العرب وكيمياء الذهب
( المثلّث الذهبي )
1- نشأة عِلم الصنعة ( الكيمياء ) / سياحة في تأريخ الكيمياء :
يقول بعض المؤرخين والباحثين (1) إنَّ علم الكيمياء كان قد نشأ أول مرة في مصر القديمة ( الفرعونية ). وواصل هذا العلم نهجه ومسيرته من ثُمَّ في مدينة الإسكندرية أيامَ أنْ حكمَ اليونان والرومان مصر. وإستمرت شهرة مدرسة الإسكندرية حتى الفتح الإسلامي لمصر عام 624 الميلادي.
يرجع تأريخ الكيمياء (1) (( إلى نحو ثلاثة آلاف أو يزيد من السنين قبل الميلاد. وأنَّ الحضارات التي يُستوحى منها شيء عن الكيمياء وكيفية نشوئها كانت حضارة مصر القديمة، حيث نشأت صناعات عديدة أهمها صناعة التعدين وعلى الأخص تعدين المعادن الثمينة وفي مقدمتها الذهب وكان يقومُ بها الكهنةُ داخل المعابد حِفْظاً على أسرارها )).
لذا لا نستبعد أن تكون كلمة كيمياء مشتقة أصلاً من الكلمة المصرية القديمة " كَمي أو خَمي " التي تعني التراب الأسود (2). أو كما يقول باحثون آخرون أنها مشتقة من " كيم أو كِمْتْ " المصرية القديمة التي تعني التربة السوداء (3).
يقول إبن النديم في الفهرست (4) ((… زعم أهل صناعة الكيمياء وهي صناعة الذهب والفضة من غير معادنها أنَّ أولَ من تكلم على علم الصنعة هرمس الحكيم البابلي المنتقل إلى مصر عند إفتراق الناس عن بابل. وكان حكيماً فيلسوفاً وأنَّ الصنعة صحّتْ له وله في ذلك عدّة كتب. وقد قيل إنَّ ذلك قبل هرمس بأُلوف السنين على مذهب أهل القِدَم )). وفي موضع آخر قال إبن النديم (5) ((والكتب المؤلفة في هذا الشأن- الكيمياء - أكثر وأعظم من أنْ تُحصى لأنَّ المؤلفين لها تنحّلوها عنهم. ولأهل مصر في هذا الأمر مصنِّفون وعلماء. والبرابي المعروفة وهي بيوت الحكمة وماريّة القبطية من بلاد مصر )).
لكن إبن النديم (5) يعود ليقول ((… وقيل أنَّ أصل الكلام في الصنعة للفُرْس الأُوَل. وقيل أول من تكلّمَ عليه اليونانيون وقيل الهند وقيل الصين والله أعلم )).
أما " تيلر " الذي تكلّمَ عن صناعة الإكسير الذي يُطيل الحياة، وهو أمر يدخل في صميم صناعة الكيمياء، فقد قال (6) (( …إنَّ موضوع إكتشاف إكسير الحياة فكرة موجودة في الأدب الهندي قبل الميلاد بما يزيد على الألف سنة. وربما إنتقلت إليهم هذه الصنعة عن طريق الصين. إذ إهتمَّ الصينيون بتحويل المعادن الخسيسة إلى معادن شريفة منذ القرن الرابع قبل الميلاد. إلاّ أنَّ إهتمامهم الأكبر كان نحو إكتشاف إكسير الحياة الذي يُطيلُ العمر )).
لقد أكثر الباحثون في تأريخ الكيمياء من ذكر هرمس فأطلقوا عليه لقب الحكيم البابلي مرّةً، وهرمس المثلّث بالنعمة والمثلت بالحكمة وهرمس الهرامسة مرّاتٍ أُخَرَ. كما يعتبره صابئة حرّان المندائيون أحد حكمائهم المقدسين ويطلقون عليه إسم الكوكب عطارد. وله هيكل في حرّان على شكل مثلّث في جوفه مربع مستطيل (7). ويحسبون أن هرمس هذا هو إدريس (أو إخنوخ ) الذي يشغل الموقع السابع في تسلسل ذرية آدم طبقاً لسفر التكوين من العهد القديم (
. فإذا ما كان الأمركذلك فلسوف يختلف هذا الهرمس
( إدريس ) عن الحكيم البابلي والكيمياوي القديم هرمس الذي هاجر إلى مصر بعد تفرّق الناس عن بابل ( قبل أو بعد الميلاد ؟؟ !! ). وعن هرمس هذا يذكر إبن النديم في الفهرست (9) أن الفيلسوف يعقوب بن إسحق الكندي كان قد إطَّلع على كتاب يُقرُّ به الحرنانيون الكلدانيون المعروفون بالصابة ( الصابئة الحرانيون )، وهو عبارة عن مقالات في التوحيد كتبها هرمس لإبنه. وأن مشاهير وأعلام هؤلاء القوم (9) هم " أراني وأغاثاذيمون وهرميس وبعضهم يذكر سولون جد أفلاطون الفيلسوف لأُمّهِ ". أما البيروني (10) فيتطرق هو الآخر إلى ذكر الصابئة الحرّانية الذين ينتمون إلى آنوش بن شيث بن آدم
(( الذين هم بقايا أهل الدين القديم المغربي البائنون عنه بعد تنصّر الروم اليونانيين، وينتسبون إلى أغاذيمون وهرمس وواليس ومابا وسوار ويتدينون بنبوّتهم ونبوّة أمثالهم من الحكماء…)).
إذن فهرمس الحكيم التوحيدي هذا والنور الروحاني الخالص - حسب معتقدات الصابئة المندائية - ومن ثم الكيمياوي المعروف لشديد الإرتباط بالصابئة ( المندائيين ) بفرعيهم البابلي والحرّاني. قد لا يكون الرجل بالضرورة مندائياً، لكنه ربما كان حنيفياً وغنوصياً ومن ثم تأثر بعد هجرته إلى مصر بأقباطها ولاسيما(الشيثيين منهم، أتباع شيث إبن آدم ). عندئذٍ سوف لن يكون هرمس هذا هو هرمس الذي ترك موطنه بابل عند تفرّق الناس عنها.
يزيد الأمر تعقيداً ما ذكره إبن النديم (4) ((… ذِكرُ هِرمس البابلي : قد أُختلفَ في أمره، فقيل إنه كان أحد السبعة السدنة الذين رُتِبوا لحفظ البيوت السبعة. وأنه كان إليه بيت عطارد وبإسمه يُسمّى. فإن عطارد باللغة الكلدانية هرمس. وقد إنتقل إلى أرض مصر بأسباب وإنه ملكها وكان له أولاد عدّة، وإنه كان حكيم زمانه )).
في كتابه تأريخ الأدب العربي (11) يذكر كارل بروكلمان أهل مدينة حَرّان الساميين الوثنيين وتأثرهم بدين هرمس وبالحضارة الأكدية التي إزدهرت في جنوب العراق بعد الحضارة السومرية. ((… ووجد العلم اليوناني موطناً ثالثاً في مدينة حرّان بأرض الرافدين. كان سُكّانها على الرغم من البيئة المسيحية الخالصة التي حولهم قد إحتفظوا بوثنيتهم الساميّة القديمة التي تأثرت بدين هرمس تأثراً قوياً. وقد إزدهرتْ فيها بخاصة الدراسات الرياضية والفلكية التي أنبتتها الحضارة الأكدية من قبلُ ثم رعتها الحركة الهلينستية )).
قبل أن أُنهي جولتنا في بطون الكتب ومجاهل تأريخ الكيمياء لا أرى بأساً من إضافة معلوماتٍ أُخَرَ عن حكيم بابل هرمس : قال إبن النديم (12) (( إنَّ الضحاك بن قي بنى بأرض السواد ( بلاد ما بين النهرين، العراق ) مدينة إشتّقَ إسمها من إسم الكوكب المُشتري فجمع فيها العلم والعلماء وبنى فيها إثني عشر قصراً على عدد بروج السماء وسمّاها بأسمائها وخزّنَ كتب أهل العلم وأسكنها العلماء. ثم بنى سبعة بيوت على عدد الكواكب السبعة، وجعل كل بيت منها إلى رجل فجعل بيت عطارد إلى هرمس…، وكان فيها عالم يُقال له هرمس، وكان من أكملهم عقلاً وأصوبهم عِلماً وألطفهم نظراً فسقط إلى أرض مصر فملك أهلها وعمّرَ أرضها وأصلح أحوال سكانها وأظهر علمه فيها. وبقيَ جُلُّ ذلك وأكثرهُ ببابل إلى أن خرج الإسكندر ملك اليونانيين غازياً أرض فارس من مدينة للروم يُقال لها مقدونية)).
فهل كان هرمس البابلي النازح إلى مصر معاصراً للأسكندر المقدوني ؟؟ وإذا ما كان الأمر كذلك، أيجوز التكهن أن الإسكندر حين فتح العراق وزار بابل كان قد أغرى هرمس، حكيم بابل، أن يرحل إلى مصر لكي ينشر دينه وعلمه في أوساط المصريين والجالية الإغريقية هناك ولا سيما في مدينةالإسكندرية التي تحمل إسمه ؟؟ توفي الإسكندر في بابل عام 323 قبل الميلاد. ( يُراجع حول هذا الموضوع الفصل الخامس من المصدر الثامن ).
يُدرِج إبنُ النديم (13) قائمةً بأسماء كتب هرمس ( في الصنعة ) كما يلي :
كتاب هرمس إلى إبنه في الصنعة. كتاب الذهب السائل. كتاب إلى طاط ( إبن هرمس ) في الصنعة. كتاب عمل العنقود. كتاب الأسرار. كتاب الهاريطوس. كتاب الملاطيس. كتاب الأسطماخس. كتاب السلماطيس. كتاب أرمينس تلميذ هرمس. كتاب نيلادس تلميذ هرمس في رأي هرمس. كتاب الأدخيقي ( كذا ورد في الفهرست ). كتاب دمانوس لهرمس.
2 - هرمس وقراطس
يُعلّق الأستاذ الدكتور محمد يحيى الهاشمي (14) أهمية كبيرة على كتاب يدعوه ( كتاب القراطيس ) الذي نقله هوداس Houdas إلى اللغة الفرنسية ونشره برتلو في كتابه عن الكيمياء في القرون الوسطى M . Berthelot (( La Chimie au Moyen, Tom 111,Paris 1893 )).
ويقول ((…وكنا نتمنى الحصول على الأصل العربي لنتبينه وندرسه لأنه في زعمنا من الوثائق الهامّة في تأريخ الكيمياء العربية. ويغلب على ظننا أنه المصدر الأول لهذا العلم في هذا الجزء من العالم )).
لحسن الحظ إستطعتُ الحصول على نسخة مصوّرة من هذا الكتاب فإكتشفتُ أن إسمه
- خلافا لكل ما هو معروف عنه – ليس " كتاب القراطيس، جمع قرطاس " وإنما هو
" كتاب قراطس الحكيم ". وقراطس هو إسم شخص يُكتب باللغة الألمانية .KRATES وهذا الإسم كما هو معلوم ليس غريباً على أسماء الإغريق. فنحن نعرف
مثلاً ديمقراطس أو ديمقريطس ( ديمو- قراطس ) ونعرف أبوقراط ( أبو قراطس ) ثم
سقراط ( سقراطس ) وغيرها.
ماذا عن هذا الكتاب الذي يحمل إسم (كتاب قراطس الحكيم ) وما علاقته بموضوع هرمس الحكيم ؟ سأنقل عن المصدر (14) ما يلي ((… مما يقوّي زعمنا بأنَّ الكيمياء عُرِفتْ في القرن الثامن الميلادي الدراسة التي قام بها روسكا Julius Ruska عن علاقة الأمير خالد بن يزيد بن معاوية الأموي بالكيمياء في كتاب نشره بعنوان " كيميائيو
العرب " الجزء الأول، هايدلبرغ 1924 ، ذكر فيه إسم كتاب " القراطيس " قد تُرجِم من اليونانية إلى اللغة العربية… )). كما يذكر نفس المؤلف في موضع آخر (15) ما يلي ((… كان يعيش في الإسكندرية راهب يُدعى " ماريانوس " كان يشتغل في الكيمياء، وقد سمع به الأمير العربي خالد بن يزيد وإستدعاه إلى دمشق ليتعلم منه الصنعة، وبعد أخذ ورد قَبِلَ هذا الراهبُ المجيء إلى سوريا ليُعلِّمَ خالد الكيمياء، وقام في ترجمة عدة كتب إلى اللغة العربية )).
في مصدر آخر (16) نقرأ ما يلي ((… ويؤيد ذلك إبن خلّكان في كتابه وفيات الأعيان، فيذكر بأن خالد كان مُتضلعاً في الكيمياء والطب وله رسائل تدل على ذلك، وأخذ الصنعة عن رجل من الرهبان يُقالُ له مريانوس الراهب الرومي…)).
هل نستطيع الإستنتاج أن الراهب الرومي ماريانوس هذا هو من قام حسب طلب خالد بن يزيد بترجمة " كتاب قراطس الحكيم " من اليونانية إلى العربية ؟ وما علاقة الكتاب بهرمس ؟ الملاحظات التالية تُلقي الضوء على الكثير من الأمور البالغة الدلالة (17):
2-1 يبدأ الكتاب بالبسملة (( بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إهدنا برحمتك )) ثم يقول (( الحمد لله وله المنّة وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله، هذا فسطار مصر أول من دعا له بالإمرة ثم قال قد بلغني أن الأمير يذكرُ أنه بلغه أنني لم أزل متعيناً بالعمل وأنني قد جمعتُ ما لم يجمع أحد مثله من أهل زماننا…)).
ما معنى " فسطار مصر " ؟ وهل ذكرَ المترجم ماريانوس الرومي البسملة والحمد مجاملة لخالد بن يزيد المسلم ؟ وهل هو المقصود بالأمير ؟ جائز، لأنَّ مترجم هذا الكتاب يعود فيذكر على آخر صفحة من الكتاب ( الصفحة 33 ) ما يلي ((… فلّما قرأ خالد بن يزيد الكتاب كتبَ إلى الفسطار يُعلِمه أنْ قد بعث إليه بكتاب كان مقروناً في خزانة الكنوز مع كتاب قراطس ويُعلِمه أنَّ هذا الكتاب موجزاً قليلاً ( هكذا وردتْ ) فإنَّ فيه منافع كثيرة ودليل على كثير من سرِّ الحكمة )).
هل أنَّ أمير مصر يومذاك عبد العزيز بن مروان هو الفسطار ؟
لقد وقف جوليوس روسكا وقفة طويلة لدى كلمة فسطار ( المصدر 21 الصفحات 21 و 13 ) فحاول ردها إلى فسطاط بدل فسطار ووضع مقابلها باللغة اللاتينية Fustat = Fossatum .ثم حاول أن يجد لها نظيراً بلغة أخرى بعد أن قلب حرف الفاء في فسطار إلى حرف القاف لتصبح قِسطار أو قُسطار التي ربما تكون، بزعمه، Quaestor التي تعني باللغة الرومية – البيزنطية موظف الشؤون المالية التي بقيت مُتداولة لفترة طويلة بعد حكم العرب. يُشير روسكا في حاشية الصفحة 13 إلى مؤلف كتاب " الكلمات الآرامية الغريبة في اللغة العربية ".
2-2 يظهر أن المتكلم في بدايات الكتاب هو نفسه المترجم ماريانوس. وإن قراطس مؤلف الكتاب قام بتأليفه أيام أن كانت مصر وثنية قبل أنْ تتنصر. هناك بعض الأدلة على ذلك في الكتاب نفسه ((… بعثتُ إليك بكتاب – قد يكون المخاطب هو خالد بن يزيد – لو وقف عليه الأولون من كتبي من الحكمة لضنوا به لأن الحكماء كلهم لم يضعوا مثله ولا بذلوا من الحكمة مثل الذي بذلوا منه فكان مضنوناً به مسروراً به فما وصلت إليه الجماعة ولا أكثر الخاصة في رضى الخلفاء حتى ظهرت النصرانية وكان من حديثه وأمره أنه كان يُسمّى كنز الكنوز وكان مصحفه من كتب كنوز الحكماء كانت تُكنز لآلهتهم وكان أعظم آلهتهم صنماً كان بالإسكندرية يُدعى بهذا. وكان بالإسكندرية فتى لبيب يتّبع الحكماء وكان يقال له ريسورس وكان من أصبح الناس وجهاً وأقومهم قامةً وأتمهم عقلاً فتلطّفَ لجارية من خدم رأس الكهّان في هيكل سرافيل يُقال له أثينة. وكان هذا الكاهن يُقال له أفسطليوس حتّى إستهواها وتزوجها وأظهرتْ له الكتب وغيرها من أسرار الحكماء فلمّا بلغهم قسطنطين الكبير برومية سرَقَتْ كتب سراوندين وهذا الكتاب الذي بعثتُ به إليك معها وهربتْ معه فمرّا جميعاً حتى ظهرتْ النصرانية بالشام ومصر فهذه قصته ثم لم تزلْ الملوك تُطنب في هذا الكتاب إلى أن جاءت دولة العرب. قال وقد وصل إليَّ وبعثنا إليك بالمصحف وأمرتَ به على غير تبديل ولقد أردتُ أنْ أدعو له بالمترجم فلبّا ثم ذكرتُ ما هو أفصح بالرومية والعربية في تبع الكلام وتأليفه فتركتُ وأُيدتُ بروح القدس حتى بلّغتُكه وتبلَّغَته )).
الكتاب إذن موضوع قبل الميلاد، ولكن متى تم تأليفه على وجه الدقة ؟ الإجابة عن هذا السؤال عسيرة المنال.
2-3 الكتاب هو محاورات حول مسائل الكيمياء وسواها على شكل أسئلة يطرحها قراطس ويُجيب عليها هرمس الذي يسميه هرمس المثلّث بالنعمة ( الصفحة الثالثة والصفحة 33 ) وهذا يخاطب قراطس ب ( يا قراطس السماوي، الصفحة السابعة ).
2-4 تكون لقاءات قراطس مع هرمس المثلث بالنعمة أما عن طريق الرؤيا أو خلال نعاس النوم أو في الأحلام. يقول قراطس على الصفحة 18 من الكتاب ((… فبينا أنا أُكلّمهُ وأسأله أن يزيدني في كتابي هذا تلخيصاً وتبييناً إذ غلبنتني عيني بعد غيبوبة الشمس فرأيتُ فيما يرى النائم أنني في سماء أخرى وفلك آخر ولكن أُريد محراب أفطوس وهو من ألوان النار فلّما دخلتُ المحرابَ من بابه الشرقي فرأيتُ في السموات آنية كثيرة من ذهب لم أرَ سجدَ لها أحدٌ إلاّ صنم الزهرة وهو الصنم الذي كانوا يُصلّون له في ذلك المحراب فقلتُ من هذا الذي عمل هذه الآنية فقال الصنم عمله رصاص نحاس الحكيم وإعلمْ يا قراطس …فقلتُ لفلك الزهرة…)).
ونقرأ على الصفحة العاشرة من كتاب قراطس الحكيم ((… فلمّا فهّمني هذا من قوله غاب عنّي فرجعتُ إلى نفسي وصرتُ كالمستيقظ من نومه مُتفجّعاً رصيناً قد غلبني
( هكذا وردتْ ) شدّةُ أمرين أحدهما دفعه إيايَ عن وضع كتابي على ما كنتُ عزمتُ عليه والآخر أنه لم يتم قوله حتى توارى عني…)).
وعلى الصفحة رقم 30 نقرأ ((… فغلبتني عيني وتاركمت عليَّ الهموم فنمتُ فرأيتُ كأني على شاطيء النيل على صخرة مُشرِفة وإذا أنا بشاب جسيم يُقاتلُ التنّين فوثب الشاب إلى التنّين …)).
2-5 الزهرة هي مرة إمرأة ولها بيت دخله قراطس عدة مرات (من هي هذه الزهرة ؟ ) ورآها في وسط المحراب بجمال لا يوصف وعليها كثير من الحلي وأنها طلبتْ منه مرّةً أن يحلف بحقها. وهي صنم مرةً أخرى ولها فلك ولها وزير هو كاهنٌ هندي… الصفحات 18 و 19.
2-6 ما معنى هرمس المثلث بالنعمة وهل لمُثلّث هرمس علاقة بالثالوث المسيحي : الأب والإبن وروح القدس ؟ هذا يخالف الفرض السابق من أنَّ هرمس كان قد عاش قبل الميلاد. أو أنَّ الروم المتنصرين ( ومنهم مترجم الكتاب ماريانوس ) هم من أطلق عليه هذا الإسم. أم أنَّ في ذلك إشارة لهيكل عطارد ( هرمس ) الذي هو على شكل مُثلّث في جوفه مربع مستطيل (7) ؟
2-7 ورد في الكتاب إسم ديموقراط خمسَ مراتٍ. ورد مرة واحدة بشكل ( ديمقراط ) وأربعَ مرات بشكل ( دومقراط ). ذكره هرمس ثلاث مرّاتٍ كمصدر ومرجِع، وذكرته الزهرة مرة واحدة، كما رجع قراطس إليه مرة واحدة أيضاً.
2-8 في الكتاب أخطاء لغوية وأخرى نحوية. لكنَّ السرد محبوك بشكل يُلفِتً النظر. وربما يُعطي الإنطباع بأنَّ الكتابَ موضوعٌ أصلاً بالعربية وليس مُترجماً. أضف إلى ذلك ما ورد في المصدر (14) (( … وحسب دراسة المصادرالتي قام بها روسكا ومقارنة الترجمة بالأصل اليوناني ووجود بعض أسماء عُرِفتْ فيما بعد، إستدلَّ روسكا أنَّ هذا الكتاب لم يُترجمْ في عهد الأمير خالد بن يزيد بل تُرجم بعد قرن من الزمن…)).
قد يتبادر إلى الذهن سؤال مفاده : هل كانت اللغة العربية معروفة في مصر قبل دخول العرب المسلمين إليها ؟ وكيف ضبط هذه اللغة الجديدة على مصر رجل روميٌّ فقام خلال سنيِّ حُكم الخليفة عبد الملك بن مروان ( 65 – 86 للهجرة ) بترجمة كتاب لخالد بن يزيد موضوع أصلاً باليونانية ؟
2-9 هل في هذا الكتاب ثمَّةَ ما يمتُّ للكيمياء بصلة ؟ الجواب نعم ولا !!
في الكتاب تأكيد على أمور غاية في الأهمية بالنسبة لأي تفاعل كيميائي،كضبط أوزان المواد المتفاعلة حسب ما يُسمّى الآن بقانون النسب الوزنية الثابتة في التفاعلات الكيميائية.
وفيه تأكيد على ضبط درجات الحرارة ( النار ) اللازمة لإجراء التفاعلات الكيميائية. ويقسمها كتاب هرمس إلى ست درجات ( مراتب ) هي : نار يسارة ( أي يسيرة ) ورماد وجمر ولهب دانٍ ولهب وسط ولهب شديد. لم ترد إلاّ إشارات ملتبسة ومرتبكة فيما يخص الزمن اللازم لإتمام إي تفاعل كيميائي. يقول هرمس ( الصفحة 23 ) ((… وأما الأيام فإنَّ أبارنحاس الذي فيه السر كله فإنه يكون في يوم أو بعض يوم وسأذكر الأيام الذي ( كذا وردت ) يكون فيها تمام السم والأكسير في المُستأنف في موضعها …)). ترد في الكتاب كثيراًكلمتا أبار النحاس كأحد المركبّات الكيميائية. والمعنى غامض، ما هو تركيب هذا المركب ؟ لا أحد يعرف بالضبط ما هو.
وأمر آخر يسترعي الكثير من الإنتباه وهو قول هرمس ( الصفحة 28 ) ((… ينبغي للحكيم أن يعلم قبل كل شيء وقبل أن يضع يده في هذه الصنعة الكريمة أيكونُ أم لا ومن أي شيء يكونُ وكيف يكون…)). يقصد على ما يبدو الإكسير.
وردت في الكتاب أسماء بعض العناصر الكيميائية المعروفة مثل النحاس والكبريت والزرنيخ والرصاص والزئبق والذهب. وأسماء لبعض المركبات الكيميائية وهي أسماء غير متداولة في عصرنا مثل المُرتُك والإسفيداج والسيلقون والتوتياء والمرداسنج والمغنيسيا والإقليمياء. ( في المصدر الثاني تفسير هذه الأسماء ورموزها الكيميائية ). كما أنَّ في الكتاب ذكراً لمركّبات أخرى مجهولة التركيب الكيميائي مثل الزاووق والكبريّة. إستخدم هرمس الزاووق لتبييض النحاس، فهل هو سبيكة الرصاص والقصدير التي كانت إلى عهد قريب تستعمل من قبل الصفّارين في بلداننا لتبييض قدور وآنية النحاس ( الصِفْر ) ؟ لقد إستخدم المؤلف هذه السبيكة لصهر الذهب ذي درجة الإنصهار العالية. فهذه السبيكة المنصهرة من شأنها أن تُخّفِضَ درجة إنصهار الذهب الأمر الذي يوفّر على الكيميائي الجهد والوقود والوقت. نقرأ على الصفحة 11 ((… فقلتُ له وكيف ذلك وقد ذكرت الحكماءُ الزاووق شيء وحده يُبيّض النحاس فقال إنما ينبغي أن يقولوا إنَّ الزاووق يُبيّض لأنَّ الأجساد قوية على النار لا تأبقَ ( لا تتبخر ) منها…)).
أسوقُ أُنموذجاً واحداً لتفاعل كيميائي قام هرمس بشرحه لقراطس على الصفحة العاشرة من الكتاب : ((… خذ المعادن بأوزانها وإخلطها بالزاووق ودبّرها حتى تصيرَ سُمّاً نارياً وهذا الذي نُسمّيه أبار النحاس فإذا إحترقتْ الأجسادُ وثبُتتْ سمّيناها كبرية يابسة وعند ذلك يصير الذهبُ… ويصبغ الورق ذهباً ولسنا نعني ورق العامّة ولكنْ ورق تركيب الحكماء الذي سميناه ورقاً فإذا أعدنا عليه بقيّة السم صبغ الذهب وليس بذهب العامّة ولكنْ تركيبنا الذي إحمارَّ ( أي إحمرَّ ) فسميناه ذهباً…)).
ماذا يفهم الكيميائي من هذا الكلام المُلغّز والذي يبدو ضرباً من الهلوسة والتخبط وخزعبلات أطفال ؟؟ لا شيء.
في الكتاب الكثير من هذه الشعوذة والدعابات غير المسؤولة لكني سأكتفي بإيراد نموذج ثانٍ فقط. في حوار آخر يجري بين قراطس وهرمس يقول هرمس ((… ينبغي أن نُبيّنَ كم من مرّة يُعادُ الزاووق في الأجساد فقلتُ له فقلْ دام صلاحك فقال إنَّ القدماء قالوا إنَّ الرصاصَ بالكبرية فهذه التشوية الأولى وقال شوّهِ مع الزاووق فهذه التشوية الثانية وقالوا أُرددْ الصفائح في المرق ليخرجَ وسخها فهذه الثلاثة ( يقصد الثالثة ) وقالوا إسحقْ الزيبق فهذه الرابعة وقالوا إسحقوا بالعسل فهذه السادسة وقالوا إسحقْ عُزّى الذهب ببول العجل فهذه السابعة…)).
ماذا يفهم القاريء من هذا الكلام أكان القاريء كيميائياً أو غير كيميائي ؟؟؟ مَرقٌ وبول عجلٍ وعسل !!!
2-10 أخيراً لا بدَّ من وقفة جادة عند موضوع على درجة كبيرة من الأهمية : أقصد الربط القوي المحكم بين الإنسان والطبيعة. ففي الكتاب مقارنات بين المعادن والإنسان. فعلى الصفحة التاسعة نقرأ قول هرمس ((… إجعلْ الأجساد لا أجساد واعلمْ أن للنحاس نفس وروح وجسد ( كذا وردت ) كالإنسان …))
كما أنه يجعل عملية إعداد الإكسير كيميائياً بل وحتى عمليات ذوبان المعادن والمركبات ببعضها شبيهة بعملية خلق الإنسان. نقرأ على الصفحة 14 ((… لأنَّ المركب هو مركبان إثنان كل واحد منهما مركب مثل الرجل والإمرأة مركبة فإذا إجتمعا وتزاوجا أخرج اللهُ من بينهما ولداً وذلك للشهوة التي جعل الله بينهما فلزم بعضُها بعضاً وفرح بعضهم بلقاء بعض فهذا علم الواحد وتبيانه…)).
من خلال متابعتي لكتب أوائل الكيميائيين وجدتهم جميعاً يَنحَون هذا المنحى. أخصُّ بالذكر منهم جعفر الصادق وجابر بن حيان كما سنرى لاحقاً.
لقد أوليتُ هذا الكتاب ( كتاب قراطس الحكيم ) أهمية خاصة لأن مؤرخي الكيمياء يعتبرونه أول كتاب وُضِعَ في علم الكيمياء. ومن جهتي فإني أعتبره الجسر الذي ربط الماضي بالحاضر وربط كيمياء عصور ما قبل الميلاد بكيمياء عصر العرب في صدر الإسلام.