتهم . لذلك فالرقابة آخر الوظائف الخمسة للإدارة، وهي المعنيّة بالفعل بمتابعة كلّ من هذه الوظائف لتقييم أداء المنظّمة تجاه تحقيق أهدافها.
في الوظيفة الرقابية للإدارة، سوف تنشئ معايير الأداء التي سوف تستخدم لقياس التقدّم نحو الأهداف. مقاييس الأداء هذه صمّمت لتحديد ما إذا كان الناس والأجزاء المتنوّعة في المنظّمة على المسار الصحيح في طريقهم نحو الأهداف المخطط تحقيقها.
وظيفة الرقابة مرتبطة بشكل كبير بالتّخطيط . في الحقيقة ، الغرض الأساسيّ من الرقابة هو تحديد مدى نجاح وظيفة التخطيط. هذه العمليّة يمكن أن تحصر في أربعة خطوات أساسيّة تطبّق على أيّ شخص أو بند أو عملية يراد التحكم بها ومراقبتها. مجالات الإدارة
هناك مجالات متعددة تطبق فيها الإدارة ، فهي تطبق في القطاع العام Public-Sector ويطلق عليها في هذه الحالة الإدارة العامة public - administration وتطبق في القطاع الاقتصادي economic - sector وتسمى في هذه الحالة إدارة الأعمال Business - administration . وهناك إدارة المستشفيات وهي الإدارة التي تطبق في المستشفيات، وإدارة الفنادق وهي الإدارة التي تطبق في الفنادق . وهكذا نلاحظ أن الإدارة تكتسب اسم المجال الذي تطبق فيه . فإذا طبقت في الوزارات والمصالح سميت إدارة عامة، وإذا طبقت في النشاطات الاقتصادية سميت إدارة أعمال … الخ , ويمكن أن نذكر بعض مجالات الإدارة مثل :
إدارة المشاريع , إدارة الأعمال , إدارة المؤسسات , إدارة الذات , إدارة الأسرة , إدارة العلاقات العامة , إدارة الموارد البشرية , إدارة الأزمات , إدارة الإنفاق , إدارة التسويق , إدارة الوقت . . .
للإدارة علاقة بكثير من العلوم من أهمها: علم السياسة, علم النفس , علم الاجتماع , علم الرياضيات , , علم الاقتصاد , علم القانون . . .
وأهم ضروريات الإدارة الفعالة هو : المعارف الدقيقة اللازمة , والقدرة على التأثير والتحكم بالأمور , وكمية كبيرة من خيارات متاحة . والأساس لكل إدارة جيدة هو: المعلومات الدقيقة والأدوات المناسبة , والاعتماد على توضيح وتحديد الأهداف والغايات المراد الوصول إليها , والإدارة الجيدة هي التي تعتمد على المعارف والعلوم الدقيقة والرياضيات , وليس على المنطق فقط , أو على العواطف والمشاعر فقط , فهذا غير كافي وغير فعال .
وكذلك تعتمد الإدارة الجيدة على توضيح وتنظيم العمل الفكري والمادي للوصول إلى تحقيق الأهداف الموضوعة.
لكي تكون مدير جيد يجب أن يكون متوفر لك :
معارف ومعلومات دقيقة وعالية الصحة كأساس تبني عليها خطة تنفيذ العمل , وأن تتوفر المواد والعناصر والأدوات والآلات الضرورية , واللازمة لتنفيذ المطلوب .
وأن يكون المطلوب أو الهدف محدد وواضح بدرجة عالية جداً , إي يجب أن تكون المنطلقات أو البداية معروفة و واضحة , وكذلك النهاية المراد الوصول إليها .

وتبقى أهم إدارة هي إدارة الذات أي إدارة الإنسان لحياته . تحديد أهدافه وغاياته ومشاريعه وبشكل خاص اختياره مهنته واختياره زوجته ( أو زوجها ) , وكيفية تحقيق هذه الأهداف والمشاريع , وكيفية تعامله مع الأزمات , وكيف يحل مشاكله , وكيفية تعامله مع النجاح والفشل , . . .
لقد كانت وما زالت الأديان والعقائد والعادات والتقاليد الاجتماعية هي التي تحدد كيفية إدارة الإنسان لحياته , وتحدد غالبية  غاياته وأهدافه .
كيف تدير حياتك .
أولا : تعيين وتحديد ماذا تريد .
ثانياً : ما هو موجود ومتاح بالنسبة لك , وهذا يعتمد على المعارف والعلوم التي تعلمتها  .
ثالثاً : كيف تحقق ما تريد , بالاعتماد على ما هو موجود ومتاح بالنسبة لك .
هناك إدارة أمور جسمك , صحتك , وتغذيتك , ونمو جسمك وفكرك , وهناك إدارة الأمور المادية اللازمة لتأمين أمور المعيشة , وهناك إدارة العلاقات الاجتماعية بكافة أشكالها , وكل هذا في تأثير متبادل مع بعضه . وهناك علاقة إيجابية أو تناسب طردي بين حسن إدارة الإنسان لحياته ومقدار ذكائه ومعارفه ونشاطه , وبين نجاحه وطول عمره , فكلما ارتفعت قدراته العقلية  وازدادت المعرفة الدقيقة وكانت أدارته لحياته أنجع وأفضل , ازداد احتمل أن يعيش حياة أفضل , وهذا راجع لعدة عوامل .
فإدارة الجهاز العصبي الجيدة والمناسبة للجسم وما يتعرض له من أوضاع , تزيد من احتمال أن العيش عمر أطول . والتغذية المناسبة والجيدة , والمحافظة على كافة أعضاء الجسم , والتكيف والانسجام مع الظروف والأوضاع ومع أفراد مجتمع وخصائص هذا المجتمع , وتحقيق كافة ما يتطلبه ذلك من قدرات ومال , يتم بالإدارة جيدة للأمور والموارد . ونحن نلاحظ أن غالبية الذين يتجاوز عمرهم الثمانين عاما هم أكثر ذكاءً من المتوسط وفيهم نسبة المثقفين أكثر , وهم يديرون حياتهم بشكل جيد .
وهناك تأثير متبادل بين مردود الذكاء والإدارة الجيدة , وبين النجاح في مجالات الحياة , فكل منهما يساعد ويفيد الآخر . فالحياة الصحية والسعيدة والنشيطة تساعد على الإنتاج الفكري وهذا بدوره يزيد من الرفاهية والقدرات المتاحة لتنمية المعارف , أي هناك تغذية عكسية موجبة بينهم , وكل منها ينمي الآخر , ولكن ضمن حدود .

إن أهم اختيارين يقوم بهم الإنسان هما : اختيار العمل المناسب له , واختيار الشريك المناسب له لتشكيل وبناء أسرته , وإن إدارة الأسرة تلي إدارة الحياة في أهميتها .
تشكيل وبناء الأسرة أهدافه : هل هو الحب أم الجنس أم إنجاب الأولاد أم غير ذلك .
اختيار الزوجة المناسبة . فللعلاقات الزوجية تأثير هام جداً  على الأسرة ونجاح إدارتها .
الأوضاع المادية , تأمين السكن المناسب وتوفير أمور المعيشة , كذلك لهم تأثير هام جداً .
إدارة العلاقات الاجتماعية الأسرية , وباقي العلاقات الاجتماعية .
الإنجاب وتربية ورعاية الأولاد , وتأمين حاجاتهم المادية ونفسية والاجتماعية .
وأهم الأمور في إدارة الأسرة : كيف توزع مهام إدارة الأسرة بين الأب والأم , وهل هناك تدخل للأقارب مثل الجد أو الجدة أو غيرهم في إدارة الأسرة .
هل يفضل استخدام الديمقراطية مع أفراد الأسرة أم الاستبداد أم التشاور .
معرفة أهم العوامل والأمور التي تهدد الأسرة , وأهم المشاكل التي تحدث في الأسرة , وكيفية التعامل معها.
كيف تدير صفقاتك و صراعاتك  , كيف تحل مشاكلك , وكيف تتعامل مع الأزمات .
تحديد أفضليات الأمور . أيهما أهم الممتع , أم المفيد , أم الصحيح . الخاص أم العام .التعامل مع النجاح أو مع الفشل

36
هذا الموضوع نشرته اليوم 26 - 7 - 008 في جريدة عرب أولاين الأسبوعية  
  

                              نحن والآخر والصراع


هناك مقولة مفادها أنه : "عندما يوجد فرد يسود السلام وعند وجود اثنين ينشأ الصراع وعند وجود أكثر تبدأ التحالفات"
هذه المقولة تشير إلى القانون التاريخي الذي يحكم حياتنا بشكل عام، وسواء تعلق الأمر بالمجتمعات الصغيرة أو على المستوى الدولي فقانون الصراع هو الذي يحكم أغلب العلاقات . ومهما كان شكل الوحدة الإنسانية، أسرة، قبيلة، أمة فإنها محكومة بقانون الصراع تلك قاعدة تاريخية... لا تحتاج إلي إثباتات مجهدة .
يرى الكثير من المفكرين أن الصراع ظاهرة طبيعية في حياة الإنسان وفي حياة المؤسسات جميعاً فبدءاً من الأسرة وإلى مستوى الإنسانية مروراً بالقبيلة والدولة والأمة فإن قانون الصراع هو ما يحكم المؤسسات جميعاً. غير أن أشكال الصراع ليست واحدة في هذه المؤسسات كما أن نتائجه مختلفة فهو يتدرج في شدته فيبدأ صراعاً صغيراً  ويمكن أن يصل إلى حد الحروب الدموية الطاحنة .
هناك الكثير من المفاهيم والتعريفات للصراع
_ في علم الاجتماع و علم الأحياء ، يدل مصطلح نظرية الصراع أو نظرية النزاع Conflict Theory على نظرية تقول بأن المجتمعات أو التنظيمات بشكل عام تعمل من خلال صراع أعضائها و مشاركيها المستمر للحصول على منافع أكثر ، و هذا ما يسهم بشكل أساسي في التغير الاجتماعي كما هي حالة التغيرات السياسية و الثورات . تطبق هذه النظرية على حالة الصراعات الطبقية خاصة في إيديولوجيات مثل الاشتراكية و الشيوعية.
_ الصراع ظاهرة إنسانية تنشأ عن تعارض المصالح أو رغبة طرفين أو أكثر في القيام بأعمال متعارضة فيما بينها، ذلك هو المنطق البسيط للصراع الذي لا يتم حله إلا بمجموعة متناسقة من التدابير والقواعد، وهذه القواعد متشابهة بالنسبة لكل حالات الصراع وإن تعددت المستويات المختلفة ، وهو ما يسمح بالحديث عن نظرية لإدارة الصراعات من اجتماعية لدولية، مع تميز كل مستوى ببعض الخصائص الفرعية المميِزة المقترنة بالمجال وحدوده وطبيعة تفاعلاته وأطرافه.
والصراع يجري مدفوعاً بمجموعة من الرغبات والحاجات الخاصة، فعندما تشعر الأطراف المتفاعلة أن هناك ثمة مصالح يمكن أن تجنيها من جراء الانخراط في الصراع فإنها تقدم على الدخول فيه، وتغريها تلك المصالح بكسر قواعد سابقة أو المغامرة بانتهاك أعراف عامة لإدارة الصراعات على المستويات المختلفة.

وتختلف أشكال الصراع وفقا لمحصلة اعتقادات وتصورات ورغبات القوى المشاركة في أدواره،وللصراع تواجد في كافة أشكال السلوك الاجتماعي،ولكل صراع أرضية يقوم عليها،وهو موجود في الواقع بحكم توازنات وتعقد الواقع ذاته، غير أنه دائماً ما يأتي ممتزجاً  بالكثير من التبريرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فهناك سبب أصيل لأي صراع كما أن هناك تبرير مباشر لوجوده.
_ ويمكن تعريف الصراع على انه :"التصادم والتعارض بين طرفين أو أكثر، بينهم اختلافات قيمية ومصلحية، وينخرطان في سلسلة من الأفعال وردود الأفعال التي تهدف الى إلحاق الأذى والضرر بالطرف الأخر، مع سعي كل طرف إلى تعظيم مكاسبه على حساب الآخرين وتأمين مصادر قوته"، ويمكن الفارق الجوهري بين مفهومي الصراع والعنف في أنَّ مفهوم الصراع أوسع من مفهوم العنف، إذ تتعدد صور الصراع وآلياته، ويعدُّ العنف، بالمعنى الذي سبق تحديده، إحدى هذه الآليات في إدارة الصراع وحسمه، وتتوقف شدة الصراع على كم وكيف العنف المستخدم فيه.
_ عرف بولدينج Boulding الصراع : موقف يتصف بالمنافسة ، تصبح فيه الأطراف المتصارعة على وعي بتناقضاتها ، ويسعى كل طرف منها إلى تحقيق غايته على حساب الطرف الآخر ، وان العدوانية والعنف ينتجان عن الصراع ، الذي يعرفه المحدثون الإداريون بأنه : ( حاله تفاعليه تظهر عند عدم الاتفاق أو الاختلاف أو عدم الانسجام فيما بينهم ، أو داخل الجماعات ،أو فيما بينها )
_ وعرفه بوندي Pondy : ( بأنه تعطل أو انهيار في سبل ووسائل صنع القرار المعياري أو في تقنياتها ، مما يجعل الفرد يعيش صعوبة اختيار بدائل الفعل أو الأداء )
_ أما ( روبنز ) Robbins ، فقد عرفه " عمليه تتضمن بذل جهد مقصود من قبل شخص ما ( أو جماعة ) لطمس جهود شخص آخر باللجوء إلى شكل من العوائق ينجم عنها 'إحباط الشخص الآخر ( أو الجماعة الأخرى )  وتثبيطه عن تحصيل أهدافه وعن تعزيز ميوله " .
يقف الصراع كمفهوم وممارسة بين مستويين ، الأول : الإختلاف الطبيعي  أو المصطنع ، والناجم عن التباين في العقائد أو الرؤى أو المصالح بين الجماعات الإنسانية ، وهنا فان الفشل في إيجاد مساحات من الفهم والقبول والتناغم المشترك يحول الإختلاف إلى صراع بين تلك الجماعات للدفاع عن ذات ومصالح كل طرف .
والمستوى الثاني : الأزَمة ، وهي مرحلة متقدمة ومعقدة من الصراع بين المجموعات المختلفة يصل بها إلى حد الاقتتال أو الانهيار العام للنظام الاجتماعي . وهنا فالصراع هو : النزاع الناتج عن الإختلاف جرّاء تباين الرؤى والعقائد والأفكار والبرامج والمصالح بين مجموعتين أو أكثر ، وقد يكون مبرراً كما في صراع الشعوب مع أنظمتها المستبدة ، أو يكون غير مبرراً كما في الصراعات الإثنية والطائفية داخل اطر المواطنة والوطن الواحد ،.. وهنا فجوهر حركيه الصراع تتولد من الاختلاف أولا والفشل في تسويته أو إبداع الحلول المناسبة له ثانياً ، وهو جذر الأزمات التي تعصف بكيان المجتمع والدولة وتنذر بتفككهما . وتدخل العديد من العوامل الثقافية والاجتماعية والسياسية في تفعيل الصراعات وتفجيرها ، أو احتوائها ضمن الأنساق المقبولة ، من هنا كانت لدينا صراعات سلمية تتأطر بالحوارات والاختلافات المقننة دستورياً وقانونياً ، وصراعات عنيفة دموية لا تلتزم بأي إطار تشريعي أو أخلاقي منضبط .
_ ومفهوم الصراع من زاويته الإنسانية تداخل وتشابك وترجيح بين نوازع النفس ورغباتها وأمانيها وصولاً لتحقيق ذاتها في الواقع ، وأيضاً للعقدية والفلسفية والأفكار تأثير في طبيعة الصراعات القائمة على قواعد الاختلاف والتفاوت المنتج للحركة الإنسانية ، فالصراعات  حقيقة قائمة تتباين شده وضعفاً حضوراً وغياباً بين مختلف الجماعات الإنسانية ، وهو ليس حكراً على مجتمع معين فحسب حيث لا وجود لمجتمع إنساني خالٍ من الصراعات على تنوعها ، فطبيعة وحركية الحياة البشرية تنتج الاختلاف والصراع والأزمة كسنه جرّاء تباين العقائد والرؤى والطموحات والمصالح بين الأفراد والجماعات والدول
_ ويمكن تعريف الصراع من وجهه نظر إدارية : بأنه تعطل أو انهيار في سبل وميكانزمات صنع القرار المعياري أو في تقنياتها ، مما جعل الفرد يعيش صعوبة اختيار بدائل الفصل أو الأداء ، كما انه عبارة عن عمليه تتضمن بذل جهد مقصود من قبل شخص ما لطمس جهود شخص آخر باللجوء إلى شكل من العوائق ينجم عنها إحباط الشخص الآخر وتثبيطه عن تحصيل أهدافه وتعزيز ميوله .
_ ومفهوم الصراع في النظرية العالمية الثالثة تمركز مفهوم الصراع في النظرية العالمية الثالثة حول ضرورة الوصول إلى وسيلة تكفل تجنب الاضطرابات والنزاع التي تسبب تخريباً ودماراً للمجتمع ، وتجعل جوهر هذه الفكرة في السعي لتحقيق سعادة الإنسان باعتباره المعيار الحقيقي في عملية التغير ، لذا يظهر الصراع عندما توجد علاقات لا يقبلها المجتمع .
كما ترى النظرية العالمية الثالثة ( إن المحرك للتاريخ الإنساني هو العامل الاجتماعي أي القومي ، فالرابطة الاجتماعية التي تربط الجماعات البشرية كلاً على حدة من الأسرة إلى القبيلة هي أساس حركة التاريخ). وتهدف النظرية إلى القضاء على كل أسباب الصراع من خلال ارتكازها على الحقوق والقواعد الطبيعية باعتبارها الآلية الوحيدة لخلاص المجتمع من كل أشكال التناقض والصراع وصولاً إلى دولة الجماهير .

هل الصراع ضرورة بشرية؟ بحيث لو خلت منه النفس الإنسانية والحياة البشرية لنقصت كل منهما عنصراً أساسياً في كيانها؟ أم هو مرض يصبب النفس والمجتمع، ونشاط ضار كالأورام الخبيثة التي تصيب الجسم فتفسد كيانه، وتقضي عليه في النهاية؟
الكثير من الدلائل تشير إلى حتمية حدوث الصراع في جميع المجتمعات الإنسانية، سواء على مستوى الأفراد، أو على مستوى الجماعات، أو على مستوى المنظمات، أو أخيرا على مستوى الدول.
وجميع الصراعات تقريبا تدور في فلك الاختلاف، الاختلاف حول المواقف، والمنظورات، والقيم الثقافية، ووسائل الاتصال، والاحتياجات، والأهداف.
لم يكن الصراع وليد الصدفة ، فحينما بدأ صراع الإنسان مع الطبيعة منذ نشأة البشرية الأولى استطاع الإنسان الأول  بالتفكير بطرق بدائية للتغلب على ظروف الطبيعة القاسية ، فراح الإنسان يستخدم الحجارة للتعامل مع الأشياء التي يصعب قطعها أو تكسيرها بواسطة الأيدي ، وتواترت عمليات الاستخدام العنيف للأشياء على هذا النحو .
هذا الصراع اخذ بالتطور فأنتقل إلى نوع أخر ، صراع الأفكار ، صراع الحضارات ، صراع المادة مع الإنسان ، صراع الخير والشر .
إلا أن الصراع قد تطور بشكل هائل نتيجة للتطور الكبير في المعلومات مما جعل هذهِ المعلومات في خانة الخطر الكبير ، وما امتلاك الأسلحة النووية وطريقة تفكير الدول العظمى تجاه الدول الصغيرة إلا شاهداً على التطرف في حالة من حالات الصراع التي نعيشها هذهِ الأيام ، فماذا بعد الازدهار إلا التدهور كنتيجة حتمية للصراع الحتمي الموجود .
إن طبيعة الأشياء وحقيقة الأمور تشكل مسيرة التأريخ الصحيحة ، والتأريخ لا يعيد نفسه إنما حتمية الصراع هي الحقيقة المتجددة .
أنواع الصراع لدينا وموضوعاته
تنقسم الصراعات إلى صراعات داخلية ضمن إطار المجتمع والوطن والدولة الواحدة كالصراعات السياسية والعرقية والطائفية ..الخ ، وصراعات خارجية كما في صراع الدول على خلفيات وتنازعات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية .
وهناك صراعات داخلية دموية واستئصالية ، وأُخرى سلمية لا تخرج عن التشريعات الضابطة للاختلاف والتباين كما في اختلاف الأحزاب والأعراق والطوائف فيما بينها ، إذ تنجح منظومات المجتمع الملتزم والواعي ودينامكية وأنظمة الدولة الراقية في حل الاختلافات والصراعات وفق أُطر التعايش المشترك والتناغم المتبادل والمشاركة الحقيقية في إدارة المجتمع والدولة والبلاد ،.. وهناك صراعات خارجية تحتكم إلى الأنظمة الدولية والاتفاقات الإقليمية والمعاهدات الثنائية في تسوية الاختلافات والصراعات ، وأُخرى تآمرية وتخريبية تصل لحد إعلان الحروب كنتيجة لتفاقم الصراعات غير المنضبطة بين الدول .
كما إن هناك صراعات شخصيه وأخرى فئوية ، عفويه أو منظمه ، وقتيه أو مستديمة ، كامنة أو ظاهره او معقده أو بسيطة ..الخ ، إذ تتنوع الصراعات حسب تنوع جوهرها ومرتكزاتها وطبيعة القوى التي تدعيها وتغذيها وتشترك بها ، وتتباين جرّاء اختلاف أطرافها والأدوات النظرية والعملية المستخدمة فيها وحجم المال والقوة والسلاح والتأييد المحشود لها ، كما للفضاءات القيمية والقانونية والجغرافية تأثيرها الواضح في التعاطي مع أي صراع أو في إدارة أية أزَمة .
أما موضوعات الصراع على تنوعه ، فهي عامه وغير مقيده ، إذ يمكن أن يكون أي اختلاف مدعاة للتفاقم ليصل لحد الصراع السلمي أو الدموي أو العنيف ،.. وعموماً فموضوعاته تتنوع بين ما هو قيمي فيما تعنيه من عقيده ومثل وأفكار ورؤى تنتظم على أساسها حركة المجتمع ، وبين ما هو سياسي يخص السلطة والحكم في المشاركة والتداول أو الاستبداد والاحتكار والإنفراد بالسلطة ، وبين ما هو مجتمعي في تنظيم أطر التعايش العرقي والطائفي والثقافي ، وبين ما هو اقتصادي فيما يخص طبيعة التوظيف للثروات والموارد الإمكانات لمواجهة معضلات سوء التوزيع والعوز والبطالة .. الخ
وهناك أنماط متعددة من الصراعات , مثل : الصراع الرسمي ، المتمثل بصراع السلطة مع الأمة ، وهو نتيجة حتمية لصراع الإرادات والشرعية والمصالح بين السلطة , وبين المجتمع ، فأنتج ذلك الاغتراب والريبة وفقدان الولاء ثم الدخول في نفق الصراعات المتبادلة التي غالباً ما أتت دموية وتصفوية من جهة السلطة لضمان البقاء في الحكم ، وعنيفة ومتمردة من جهة المعارضة كونها الأداة الوحيدة في الخلاص من سلطة الاستبداد . والصراع البنيوي ، والناجم عن افتقاد المجتمع للوحدة المضمونة المتمثلة بالاتفاق على مركبات بنيوية تضمن ائتلاف الكل الاجتماعي على خطوطها العامة لضمان سيادة الوطنية .
تعدد الثقافات والصراع
نتيجة لتعدد اللغات والأديان والبيئات تعددت الثقافات في المجتمعات وتنوعت وتصارعت من أجل الهيمنة والسيطرة على الخيرات المادية للشعوب على سطح هذه الكرة الأرضية ، حتى أن الفرد كروبر F. KROBER أحصى مائة وأربعة وستين تعريفاً للثقافة وإن هذا العدد في تزايد وتصاعد مستمر ، وهذا يدل على سعة موضوع الثقافة وأهميتها وتداخل العناصر المؤلفة لها فضلاً عن اختلاف مصطلحاتها في لغات العالم من عرب وفرنسيين وألمان وغيرهم ، ويعرفها كليرنس كينز CLARENCEN-CACE أنها \" كل ما هو موجود لدى المجتمع من تراكمات وتغيرات اجتماعية ومادية وخبرات وأدوات ورموز وما إلى ذلك.

                                                         إدارة الصراع
يتعذر تجنب الخلاف في المؤسسات لأن أهداف وقيم واحتياجات الجماعات والأفراد لا تتوافق دائماً. فقد يكون الخلاف سمة من سمات التنظيم السليم وقد يكون الاتفاق التلقائي على كل شيء سمة غير طبيعية ومهنة للقوى. ومن الطبيعي أن يكون هناك خلافات في الآراء حول المهام والمشروعات وفي هذه الحالة لا يجب كبت هذه الخلافات, بل يجب إظهارها لأن ذلك يعتبر الطريقة الوحيدة التي يمكن بها كشف نقاط الخلاف وتسويتها.
إدارة الصراعات الدولية
للصراعات الدولية سمات مشتركة،الأمر الذي يتيح خلق قواعد عامة وأساليب راسخة للتعامل معها،وتعتبر الحروب أقسى تجليات هذه الصراعات، فعندما تقع الحروب فإن ذلك يعني أن هناك ثمة مصالح متناقضة تناقضاً كاملاً في لحظة معينة ،وغير ممكن حلها إلا من خلال اللجوء إلى القوة المسلحة وليس مجرد التهديد بها.
وتعتبر المساومة أكثر أشكال الصراع انتشاراً بين الأفراد والجماعات والدول، وهي عملية تضم أكثر من طرف بينهم مصالح متضاربة نسبيا ويسعى كل طرف لإيجاد نوع من أنواع الاتفاق المرضي الذي يحقق شكلا من التوافق فيما بينهم.
وعملية المساومة تتضمن دائما محاولة من محاولات الإجبار،غير أنه إجبار لا يقوم على آلية تحقيق التفوق من خلال الحرب بل يعتمد على التهديد أو التأثير في الطرف الآخر من أجل قبول تنازلات ما كان ليقبل بها ابتداء، إلا أن عملية المساومة لا يمكن أن تنطوي على أي صورة من أشكال الإجبار الكامل، و إلا صارت أقرب للحرب أو لعبة فيها فائز ومهزوم . والمساومة هي أولى صيغ إدارة الصراع في النظام الدولي فهي بمثابة القاعدة الأساسية التي تشتق منها كافة الصيغ الأخرى .
لقد قسم المحللون السياسيون -المتخصصون في علم "حل الصراع" Conflict Resolution- الصراع إلى درجات مختلفة، فهناك صراعات "عالية المستوى"، وهناك صراعات "متوسطة المستوى"، وأخيرا هناك صراعات "منخفضة المستوى".
كذلك قاموا بالتفريق بين مفهوم "حل الصراع" ومفهومي "إدارة الصراع" و"تسوية الصراع"، كما فعل "جون بورتون" John Burton الذي يعتبر من عمالقة هذا العلم. فبينما تعني "الإدارة" تحديد الصراع أو إيقافه عند حد معين، وبينما تعني "التسوية" التعامل مع الصراع في ظل عمليات قانونية وسلطوية التي يمكن فرضها على يد النخبة، تعني كلمة "حل" إنهاء الصراع جذريا من خلال الوصول -تحليليا- إلى أصل المشكلة. ومن ثم، فإن حل الصراعات -على عكس إدارتها أو تسويتها- يمثل حلا دائما، وليس مؤقتا، للمشكلة. وكذلك يمثل حلا مرضيا لجميع الأطراف.
آليات غير تقليدية لحل الصراع
ومن اللافت للانتباه هو تحول آليات "حل الصراع" من التقليدي إلى غير التقليدي. وقد حدث هذا التحول بالتحديد في أعقاب الحرب الباردة عام 1991. فقبل عام 1991، كانت الآليات التقليدية متمثلة في المفاوضات، والزيارات الودية بين المسئولين، والتوسط، والتحكيم، إلا أنه بعد عام 1991، لاحظنا تطورا حادثا في منظري علم "حل الصراع"، إذ بدءوا في إعداد مفاهيم جديدة، واتباع آليات غير تقليدية. فكان من بين هذه المفاهيم الجديدة، مفهوم "تحويل الصراع" Conflict Transformation بدلا من "حل الصراع"، ومعناه باختصار "التوصل إلى حل وسط بين الأطراف المتنازعة من خلال القيام بعمليات متفاعلة interactive processes، تؤدي بعد ذلك إلى تهدئة الأجواء، أو إعادة تعريف المصالح، أو العثور على أرض مشتركة". وكذلك كان من بين الاقترانات غير التقليدية: استخدام التكنولوجيا، واستخدام الإعلام، واستخدام المغريات الاقتصادية ودور الشركات عبر القومية، بجانب استخدام دور المنظمات غير الحكومية، ووسائل حفظ السلام.
وأياً كانت منهجية "حل الصراع"، فإنه لا بد من وجود شرط مركزي حتى يؤتي "حل الصراع" ثماره، هذا الشرط يتمثل في توقيت ونضج المفاوضات، فالأطراف المتصارعة تتجه فقط إلى حل صراعاتها حينما تكون مستعدة لذلك، أي حينما تصل إلى حالة من اليأس والقنوط، التي تدرك من خلالها كم الخسائر التي تتكبدها. عند هذه اللحظة فقط -التي يسميها المنظر "وليام زارتمان" باللحظة الناضجة ripe moment- تتسارع الأطراف لكي تتلقف المقترحات المقدمة لحل الصراع، والتي كانت دائما تلوح في الأفق، فلا تجد من يتلقفها.
و يقول " جيمس ويير " و " لويس بارنيس ":
((إن القدرة على حل الخلاف بطريقة بناءة تمثل تحدياً كبيراً للنجاح الإداري. وتزداد حدة الخلافات بين الأفراد بتزايد حدة الخلافات داخل المؤسسة وكل المؤسسات لها نصيبها أيضاً من الخلافات البسيطة التي تضاعف المشاكل الرئيسية، من هنا تكون مشكلة المدير هي الاعتماد على الاختلاف في آراء الأفراد دون أن يجعله يعرض الأداء الكلي والتطور للخطر)).
ويرى" ويير " و "بارنييس " إن الخلاف بين الأشخاص مثل الخلاف بين الجماعات - هو حقيقة تنظيمية لا هي جيدة ولا هي سيئة. قد تكون مدمرة وقد تقوم بدور بناء. " فالمشكلات تنشأ إذ ما تم قمع الخلاف القائم بطريقة مصطنعة أو إذا زادت حدته على قدرة الخصوم أو تدخل طرف ثالث "بمثابة الوسيط".
بالإضافة إلى أن الفعل بالنسبة للخلاف بين الأفراد قد يكون انسحاب أحد الطرفين تاركاً الطرف الآخر وحده في الساحة. هذا هو الموقف التقليدي القائم على مبدأ المكسب والخسارة. أما إذا تم حل المشكلة بالقوة فلا يكون ذلك هو الحل الأمثل لها إذا كان هذا الحل يمثل وجهة نظر واحدة لفرد واحد ويتجاهل وجهات النظر الأخرى المخالفة والتي قام- في الحقيقة- بإبادتها إبادة تامة. فالفائز قد يكون منتصراً والخاسر قد يكون مظلوماً وفي هذه الحالة يكون مدفوعا ًللقتال مرة أخرى في يوم من الأيام. وقد يكون هناك هدنة للخلاف ولكن لا تكون له نهاية.
وهناك طريقة أخرى لتهدئة الخلافات والتظاهر بأن الخلاف لم يعد قائما بالرغم من أنه لم تبذل أي محاولة لمعالجة جذور الخلاف. وهذا الأسلوب أيضاً أسلوب غير مرضٍ لأنه من المحتمل أن تظهر المشكلة من جديد وتستأنف المرحلة أيضاً من جديد. وهناك طريقة أخرى لحل الخلاف وهي المساومة للتوصل لتسوية الخلاف. وهذا معناه أن الطرفين يكونان مستعدان لأن يكسبا أو يخسرا بعض النقاط كما أن الهدف هو الوصول لحل يرضى الطرفان. ومع ذلك فإن المساومة تتضمن كل أنواع الحيل التكتيكية المضادة وغالباً ما يكون الطرفان أكثر تلهفاً للوصول لتسويات يقبلونها أكثر من تلهفهم إلى الوصول لحل سليم.
حدد " ويير " و " بارنييس " طريقتين لإدارة الخلاف أو الصراع بين الأشخاص أو بين الجماعات , هما السيطرة , والمواجهة البناءة.
السيطرة :
 تشمل السيطرة , منع التفاعل , وبناء أشكال التفاعل , وتقليل أو تغيير الضغوط الخارجية.
ومنع التفاعل استراتيجية تستخدم عندما تشتد الانفعالات. حيث تتم السيطرة على الخلاف بالفصل بين طرفيه على الرغم من وجود الخلافات لنعطي الفرصة للأشخاص المعنيين لتهدئة الخلافات والتفكير في حلها بطريقة بناءة. وقد تكون هذه الطريقة وسيلة مؤقتة وتكون المواجهة المحتملة أكثر تفجيراً للخلاف.
ويمكن استخدام استراتيجية بناء أشكال التفاعل إن لم يمكننا الفصل بين الطرفين. وفي هذه الحالة يمكن تطوير اللوائح الأساسية للتعامل مع الخلاف عن طريق توصيل المعلومات بين الطرفين أو التعامل مع المشاكل القائمة. وقد تكون هذه الاستراتيجية وسيلة مؤقتة أيضاً إذا تم كبت الآراء المختلفة بدلاً من التوفيق بينها.
أما عن الاستشارات الشخصية فهي عبارة عن استراتيجية لا تركز على الخلاف نفسه بل تركز على تفاعل الطرفين - وهذه الاستراتيجية تفسح المجال لهما لإخراج التوترات الحبيسة وتشجيعهما على إيجاد طرق جديدة لتسوية النزاع ولكنها لا تركز على الطبيعة الأساسية للخلاف وهي العلاقة بين الطرفين. لذلك فإن المواجهة البناءة تقدم الأمل الأفضل لتوفير الحل الأبدي للخلاف.
المواجهة البناءة :
المواجهة البناءة أسلوب للتقريب بين طرفي الخلاف وغالباً ما تتم بوجود طرف ثالث يكون دوره هو خلق مناخ من التفاهم والتعاون بينهما. فهذا الأسلوب يساعد أيضاً الطرفين للتعرف على وجهات النظر المختلفة لكل منهما. وهو عملية لتطوير التفاهم المشترك بينهما بهدف الوصول لحل يرضي الطرفين فتتم مواجهة المشاكل على أساس التحليل المشترك لهذه المشاكل بمساعدة طرف ثالث وتحليل الحقائق المتعلقة بالموقف والتصرف الفعلي للطرفين. ويتم التعبير عن وجهات النظر وتحليلها ويتم أيضاً تحليلها بربطها بأحداث وتصرفات معينة وليس عن طريق ربطها بالاستنتاجات أو بدارسة الدوافع. أما عن الطرف الثالث فله دور رئيسي في هذه العملية وهو دور صعب. ومسؤولية هذا الطرف هي ضرورة التوصل لاتفاق حول القواعد الأساسية للمناقشات التي تهدف لإظهار الحقائق وتقليل السلوك العدواني. ومن واجبه أيضاً مراقبة طرق التعبير عن وجهات النظر السلبية أثناء المناقشات وتشجيع الطرفين على تحديد المشاكل وتحديد أسبابها ودوافعها للوصول لحل مرضي للطرفين. كذلك فإن من واجب الطرف الثالث عدم التحيز لأي طرف من طرفي الخلاف , ويساعد الطرفين على تطوير الخطط التنفيذ وتوفير المشورة والمساعدة في حالة طلبها.
الخلاف في حد ذاته لا يمكن إنكاره , فالخلاف مصاحب للتقدم والتغيير. وما يستحق أن نأسف عليه هو فشلنا في استخدام الخلاف بطريقة بناءة. وليس هناك من شك في أن الحل العملي للمشاكل والمواجهة البناءة لها يساعد على حل الخلافات وفتح قنوات للمناقشة والسلوك التعاوني.
ومن أساليب إدارة الصراع :
1 - التناول التقليدي للصراع : وهو تناول ينظر إلى الصراع على انه موقف يتميز بحدين متناقضين أحدهم الربح والآخر الخسارة , وهنا ينظر للمتنافسين أو المتصارعين على أن ميولهم متنافرة وان اهتماماتهم متغايرة . بحيث لا يبقى مجال لأي حل وسط ، وانه لا بد من فشل احدهم على حساب نجاح الآخر . فالموقف لا يحتمل سوى الربح أو الخسارة . لذا فان توجيهات حل الصراع من خلال مفهوم الربح - الخسارة من شانها أن تقود على المدى البعيد إلى اختلال في السلوكيات الوظيفية للعاملين في النظام مما يشكل انحداراً في المناخ الذي يسوده وفي إدارته وبالتالي في الصحة العامة للنظام .
2 - التناول الاحتمالي للصراع : يعتمد هذا التناول على المفهوم القائل بان تشخيص الموقف وتحليله يعتبر أمرا ضرورياً للعمل والأداء . وبالتالي فان أفضل سبل التعامل مع الصراع يمكن أن تتم عبر تشخيص دقيق للموقف بهدف التعرف على انسب احتمال للتعامل معه ضمن معطيات ظروف الموقف . لذا فانه من الأمور ألهامة التي يجب اعتبارها عند التعامل مع الصراع ، ضرورة البحث عن بدائل لأداره الصراع ومن ثم دراسة الموقف الأكثر مناسبة وملاءمة لكل من هذه البدائل التي يمكن أن تحقق فيها أقصى كفاية .
بحيث لا تعالج فقط المشاكل ألحرجه - مصدر الصراع - ولكن أيضا وفي الوقت نفسه تحافظ على النظام وتقويه وتجعله اقدر على الاستمرار والإبداع.

37
منتدى الاحياء العام / نبيل حاجي نائف
« في: يوليو 26, 2008, 12:38:32 مساءاً »
تتمة

 أهم عوامل نشوء الكائنات الحية

وإذا أردنا تحديد أهم العوامل التي أدت إلى نشوء الكائنات الحية وتطورها لتصبح كما هي عليه الآن , فهي :

1ً -  وجود ظروف سمحت بتكوًن سلاسل من التفاعلات الكيميائية العضوية .

2ً -  تكوً ن دارات مغلقة من التفاعلات المتسلسلة , تبقى لفترات زمنية طويلة , نتيجة استمداده الطاقة من الوسط الموجودة فيه

3ً – توفر آلية تفاعلات كيميائية عضوية , يمكن أن تنسخ سلاسل الأحماض النووية بطريقة بسيطة ( النسخ بالقالب ) , وهذه ساهمت مع التفاعلات الكيميائية الأخرى في تشكيل أولئل البنيات الحية البسيطة جداً , التي تستطيع نسخ نفسها أو نسخ بعض أجزائها ( نسخ الإعلام ) .

4ً -  دور التغذية العكسية الهام جداً في انتظام وثبات هذه البنيات الحية .

5ً – آلية المحاولة والخطأ والتصحيح  بالانتخاب , نتيجة بقاء البنيات الحية المتوافقة مع الأوضاع والظروف . والتي تساعد  بتطور وارتقاء هذه البنيات الحية .

 6ً – توفر زمن طويل جداً مليارات السنين كافي لحدوث هذه التطورات , وأهمها تطور ونمو الاعلام الذي يتم نقله للأجيال التالية .

7ً – تشكل آلية الولادة والموت , وآلية الذكر والأنثى , وباقي الآليات الحيوية الأخرى . الذي ساهم بشكل فعال في الانتشار الواسع لأنواع الكائنات الحية , وبالتالي أدى ذلك إلى تسارع التطور والارتقاء .

 

الغائية

إن الغائية بالنسبة لنا مرتبطة بالتنبؤ المستقبلي , وهذا لا يتم إلا فكرياً , فاستباق الحاضر لا يتم إلا فكريا ً, لذلك الغائية مرتبطة بالتفكير . وكذلك ترتبط الغائية بالتخطيط  والتحكم بالحوادث للوصول إلى الهدف الموضوع مسبقاً.

و عندما نعرٌف الغائية بهذه الطريقة , يمكننا عندها أن نوضح الفرق بين العشواء وحصول الانتظام .

فقد كان أرسطو يقول أن غاية الأجسام هي دافعها الذاتي الانجذاب نحو الأسفل , ويقول أيضاً إن غاية صنع العين هي الرؤيا , وكذلك غاية صنع الأذن السمع , والرجلان للمشي . . . .

 وهذا يعني أن وجود الهدف أو الغاية سابق على تشكل العضو , وأن هناك تخطيط فكري مستقبلي قد جرى , وبناءً علية تم تشكيل العضو . فبنأً على وجود الحاجة للعضو جري التخطيط الفكري لصنع العضو ثم صنعه . وهذا غير دقيق  فليس هناك أي تخطيط فكري مسبق  لأن الحياة لا تفكر مثلنا .

نحن نستطيع تفسيرسقوط الأجسام نحو مركز الأرض , وتفسير كيف يشكل النهر مجاره , وكيف تشكلت الأرجل والأعين والآذان  . . الخ  دون تخطيط فكري مسبق , وذلك بالاعتماد فقط على العناصر الموجودة والآليات - القوانين الفيزيائية والكيميائية - التي تتفاعل بها .

فكافة أنواع وأشكال التفاعلات في هذا الوجود أساسها تفاعلات فيزيائية , ويمكننا إرجاع أي تفاعل مهما كان إلى تفاعلات فيزيائية , فحتي التفاعلات الفكرية والنفسية والاجتماعية يمكن إرجاعها إلى أسسها الفيزيائية.

فكل بنية تتشكل يكون تشكلها حسب البنيات الأولية الموجودة , وحسب التفاعلات التي تجري وحسب الوضع أي الزمان والمكان الموجودين فيه.

ونحن نستطيع تفسير تشكل أي بنية مهما كانت بنأً على ذلك , فبالاعتماد على خصائص البنيات المتفاعلة وعلى الأوضاع الموجودة  وبالتالي التفاعلات التي سوف تحدث , نستطيع تفسير تشكل كافة أنواع وأشكال البنيات الموجودة , فكل بنية موجودة يفرض وجود عناصر وآليات تشكلها .

فنحن نستطيع تفسير تشكل البنيات الحية وأجهزتها وأعضاؤها  العين والأذن والقلب والمعدة والدماغ والأيادي والأرجل.....- فقط بالعتماد على العناصر ( أي البنيات ) والأوضاع الموجودة , بالإضافة لطرق التفاعل التي تجري وتشكلها.

فتشكل الانتظام من العشواء يحدث نتيجة تشكل دارات تفاعل متكررة خلال زمن قصيرأو طويل , فهذا ينشئ البنيات المستقرة التي تحافظ على ترابطها واستمرارها لفترة زمنية كبنية محددة , وتكون متوافقة مع الأوضاع والتأثيرات الموجودة فيها.

فالدارات تفاعل البنيات الفيزيائية الأولية " الأوتار الفائقة "المتكررة كونت البنيات الذرية الأولية وهي الكواركات واللبتونات , وهذه بتفاعلها مع بعضها ضمن الأوضاع الموجودة فيها كونت الجسيمات الذرية , ثم تكونت الذرات الأولية الهيدروجين والهليوم , ثم تكونت المجرات والنجوم , ثم  العناصر الكيميائية الأخرى ,  ثم المركبات العضوية , فالبنيات الحية , فالبنيات الفكرية , فالبنيات الاجتماعية. . .

ولكي تتوضح الغائية يجب إظهار علاقتها بالتخطيط , وعلاقة التخطيط بالإعلام .

التخطيط

لقد عرٌف التخطيط  بشكل عام بأنه الاختيار من بين البدائل بالنسبة لهداف موضوع , أو هو اختيار من بين مسارات بديلة للتصرف المستقبلي , أي هو التعامل مع الخيارات الحالية المتاحة والخيارت المستقبلية المحتملة بناءً على ( برنامج ) موضوع .

بالنسبة للكائنات الحية , هناك مخطط  ( أو ما يعتبر هدفاً موضوع مسبقاً ) تم الوصول إلية عن طريق المحاولة والخطأ والتصحيح نتيجة الانتخاب الطبيعي والتوافق معالأوضاع والظروف , وهو على شكل معلومات أو تعليمات ( برنامج ) أو إعلام , وعن طريق التعامل مع الخيارات يسعي للوصول إليه , ويتم الاختيار حسب البرنامج الموضوع لتحقيق الهدف  .

أما التخطيط البشري فهو تعامل فكري مع الخيارات المتاحة يسبق التعام الواقعي معها , وهذا ما يميز التخطيط البشري عن تخطيط الكائنات الحية الأخرى . فتخطيط تلك البنيات يجري بالتعامل مع الخيارات المادية الموجودة , حسب البرنامج الوراثي الموضوع , ودون استباق المستقبل بشكل فكري , وخيارات الكائنات الحية تعتمد على العناصر والقوى الفيزيائية والكيميائية والحيوية الموجودة . وإن كان هناك الذاكرة فكرية فهي للماضي , ولا تتوقع أو تتنبأ للمستقبل , فالمستقبل مغلق بالنسبة لها .

وإن حدث وقامت بعض الكائنات الحية بمشاريع مستقبلية , فيكون هذا مبرمج فزيولوجياً وعصبياً وليس فكرياً بشكل واع . وهذا هو الفرق الأساسي والهام جداً بين تفكيرنا وتفكير كافة الكائنات الحية الأخرى .

وهذا ما عرفه وشعر به كل من فكر في هذا الموضوع , فنحن نفكر ونتعامل مع الوجود بطريقة مختلفة عن باقي الموجودات .

لأننا نستخدم البنيات الفكرية التنبؤية ( السببية واستباق المستقبل ) وخصائصها الفريدة في التعامل مع الخيارات .

 إن هذا الفرق الهام جداً هو ما يميزنا عن باقي بنيات الوجود الأخرى فنحن نتعامل مع الخيارات في زمن مفتوح ( نسبياً ) , ماض و حاضر ومستقبل , أما باقي البنيات الحية فتتعامل  مع الخيارات المتاحة لها في زمن الماضي والحاضر فقط , ولا تستطيع استباق الحاضر إلى المستقبل في تعاملها مع الخيارات .

فالتخطيط الفكري , والسببية الفكرية المتطورة هو ما يميز تفكيرنا عن باقي بنيات الوجود , فنحن فقط  نستطيع أن نختار الخيار الأنسب من بين مجموعة خيارات متاحة لنا , وذلك بالاعتماد على أفضليتها المستقبلية وليس الحالية , وذلك باستعمال البنيات الفكرية التنبؤية المتطورة العالية الدقة . وكلما كانت دقتها أعلى كان تخطيطنا أكثر فاعلية في تحقيق أهدافنا الموضوعة.

لقد توصلت بنية الحياة إلى تشكيل أعقد الأجهزة وأعقد البنيات وذلك دون تخطيط مسبق هادف . توصلت لذلك بتعاملها مع الخيارات المادية المتاحة فقط  . وقد حققت كل ذلك نتيجة وجود العناصر وتفاعلاتها المادية خلال ثلاثة ونصف مليار سنة , وقد كانت تقوم بعملها  بتشكيل البنيات المتماسكة المستقرة ودون تخطيط مسبق , فمثلاً  شكلت الرؤيا بعدة طرق مختلفة , وكذلك شكلت آلية الطيران بعدة طرق , وذلك حسب العناصر والتفاعلات الموجودة المتاحة . وشكلت أنواعاً متعددة من الكائنات الحية التي تستخدم آليات تفاعل وطاقة مختلفة الضوء , أو طاقة البراكين , أو حرق المواد العضوية . وشكلت مليارات الأنواع من الكائنات الحية . وأهم من هذا كله شكلت البنيات الفكرية . وكل ذلك دون تخطيط مسبق .

ونحن الآن بالإمكانيات المتاحة لنا نستطيع تقليد بنية الحياة في صنع البنيات , ولكن بسرعة أكبر بمليون مرة من سرعة بنية الحياة إن لم يكن أسرع .  فعندما تشكلت لدينا البنيات الفكرية اللغوية حدثت قفزة نوعية كبيرة تماثل أو تفوق تشكل بنية الحياة ذاتها , لذلك ما هو آت رهيب .

فنحن أنتجنا البنيات الفكرية العامة المتطورة( أي العلوم عالية الدقة) . وصنعنا البنيات التكنولوجية المتطورة وفي عدة مجالات , في الصناعة , وفي البيولوجيا, وفي الإلكترونيات والكومبيوتر.., في فترة لا تزيد عن بضعة آلاف من السنين أي في لحظة لا تذكر من عمر بنية  الحياة أو بنية الكون .

وكان هذا نتيجة استعمال البنيات الفكرية اللغوية المحكية ثم المكتوبة , وهذا ما فتح لنا الخيارات , كافة الخيارات.

إنه انفجار رهيب في تسارع تشكل البنيات الجديدة المتطورة . ففي المئة سنة القادمة نتوقع أن تظهر بنيات كثيرة متطورة , ولكن هل نستطيع تصور تلك البنيات التي سوف تظهر بعد مليون سنة أو بعد مليار سنة ؟؟؟, فالمليار سنة في عمر الوجود زمن عادي. يقول ستيفن هوكنج

" .... حيث إن التطور البيولوجي هو أساساً مسيرة عشوائية في فضاء كل الممكنات الوراثية , فإنه يحدث ببطء شديد, ويكون مدى التعقيد أو عدد " بتات" المعلومات المشفرة في  د. ن. آ هو تقريباً عدد القواعد التي في الجزيء . ولابد من أن سرعة زيادة التعقيد في أول بليوني سنة أو ما يقرب, كانت بمعدل " بتة" معلومات لكل مائة سنة. ثم ارتفع تدريجياً معدل تزايد تعقد  د. ن. أ  ليصل إلى ما يقرب" بتة" واحدة في سنة عبر الملايين المعدودة الأخيرة, وعلى أنه منذ حوالي ستة آلاف أو ثمانيةآلاف عام حدث تطور رئيسي جديد. أنشأنا اللغة المكتوبة. ويعني هذا أنه يمكن تمرير المعلومات من جيل إلى الجيل التالي من دون حاجة إلى انتظار تلك العمليات البطيئة جداً للطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي لتشفير المعلومات في تتابعات دنا . وزاد التعقيد زيادة هائلة. أدى نقل المعلومات هكذا من خلال وسائل خارجية غير بيولوجية إلى أن يسيطر الجنس البشري على العالم. على أننا الآن على مشارف عصر جديد, سوف نتمكن فيه من زيادة تعقيد سجلنا الداخلي , أي د. ن .آ, من دون أن نحتاج إلى انتظار عمليات التطور البيولوجي البطيئة , لم يحدث أي تغير مهم في دنا البشري في آخر عشرة آلاف عام, إلا أن من المرجح أننا سنتمكن من إعادة تصميم هذا الدماغ بالكامل في الف عام القادمة " من كتاب الكون في قشرة جوز.

التعامل مع الخيارات, والتوجيه , والانتخاب, والتكيف مع الأوضاع

يقول كارل بوبر عن فكرتا التوجيه والانتخاب :

 أنهما موجودتان في المستويات الثلاثة: المستوى الجيني والمستوى السلوكي والمستوى الكشف العلمي , إن جوهر آلية التكيف هو ذاته في المستويات الثلاث : البنية الجينية للكائن الحي يناظرها في المستوى السلوكي , المخزن الفطري من أنماط السلوك المتاحة( الخيارات المتاحة) للكائن الحي , و يناظرها في المستوى العلمي , الحدوس الافتراضية أوالنظريات العلمية السائدة . ودائماً تنتقل هذه البنيات عن طريق التوجيه (التعامل مع الخيارات المتاحة) في المستويات الثلاثة جميعها : عن طريق تكاثر البنية (بالنسخ) الجينية المشفرة في المستويين الجيني والسلوكي , وعن طريق التقاليد الاجتماعية والمحاكاة في المستويين السلوكي والعلمي . و يأتي التوجيه من صميم البنية في المستويات الثلاثة جميعها . أما إذا حدثت طفرات أو تحولات أو أخطاء , فثمة توجيهات جديدة (تغذية عكسية تصحيحية) , هي الأخرى تنشأ عن صميم البنية , أكثر من أن تنشأ من خارجها,  من البيئة. ويوجز أطروحته فيقول:

نحن نعمل ببنيات متوارثة في سائر المستويات الثلاثة التي وضعناها في الاعتبار , المستوى الجيني والمستوى السلوكي والمستوى العلمي , هذه البنيات المتوارثة عن طريق التوجيه , إما من خلال الشفرة الجينية أو من خلال التقاليد.

تنشأ في المستويات الثلاثة جميعها بنيات جديدة وتوجيهات جديدة عن طريق محاولة التغيير النابعة من صميم البنية : عن طريق المحاولات المبدئية , الخاضعة للانتخاب الطبيعي أو لاستبعاد الخطأ . وعلى هذا النحو نستطيع أن نتحدث عن التكيف بواسطة "منهج المحاولة والخطأ ".

وعلينا أن ننتبه إلى أننا بشكل عام لا نصل أبداً بأي من تطبيقات منهج المحاولة واستبعاد الخطأ , أوعن طريق الانتخاب الطبيعي  إلى حالة من التكيف ثابتة ومتوازنة تماماً , وذلك.

1 -   لأنه من غير الممكن الظفر بمحاولة مكتملة و مثلى لحل المشكلة.

2 -  وهو الأهم- لأن بزوغ بنيات جديدة أو توجيهات جديدة يتضمن تغيرأً في الموقف البيئي , قد تصبح عناصر جديدة في البيئة ذات علاقة بالكائن الحي , وبالتالي , قد تنشأ ضغوط جديدة وتحديات جديدة ومشاكل جديدة كنتيجة لتغير البيئة الذي نشأ عن صميم الكائن الحي .  من كتاب اسطورة الإطار

إن سرعة الدارات التفاعلات المصححه لبنية الكائنات الحية , لكي تتوافق مع الأوضاع والظروف الموجودة ضمنها , بطيئة جداً , فهي تستغرق آلاف أو عشرات الآلاف السنين . أما في حالات تشكل البنيات الاجتماعية , فتقدر سرعة الدارات المصححة للتفاعلات  بعشرات أو مئات السنين . وأما في الصناعة فهو يستغرق أشهر أوسنين .

 

وجواباٌ على سؤال هل الحيلة مادة فقط .

الحياة مادة مع ملاحظة أنه ليس هناك فرق بين المادة والطاقة لأنه يمكن تحول إحداهما إلى الأخرى .

 

المصادر

أسطورة الإطار    تأليف كارل بوبر       ترجمة  د . يمنى طريف الخولي                                سلسلة عالم المعرفة

طبيعة الحياة      تأليف  فرنسيس كريك ترجمت د . أحمد مستجير  سلسلة عالم المعرفة

هندسة معمارية الحياة*                    د. ي.إنكبر                           مجلة العلوم الكويت م 14 _ عدد 6,7

المصادفة والضرورة   تأليف جاك مونو   ترجمة د . عصام المياس   معهد الانماء العربي

نشأة الحياة على الأرض*                   ريتشارد مونا سترسكي                   مجلة الثقافة العالمية العدد 92  

الحياة تجربة غير مكتملة      سلفادور لوريا***(جائزة نوبل)            ترجمة محمد حسن إبراهيم

تاريخ الحياة *         ا. ل. ماك الستر    ترجمة د. فؤاد العجل                                  جامعة دمشق 1978

قصة الحياة *         البير دوكروك     ترجمة د. أحمد سعاد الجعفري                وزارة الثقافة دمشق 1981

بيولوجيا في أعلى مستوى *         ت. بيردسلي                              مجلة العلوم الكويت م 11 – عدد 12

هذا هو علم البيولوجيا( دراسة في ماهية الحياة والأحياء)* ارنست ماير   ترجمة د. عفيفي محمود عفيفي

عالم المعرفة الكويت العدد 277

الحياة من الخلية إلى الإنسان*      ماكس دوسيكتي ترجمة محمد حسن إبراهيم    وزارة الثقافة دمشق1996

الشيفرة الوراثية للإنسان   تحرير دانييل كيفلس  وليروي هود   ترجمة د . أحمد مستجير   سلسلة عالم المعرفة

التنبؤ الوراثي   تأليف د . زولت هارسنياي ترجمة  د . مصطفى ابراهيم فهمي     سلسة عالم المعرفة

علم الأحياء والايديلوجيا والطبيعة البشرية   تأليف ستيفن روز وآخرين   ترجمة د . مصطفى ابراهيم فهمي عالم المعرفة

الوراثة والإنسان    تأليف د . محمد الربيعي     سلسلة عالم المعرفة

38
منتدى الاحياء العام / نبيل حاجي نائف
« في: يوليو 26, 2008, 12:36:02 مساءاً »
تصورات عن كيفية تشكل الكائنات ,أو البنيات الحية من البنيات الفيزيائية دون تخطيط مسبق وأهم العوامل التي أدت إلى نشوئها

إن أهم خصائص الكائنات الحية هي :

    1 – الأيض , أي التغذية وإنتاج الطاقة , عن طريق التعامل مع الوسط الموجودة فيه .

    2 – التوالد أو التناسخ الذاتي , فالكائنات أوالبنيات الحية تملك القدرة على نسخ نفسها . وهذا يحتاج إلى تخطيط , وإعلام , وتنقيذ .

يقول ريمي ليستيين عن البنيات الحية :

لكي تعيش الكائنات الحية , عليها أن تكون قادرة على أن تتبادل مع الخارج مادة وطاقة . والحياة موسومة بجهد مستمر من أجل التصدي لتغيرات الوسط الخارجي , والإبقاء على شروط الوسط الداخلي ثابتة.

والموجود الحي حقق بواسطة ميكانيكيات التنظيم هذه الشروط بالتدرج , الاستقلال الذاتي وطول العمر الضروري ليبقى بعد اضطرابات الطبيعة الدورية .  لقد تعلم أن يتكيف مع توالي الليل والنهار, والاضطرابات الطبيعية الكارثية , كالقحط أو فقدان الغذاء.

كيف تشكلت الكائنات الحية من البنيات الفيزيائية .

تتشكل البنيات الفيزيائية , الذرة والمركبات الكيميائية و الكواكب والنجوم , دون تخطيط مسبق . وكذلك تتشكل مجاري الأنهار والبحار وغيرها دون تخطيط -  وكذلك تتشكل القرى والدول والحضارات  دون تخطيط - . فهي تتشكل نتيجة العناصر والقوى الفيزيائية , والأوضاع , الموجودة  فقط , ودون تخطيط مسبق .

أما الكائنات أوالبنيات الحية إن كانت نبات أو حيوان , فهي تتشكل بناءً على تخطيط  وإعلام مسبق ,  وكذلك أعضاء وأجهزة الكائنات الحية تتشكل بناءً على تخطيط مسبق , ولا يمكن إلا أن يكون هناك مخطط  لتكوًنها . فهذه البنيات الحية , أوأعضائها وأجهزتها , لا يمكن أن تتكوٌن على هذا الشكل المحدد والموجه بهذه الدقة , دون تخطيط مسبق ( أي برنامج موضوع مسبقاً ).

لذلك كان البشر دوماً يتساءلون عن صانع أو مخطط  لهذه البنيات الحية . وكان الوصول لفهم قريب من الواقع لكيفية حدوث ذلك , أي كيف يخطط لهذا وكيف يتم ذلك , ليس بالأمر السهل أبداً , وقد استغرق هذا وقت طويل من البحث والتفكير والتجارب والجهد , ومن قبل الكثيرين .

إن البنيات الحية تحمل كافة خصائص البنيات الفيزيائية والكيميائية بالإضافة إلى خصائص البنيات الحية , وقد تشكلت البنيات الحية من البنيات الفيزيائية والكيميائية . وتم ذلك نتيجة تشكل دارات من تفاعلات العناصر والمركبات الكيميائية . فلولا وجود العناصر والظروف التي سمحت بتكوٌن هذه الدارات , لما كان بالامكان نشوء البنيات الحية .

فالتفاعلات الفيزيائية والكيميائية المتعددة والواسعة , والمنتظمة في سلسلة أو سلاسل طويلة , هي التي سمحت بتشكل دارات مغلقة من تفاعلات العناصر والمركبات , والتي تتكرر على شكل دارة مغلقة , وتبقى لفترة طويلة نسبياً . فهي  تستطيع تحقيق التوازن والاستمرار الزمن طويل مقارنةً بزمن التفاعلات الكيميائية العادية التي تجري بسرعة وزمن متناهي في الصغر . ولكن هذه البنيات لاتنسخ نفسها .

وهذه الدارات من التفاعلات كان تشكلها شبه حتمي , في ظل وجود عناصر ومركبات كثيرة متفاعلة  وضمن ظروف متنوعة , وخلال زمن طويل , وكلما طال هذا الزمن كثرة احتمال تشكل هذه الدارات . وتنوعت هذه الدارات في شكلها وحجمها وطبيعتها وخصائصها .

ثم بعد ذلك تفاعلت هذه الدارات مع بعضها ضمن الظروف الموجودة , وتكونت نتيجة ذلك دارات أكبر وأوسع وأعقد , وزمن استمرارها (  طول عمرها ) أطول . فالبنيات الحية  البسيطة جداً تتشكل نتيجة تفاعل مجموعة من البنيات ضمن أوضاع وظروف مناسبة , وهذه البنيات تكون متماسكة ومتوازنة في ظل ظروف متغيرة .

وهي تحقق هذا الزمن الطويل نتيجة تبادل الطاقة والعناصر مع الوسط الموجودة فيه . فلكي تبقى أي سلسلة مغلقة من التفاعلات مستمرة يجب أن تستمد طاقة من خارجها أي من الوسط الموجودة فيه . فقانون الترموديناميك الثاني يمنع حدوث سلسة مغلقة من التفاعلات أو أي دارة مغلقة من السيالات من الاستمرار دون تغذيتها من خارجها بالطاقة . فقد توصلت هذه البنيات إلى أحدى طرق استمداد الطاقة من الوسط الموجودة فيه , إن كانت طاقة حرارة أو ضوئية أو كيميائية .  

وهذا يشبه بعض الشيء  تشكل بنيات مثل المصانع والشركات والمؤسسات , التي تنشأ نتيجة تفاعل الأفراد والظروف المادية والاجتماعية والاقتصادية المناسبة . فهاذه البنيات لها بعض خصائص البنيات الحية , فهي بعد أن تتشكل تحافظ على نفسها وتنمو وتتطور , ولكنها لا تنسخ نفسها .

البنيات الحية والتغذية العكسية

إن دور التغذية العكسية , هوأساس تشكل البنيات بما فيها البنيات الحية . فتحقيق استمرار توازن البنيات المتفاعلة , مع وجود تغيرات مستمرة للأوضاع , لايمكن أن يحدث دون تغذية عكسية تصحيحية , تحافظ على نقاط ( أو مجالات ) التوازن .

فالتغذية العكسية هي التي تحقق التوازن والاستقرار للبنية التي تخضع لتأثيرات داخلية أوخارجية متغيرة , فلولا التغذية العكسية التي تؤدي إلى الوصول لنقاط التوازن , كلما حدثت انحرافات عن هذه النقاط . لاستحال تكون البنيات الحية .

فالتغذية العكسية هي التي توجه التفاعلات نحو نقاط التوازن , إذا حدثت تأثيرات حرفت التفاعلات بعيداً عن هذه النقاط , أمثلة على دور التغذية العكسية في تحقيق الثبات عند نقاط  معينة أو نقاط التوازن :

1-      منظم واط الذي ينظم سرعة عمل الآلة البخارية عند سرعة معينة .

2-      منظم الصوت عند مسوى معين  في أجهزة الراديو .

3-      منظم مستوى السائل في خزان , يدخل ويخرج منه السائل  .

4-      منظم درجة الحرارة .

5-      الكثير من توازنات الإحيائية ( الحيوانات مع بعضها أو مع البيئة والظروف ) .

6-      التوزنات  الكثيرة في المجال الاقتصادي . مثل توازن العرض مع الطلب .

وكلما كان زمن دارة التغذية العكسية صغيراً كان التصحيح أسرع , وإذا طال هذا زمن طال زمن التصحيح . فدارات التغذية العكسية التصحيحية التي تخضع لها الأنواع الحية في تطورها لتحقق التوازن والتوافق مع الأوضاع الموجودة فيها , يستغرق زمن طويل يقاس بآلاف وملايين السنين .

والتغذية العكسية لا يمكنها أن تحقق دوماً الوصول إلى نقاط التوازن , ويمكن أن لا يكون هناك نقاط توازن . وهذا يمكن أن يؤدي إلى تفكك أو انهيار البنية الحية كلها .

وهناك آلية أخرى هامة جداً , وهي التبادل المتوازن أوالصفقة المتوازنة , بين البنيات الحية مع بعضها أو مع البيئة والظروف , أو ضمن بنياتها الداخلية . ويمكن اعتبار التبادل نوع من التغذية العكسية المتطورة , فهو أخذ وعطاء متكرر أي دارة من التفاعلات أو تبادل التأثير .

كيف تم الوصول إلى بنيات حية تنسخ نفسها ؟    

إن تكوًن البنيات الحية التي لا تنسخ نفسها أي لا تتوالد , ليس بالأمر الذي يحتاج إلى سنين من التفاعلات الكيميائية والعضوية , الأمر الصعب والذي يحتاج لسنين طويلة , هو تكوًن بنيات حية  قادرة على نسخ نفسها أي تتوالد .

لقد كان نشوء أو تكون بنيات حية بسيطة والتي لا تتوالد لا يحتاج لزمن طويل , وهو كان يحدث دوماً  وبشكل طبيعي أوعشوائي , فكانت هذه البنيات التي تتشكل , تعود وتتفكك أي تموت , وبموتها نعود إلى الصفر, ويجب إعادة تشكلها من جديد  .

فالمهم ليحدث تطور مستمر للبنيات الحية البسيطة وبالتالي نشوء سلسلة الكائنات الحية , المحافظة على ما تم الوصول إليه والانطلاق منه وليس العودة إلى البداية , وهذا لا يتم إلا بنسخ هذه البنيات , والاستمرار في التفاعلات والتطورات لهذه النسخ . التي ستخضع للانتخاب الظروف ويبقى المتوافق مع الأوضاع . وبذلك يحدث التطور  وتتراكم المنجزات التي يتم الوصول إليها . لذلك كان الوصول لبنيات حية قادرة على نسخ نفسها هو الأمر الحاسم .

إن الأحماض النووية هي التي سمحت  بذلك , نتيجة الخاصية الأساسية لهذا الأحماض وهي قدرتها على تشكيل لولب مزدوج يمكن أن ينتسخ  , فإذا انفصل قسميه , كل قسم يعيد القسم الآخر , وبذلك يحدث نسخ لهذا اللولب .

فتوفر آلية النسخ سمح بتشكل بنيات عضوية تنسخ نفسها . وبهذا اكتملت العناصر والآليات الأساسية اللازمة لنشوء بنيات عضوية معقدة تستخدم آلية نسخ فعالة .

فقد كانت تفاعلات الاحماض الأمينية كونت كم هائل من أشكال البروتينات . وكذلك تفاعلات الأحماض النووية كونت عدد هائل من اللوالب التي تستطيع نسخ نفسها , وبتفاعل البروتينات مع هذه اللوالب ومع باقي المركبات الكيميائية , تشكلت أوائل البنيات الحية البسيطة التي تنسخ نفسها أو تنسخ بعض أجزائها .

حاشية :

إن الفيروسات هي لوالب من " د ن أ " لا تستطيع نسخ نفسها , فهي لكي تنسخ يجب أن تدخل خلية حية , ففي نواتها توجد آليات النسخ , وعن طريقها يتم نسخ هذه الفيروسات .

النسخ  وأشكال النسخ

إن عملية النسخ بشكل عام تحتاج للأمور التالية :

1 - المعلومات " أو الإعلام " الكافية لتحقيق عمليات النسخ . يستثنى النسخ بالقالب لأنه يتم بطريق بسيطة .

2 – وجود طريقة لترميز عناصرالبنية المراد نسخها , أي وجود آلية مناسبة  ترمز  الإعلام ( أي وجود لغة لنقل المعلومات)

3 – وجود المواد والآليات اللازمة لصنع النسخة .

4 – وبالنسبة للبنيات الحية يجب أن تتوفر هذه الأمور الثلاثة لدي البنية الحية التي سوف تنسخ ذاتها .

وكما نعلم هناك عدة أنواع من النسخ .

الأول البنية ذاتها تقوم بنسخ نفسها بما تملك من إمكانات , بالإضافة لتوفر وسط مناسب لتأمين عناصر ومستلزمات النسخ .

الثاني هو أن تقوم بنيات أخرى بنسخ البنية  .

الثالث تشارك البنية مع البنيات الخارجية في النسخ .

وهناك بالإضافة لذلك نوع متطور من النسخ , وهو نسخ التصرفات لدى الكائنات الحية , ونسخ البنيات الفكرية لدي البشر . فالتقليد والمحاكاة الموجودين لدى أغلب البنيات الحية هما بمثابة نسخ .

هناك صنع للبنيات المتشابهة ودون وجود تخطيط مسبق , بل نتيجة توفر العناصر والظروف المناسبة بشكل طبيعي أو عشوائي . مثال على ذلك تكون النجوم أوالكواكب أو الذرات أو الجبال أو القرى والمدن أو الدول .....الخ . وهذا ليس نسخ بالمعنى الصحيح بل هو صنع دون تخطيط مسبق , مع أنه ينتج بنيات متشابهة أو حتى متطابقة .

النسخ , والتمثيل بنموذج مشابه

إن النسخ المطابق هو : إنتاج بنية مطابقة لبنية أخرى .

أما التمثيل بنموذج مشابه فهو : تشكيل أو بناء بنية من بنيات أولية مختلفة عن البنيات الأولية للبنية الممثلة , مثل الصورة الفوتوغرافية أو التمثال لشيء . . . , فهي تمثيل البنيات ببنيات شبيهة مؤلفة من مواد مختلفة .

في حالة نسخ بنية مادية , أي أن بناء بنية مادية تشابهها أو تطابقها بدرجة عالية , يلزم ما يلي:

1 -  كافة المعلومات ( أي الإعلام ) اللازمة لبنائها.

2 -  كافة البنيات أو العناصرالأولية اللازمة.

3 -  كافة آليات التفاعل التي تلزم لبناء أوتكوين البنية المراد نسخها , بالإضافة طبعا ً إلى القدرة على تنفيذ هذا النسخ .

فالخلية الحية تنسخ نفسها عن طريق الانقسام إلى خليتين متساويتين . و كذلك الكائن الحي يتم نسخه بواسطة المعلومات والقدرات الموجودة في الخلية والجينات الوراثية . وفي حالة نسخ الخلية يتم نسخ الجينات الوراثية بطريقة القالب المعروفة والتي تستخدمها كثيراً في النسخ , أما باقي أجزاء الخلية فيتم قسمه إلى قسمين متساويين تقريبا ً.

طرق النسخ

هناك عدة طرق للنسخ و هي:

1- النسخ بطريقة القالب وهي تستخدم في نسخ الجينات الوراثية . والإنسان يستخدمها كثيراً في أغلب عمليات النسخ البسيطة التي يقوم بها.

2- النسخ باستعمال البنيات الجزئية ( أي الأولية ) وآليات التفاعل , لتكوين نسخة عن البنية المطلوب نسخها , مثل نسخ الكائن الحي بدأ من خلية ملقحة , أو نسخ بناء , أو نسخ آلة , أو نسخ جهاز , أو نسخ أي بنية أخرى . وذلك بتشكيلها من بنياتها الأولية  باستعمال العناصر والآليات المناسبة . هذا النوع من النسخ ينطبق عليه مفهوم المشروع الهادف , وهذا النسخ يلزمه مسبقا ً معرفة المعلومات اللازمة لتكوين النسخة.

والنسخ بكافة أنواعه , إما أن يكون  بدأً من بنيات من مستوى منخفض , أو بدأ من بنيات من نفس المستوى . ففي حالة النسخ بالقالب يتم تحقيق النسخ باستعمال البنيات التي من نفس المستوى , ما النسخ من بنيات من مستوى أقل (أو تحتي) فمثال عليه  البناء الذي يبنى من مواد الحجارة و الخشب و الحديد و غيرها . وكذلك تقوم الخلية الجنينية ببناء الكائن الحي من المواد العضوية البسيطة و بآليات معقدة كثيرة , و هذا ما يستدعي في هذه الطريقة من النسخ , الوجود المسبق لكافة المعلومات اللازمة لنسخ . بالإضافة إلى القدرة على التنفيذ , والتي يلزمها الكثير من العناصر والظروف الخارجية والداخلية الملائمة .

الاعلام

الاعلام بالمعنى العادي هو نقل مفهوم أو دلالة إلى كائن واع بتوسط رسالة اصطلاحية , وبتوسط حامل مطبوعة أو موجات صوتية...الخ.

أما معناه العام فهو نقل معلومات أو تعليمات ( أو برنامج ) من بنية إلى أخرى .

يجب التمييز بين عناصر الاعلام بشكلها العام وتحديدها وهي:

1 - البنية التي ترسل الرسالة ( أو الإعلام ) .

2- الرسالة عناصرها  و مضمونها

3- البنية التي تستقبل الرسالة وتتعرف على مضمونها .

4- محصلة ونتائج هذه العملية , وهي تكون غالباً قيام البنية المستقبلة باستجابات أو أعمال , بناء على مضمون الرسالة .

في بعض الحالات تكون البنية التي ترسل الرسالة هي نفسها التي تستقبلها .

إن الجينات تحمل اعلام ( برنامج أو مخطط ) هائل , يمكٌن من- أو تكون نتائجه- أن البنية الكائن الحي تنسخ نفسها .

كيف يمكن أن نفسر هذه الحالة المعقدة من الاعلام الذي ينفذ مضمونه ؟

الجينات هي البنيات التي تحمل مضمون الرسالة وهي التي ترسلها إلى البنيات المستقبلة , وبمساعدتها  يتم الاستقبال للرسالة وتنفيذ مضمونها .

 

ماهي هذه البنيات المستقبلة للرسالة ؟

هناك الكثير من البنيات التي تكون ممثلة لمستقبل الرسالة وهي:

1 - الخلايا الحية نفسها , التي تقوم بحمل الجينات وماتتضمنه من بنيات وخصائص .

2 - الحاضن أو الرحم الذي تجري فيه عمليات استقبال الرسالة .

3 - كافة الظروف والأوضاع التي تجري فيها عملية الاستقبال والتنفيذ , ومنها التزاوج .

4 - وهناك الكثير من العمليات , وكذلك الكثير من دارات الاعلام بالتغذية العكسية ( رسائل متبادلة ) التي تجري ليتم نقل وتنفيذ مضمون الرسالة الذي هو تكوين الكائن الحي المطابق . فهذه العملية بمثابة مشروع كبير يجري تنفيذه .

يقول ستيفن روز :

" إن المرء يستطيع أن ينظر إلى الأنظمة ومفعولاتها ليس فحسب بلغة المادة وسريان الطاقة من خلالها . بل بلغة تبادل المعلومات - أي أن البنيات الأولية تستطيع نقل التعليمات أو المعلومات إحداها للأخرى –

إن الجزئ " د ن أ"  يستطيع أن يحمل تعليمات ( أي معلومات ) وراثية عبر الأجيال . وهكذا فإن الجزيئات والتبادلات النشطة فيما بينها . وبكلمات أخرى فإن ثمة سريان للمعلومات بين هذه الجزيئات في إتجاه واحد " .

39
منتدى علم الفيزياء العام / الفيزياء أم العلوم
« في: يوليو 26, 2008, 12:29:22 مساءاً »
الفيزياء أم العلوم

يقولون أن الفلسفة أم العلوم , ولكن لا يذكرون كيف نشأت هذه الأم , كيف ولدت , وكيف نمت , وكيف تطورت . فكافة الفلسفات اعتمدت على المعارف الفيزيائية ( أي المعارف المادية وغير المادية ) الموجودة لديها .
كان من الأنسب أن يقولوا " أن الفيزياء هي أم العلوم " , فغالبية المعارف والأفكار تشكلت وتم بناؤها نتيجة المعارف الفيزيائية , فالبحث عن أسس وبدايات الواقع الفيزيائي للوجود , كان دوماً منطلق تفكيرنا .
لقد كان المفكرون والفلاسفة اليونان يرون أن عناصر الوجود الأساسية أربعة وهي : التراب - الهواء - الماء - النار .
فالماء يفسر طبيعة كل الأجسام التي تتصف بالسيولة . . .
والتراب يفسر خواص كل الأجسام الصلبة التي لها ثقل وشكل ولون . .
والهواء يمثل كل الأشياء الناعمة اللطيفة . . .
والنار تفسر كل أشكال الطاقة . . .  
وباعتماد صفات أساسية أربعة هي : الحار , والبارد , والجاف , والرطب , يمكن مبدئياً أن نوضح تنوع كافة الأشياء التي نصادفها في هذا الوجود .
وقد قسم الأقدمون الواقع إلى عالمين مختلفين منفصلين :
الأول : عالم الأشياء أو البنيات المادية الملموسة التي لها حجم ووزن . .  , فالمادة هي : الشيء الممتد , القابل للانقسام , الثقيل , الذي يمكن أن يكون له أي شكل وأي لون . . .
والثاني : عالم غير مادي وهو مؤلف من البنيات غير المادية , طاقة , أو قوة , أو نار , أو النفس , أو الروح ,أو الأفكار . . .
ولم يستطيعوا أن يوفقوا بين العالمين المختلفين , فهم كانوا لا يملكون المعارف الدقيقة اللازمة لذلك .  
المادة :
لقد وضع لوسيب  و ديموقريطس  في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد مذهباً مادياً  يفسر طبيعة وأساس المادة , فهناك الفراغ , وهناك جواهر متحركة فيه , وكافة أشكال المادة تتكون نتيجة توليفات بين هذه الجواهر . ثم أتي أبيقور وطور هذه الفكرة وقال : إن الأشياء مكونة من أجسام أولية صغيرة جداً , يتحد بعضها مع البعض الآخر لتكون كافة أشكال المادة التي نراها .
أما أرسطو فرأى أن المادة نوع من ( جوهر) لن يتأتى لنا عزله أبداً , وفي هذا مفارقة , إذ توجد مادة ولكن هذه المادة في الحقيقة لا يمكن الإمساك بها , إذ ما نراه ونلمسه هو دائماً مادة اتخذت شكلاً من الأشكال , وحتى لو أجرينا تحليلاً لها , فلن نعثر على المادة " مطلقة" , وإنما على شيء له أيضاً شكل معين .
واعتقد أفلاطون أن الكون مشكل وفق بنى هندسية , إذ تمثل الأجسام الأساسية عنده بأشكال هندسية تامة مثل المجسمات , الهرم والمكعب وثماني الوجوه . . .

وفي القرن السابع عشر ظهرت الفلسفة الميكانيكية التي تعتمد فكرة أن كل ما نصادفه من أشياء يمكن تفسيره بجسيمات صغيرة متحركة ومتفاعلة مع بعضها , وتجمع وتركب مع بعضها . والفكر الميكانيكي يدين بالكثير لليونانيين , فأفكارهم أعيد تناولها مع بعض التحفظات والتعديلات ووضعت في قوالب جديدة .
فغاسيندي وكذلك ديكارت وبويل ونيوتن وغيرهم يذكرونا باليونانيين , فالواقع في نظرهم  في نهاية الأمر ليس سوى مجموعة كرات بلياردو تتحرك وتتصادم , وإن كانت نظرتهم أكثر تعقيداً , لأن ديكارت " بإعصاراته أو دواماته " في المادة لم يكن يفكر كنيوتن , فكل منهم يتحدث عن جسيمات ولكن في إطار نظريتين مختلفتين . فديكارت لم يكن يعتقد أن الجسيمات الأولية أبدية , بينما نيوتن يرى على العكس من ذلك أبدية . فضلاً عن ذلك , يقبل نيوتن أن أي جسيم يمكن أن يمارس تأثيره عن بعد على جسيم آخر , وهذا يعني عند الديكارتيين فضيحة من نوع ما , إذ أن التأثيرات بين الأجسام تتم في نظرهم عن طريق الصدمات , والواقع أن هذه الصعوبة ظلت قائمة حتى الآن , إذ كيف نسلم بأن كتلة ما تجذب عن بعد كتلة أخرى ؟
في القرن الثامن عشر جاء بوسكوفيتش بتصور جديد , فهو يرى أن الذرات التي تكون كافة أشكال المادة , هي ليست مادية , وهذه فكرة هامة جداً . فالذرات بدل أن تكون حبيبات مادية , فإنها تتخذ كنقاط رياضية أو كمراكز قوى , وكان هذا التصور تجديد في المذهب المادي . فهذه الذرات تتجاذب عند مسافات معينة وتتدافع عند أخرى , وهذا يفسر عدم نفاذيتها , إذ إن مركز القوى هذه تميل إلى التباعد عن بعضها عندما تكون متقاربة جداً .
وتصبح الذرة نقطة مثالية  تحيط بها غيمة من القوى . وهناك مفكرين حملوا وجهة نظر بوسكوفيتش محمل الجد , مثل همفري ديفي , و فرادي .
ثم عادت أفكار بوسكوفيتش إلى الظهور بأشكال أخرى في القرن التاسع عشر , إذ تكونت لدى بعض المفكرين , فكرة أن يمثلوا الذرات أو الجسمات الأولية باعاصارات في الأثير ,أي هي أثير مكثف , وليس ككرات صغيرة , أي أنها طاقة ناشئة عن مجرد حركة , وهذه الفكرة جديرة بالاعتبار , لأن الطاقة يمكن أن تأخذ مكان المادة , فبالسرعة يصبح ما لا وزن له ملموساً . ولكن يبقى السؤال مع ذلك مطروحاً : ما هو بالضبط , إعصار الطاقة هذا في حالته الصرفة ؟
في ثلاثينات القرن الماضي ، كانت الجسيمات المعروفة فقط ستة جسيمات،،هي الاليكترونات،والبروتونات، والنيترونات،والفوتونات، والبوزيترونات ، و النيوترينوات..
كان التصور أن هذه الجسيمات هي المكونات الأساسية لكل المواد الموجودة في الكون..
لكن السؤال الذي شغل بال العلماء طويلا في تلك الفترة هو: ما هي طبيعة القوة التي تربط بين البروتونات موجبة الشحنة داخل النواة ، لولا تجعلها تتنافر أبدا ، وإنما تبقيها متوحدة وقريبة من بعضها ؟ كان الجميع مقدرا في تلك اللحظات أن هذه القوة هي أقوى من أي شيء معروف في الطبيعة...

ما هي العلوم الفيزيائية ؟ وإلى أين وصلت الآن؟
هذه نظرة سريعة : أن كافة الذرات تتألف من جسيمات ذرية صغيرة مستقرة ، وهي الإلكترونات كتلة كل منها صغيرة نسبياً ولها شحنة سالبة ، والبروتونات وهي ذات كتلة كبيرة نسبياً كتلة كل منها أكبر ب (1836) مرة من كتلة الإلكترون ولها شحنة موجبة مقدارها يعادل شحنة الإلكترون ، والنيترونات كتلة كل منها تساوي تقريباً كتلة البروتون وليس لها شحنة . و كافة العناصر والمركبات والمواد مؤلفة من ذرات ، والاختلاف بينها يكون بعدد الإلكترونات والبروتونات والنيترونات فقط .
والجسيمات الذرية المستقرة قليلة أهمها الإلكترون والبروتون والنيترون و الفوتون ، فعمر البروتون المتوقع هو 10 قوة 34 سنة , أما بقية الجسيمات فتتفكك فور تكونها فعمرها بأجزاء من ألف أومن مليون من الثانية أو أقل .
وإن كل جسيم ذري مهما كان مؤلف من بنيات (أو أجزاء) صغيرة جداً هي كمات بلانك ، وهو غالباً على شكل غيمة أو غمامة تأخذ حيز معين ، وهو غالباً متحرك حركة سريعة جداً ، تقاس بالنسبة لسرعة الضوء .
و لكل جسم ذري مهما كان دوران أو لف "اسبين" وهو  دوران الجسيم حول نفسه
فنقول جسيم له اسبين نصف ,  معناه أن الجسيم يدور حول محوره نصف دورة ويرجع إلى وضعه الأصلي . والجسيمات تقسم حسب لفها إلى نوعين:  فيرميونات وهي جسيمات لها غزل نصفي، يعني 1/2، 3/2 ، 5/2 وهكذا, و بوزونات  وهي جسيمات لها غزل عبارة عن عدد صحيح، يعني صفر واحد اثنين . . .
ولكل جسيم موجة مرفقة له أو يمكن أن يظهر على شكل موجة .
وأن هناك أكثر من مائتان من الجسيمات الذرية غير المستقرة .
فكافة الجسيمات مصنوعة في جوهرها من طبيعة (أو هيولي) واحدة وهي كمات من الطاقة . ويمكن أن تتحول كافة هذه الجسيمات إلى كمات من الطاقة أو العكس تتحول الطاقة إلى أحد هذه الجسيمات .
وهناك الأمواج وهي أيضاً كمات من الطاقة , منها الأمواج أو الأشعة الكهرطيسية التي لها خصائصها ، فالضوء أحد أشكالها , والضوء ثنائي الوجه فهو مرة بوجه أو بشكل بنية فوتون ومرة بشكل موجة كهرطيسية لها تردد معين حسب لونه وحسب طبيعته . وهناك الأمواج أو الأشعة النووية ، والأشعة الكونية . وكافة الأمواج الكهرطيسية والنووية تسير بسرعة هائلة هي سرعة الضوء .
وإن الذي ينشئ البنيات الفيزيائية هو القوى التي تتعرض لها عناصرها ، فكافة أنواع الذرات تتكون نتيجة القوى الكهرطيسية والنووية ,  وكافة أنواع نويات الذرات تتكون نتيجة القوى الذرية القوية .
أما كافة أنواع المجرات والنجوم والكواكب والأقمار فهي تتكون نتيجة القوى الثقالية أو الجاذبية النيوتونية ، ولولا وجود هذه القوّة لما تشكلت المجرات والنجوم أو الشموس والكواكب والأقمار .

نظرية الكم
نظرية الكم تحاول أن تفسر كافة البنيات والظواهر الفيزيائية بناءً على أنها حركة وتفاعل لهذه الكمات الصغيرة , فلا يوجد أي شيء في الوجود إن كان مادة أو طاقة إلا وهو مؤلف من كمات بلانك .
والكم لا نستطيع تحليله إلى بنيات أصغر منه , ومن هذه الكمات تتكوٌن الكواركات واللبتونات , ومن الكواركات تتكون الجسيمات الذرية وهي أكثر من مائتين منها البروتونات والنيترونات . وأنه يمكن حساب نتائج أي تفاعلات فيزيائية  بالاعتماد على نظرية الكم ( بصورة احتمالية ) باستعمال الرياضيات المتطورة .
وقد نجحت هذه النظرية في تفسير غالبية الظواهر الفيزيائية .
فمن حركة البنيات الذرية الأولية تتكون المجالات و السيالات , وبالتالي القوى الأساسية الأربعة , الجاذبية أو الثقالة , القوى الكهرطيسية , القوى النووية الضعيف , القوى النووية القوية . ولكل قوة جسيمات يتم التبادل بها أو حوامل القوة , وهي :
نواقل القوة الكهرومغناطيسية :الفوتونات
نواقل القوة الضعيفة :البوزونات المتجهة ،أو البوزونات الضعيفة W+,W-,Z ...
نواقل القوة القوية : الغليونات
وكذلك تتكون الكتلة والشحنة و الاسبين من تفاعل الكمات مع بعضها بطرق معقدة لم تتضح بعد .

وهناك عدت نظريات تحاول إرجاع كافة القوى في الطبيعة إلى أصل واحد . وبهذا تتوحد كافة القوانين الفيزيائية في نظرية واحدة متماسكة يمكن أن تعتبر نظرية " كل شيء " , يمكنها في نظرهم , تفسير أي شيء أو أي حادثة في هذا الوجود .

وكذلك تعرض نظرية 'النموذج المعياري' Standard Model توصيفاً كاملاً لمكونات الكون وهي :
تتكون كل المواد حصرياً من 12 جسيم أساسي: ستة 'كواركات' QUARKS وستة 'لبتونات' LEPTONS. وجسيم ضد لكل جسيم من هذه الجسيمات. المجموع: 24 جسيماً دون ذري.
هذه الجسيمات كافية تماماً لتشكيل كل شيء.
* الكواركات الستة أعطيت الأسماء التراجيدية التالية:
1 أعلى UP.
2-  أسفل DOWN.
3 -  غريب STRANGE.
4 -  سحر CHARM.
5 - قمة (أو حقيقة، سابقاً) TOP.
6 - قاع (أو جمال، سابقاً) BOTTOM.
* اللبتونات الستة هي:
1 الإلكترون ELECTRON.
2 - الميون MUON.
3 - التاو TAUON.
4 - نيوترينيو الإلكترون ELECTRON NEUTRINO.
5 - نيوترينيو الميون MUON NEUTRINO.
6 - نيوترينيو التاو TAUON NEUTRINO.
* لكل جسيم من الجسيمات السابقة جسيم ضد.
* الإثنى عشر جسيماً الأساسية السابقة تسمى: فيرميونات Fermions.
وإن كل الجسيمات المعروفة -باستثناء جسيمات الحقل- يمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسيين اعتمادا على تفاعلها :
1 - الهدرونــــــــــــــــــات
تتميز الهدرونات بأنها تتفاعل مع بعضها عن طريق كل القوى الرئيسية الأربع، ومن أهم مميزاتها :
أنها جسيمات غير أولية ، بمعنى أن لها تركيبا ما معينا ، أي مكونة من (جسيمات) ابسط منها , و لها حجم يمكن قياسه وتقديره ومعرفته..
و الهدرونات بشكل عام تقسم إلى قسمين رئيسين :
الأول الميزونات : وهي الجسيمات التي ويمكن تميزها بما يلي:
غزلها صفر أو أي عدد صحيح
كتلتها على الأغلب أكبر من كتلة الإليكترون واقل من كتلة البروتون
لكن هذا لا يعني أن كل الميزونات تقع ضمن هذه الأوزان، فهناك الكثير من الميزونات لها كتلة اكبر من ضعفي كتلة البروتون أو تعادلها..
تتفكك كل الميزونات الموجودة في الطبيعة لتعطي في النهاية أحد أو بعض أو كل الجسيمات التالية :إليكترون ، بوزيترون، نيترينو أو فوتون..
أهم المميزات الباقية الميزونات هو أنها غير مستقرة على الإطلاق،،فعمر النصف لها لا يتجاوز 2.6×10^-8 ثانية فقط...
والثاني هو الباريونات : وهي جسيمات لها كتلة اكبر أو تساوي كتلة البروتون ، ولها صفات عديدة أهمها:
على عكس الميزونات، تملك الباريونات غزل نصفي ، يعني 1/2، 3/2وهكذا...
أيضا الباريونات لها شيء جميل من اسمها ،  يعني كل الباريونات (ما عدا البروتون) تتحلل إلى بروتون في النهاية
2 - الليبتونـات
الليبتونات من الاسم الإغريقي ليبتون ، وتعني صغير أو خفيف ،
هذه الجسيمات على عكس الهدرونات ،  لا تدخل في القوى النووية القوية و إنما في القوى الثلاث الباقية , و لها جميعا غزل يساوي 1/2...
تتميز بأنها جسيمات أولية تماما ، يعني لا تركيب داخلي لها على عكس الهدرونات التي تتركب من كواركات..
أيضا لها حجم لها ملموس يمكن قياسه
على عكس الهدرونات التي يقدر عددها بالمئات ، فإن الليبتونات عددها صغير ومحدود ، وهناك ستة لبتونات معروفة فقط وهي (على شكل أزواج ):
الإليكترون و نيترينو الإليكترون .
ثم الميون و نيترينو الميون .
وأخيرا التاو ,  و نيترينو التاو .
و كل ليبتون له مضاد ، والعدد  أضحى 12 ليبتون

أننا باعتماد البنيات والقوى الفيزيائية , كمنطلق لتفسير أي شيء في الوجود , نجد :
أنه من تفاعل البنيات الفيزيائية الأساسية الإلكترون والبروتون والنيترون نتيجة القوى الكهرطيسية والنووية ، تكونت ذرات كافة العناصر الكيميائية .
ومن ذرات العناصر الكيميائية تكونت كافة المركبات الكيميائية بكافة أشكالها العضوية وغير العضوية .
ومن هذه المركبات الكيميائية تكونت البنيات الحية البسيطة جداً ثم وحيدات الخلية البسيطة وهي نباتية وحيوانية ، ثم الكائنات الحية كثيرة الخلايا ثم الفقريات وغيرها ثم الثدييات ثم الرأسيات ثم البشر .
وقد شكل البشر بعد أن ملكوا الكثير من القدرات الجسمية المناسبة بالإضافة إلى عقل متطور استخدم اللغة المحكية ، البنيات الاجتماعية ,  والبنيات التكنولوجية البسيطة مثل السكين والفأس والرمح والمحراث . . ، وكذلك كونوا البنيات الثقافية المتطورة بعد أن تشكلت اللغة المكتوبة ، وتكونت الحضارات والبنيات السياسية والاقتصادية ، ثم البنيات التكنولوجية المتطورة ، القطارات والطائرة والمصانع والآلات . . . ، ثم تكونت البنيات الإلكترونية التي تطورت وكونت العقول الإلكترونية .
لكن هناك سؤال : هل كل شيء يمكن إرجاعه إلى أسس فيزيائية ، والقوانين الفيزيائية تنطبق عليه ؟
كان الفيزيائي الشهير" فينمان " يؤكد بشدة أن كل ما تفعله الكائنات الحية يمكن للعناصر الفيزيائية أن تقوم به , ووجهة نظره هذه تدعى بالاختزالية : أي يمكن اختزال كافة ما نشهده من بنيات في الوجود , و إرجاعها إلى أسس فيزيائي .
فهي تقر أن المتعضية الحية ليست سوى بنية فيزيائية معقدة . ونجاح البيولوجيا الحديثة يبرهن على صلاحية هذه النظرة .
ولكن في واقع الأمر هناك دائماً أناس , وحتى علماء , لا يقبلون بوجهة النظر هذه , إنهم يقرون بأن الكائن الحي والإنسان  مكون من بنيات فيزيائية ولكنها عندما تصبح ضمنه , تكتسب خصائص جديدة .

في النهاية نقول : إن ما يقوم به علماء الفيزياء هو صياغة " نظريات " فعالة ومجدية تساعدنا على فهم وتفسير كثير من الأمور , أي نظريات عالية الدقة في انطباقها على الواقع وتمكننا من التنبؤ للكثير من الأمور بدقة عالية جداً , ولكنها ليست رؤيا مباشرة وحقيقية وتامة للواقع .
فهؤلاء العلماء يتحدثون عن جسيمات , وأمواج , وطاقة ,  وكتلة , واسبين . . .  وهذا يساعدهم على تفسير الكثير من الأمور والتنبؤ العالي الدقة .
ولكن تبقى مفردات العلم و نماذجه النظرية هي دوماً نوع من التشبيهات أو الاستعارات , ولا يحق لنا أن نخلط بينها وبين الواقع الحقيقي نفسه , لأنه سوف يبقى مستعصي علينا الإحاطة به بشكل كامل ومطلق .

صفحات: 1 2 [3]