Advanced Search

المحرر موضوع: نحو استراتيجية زراعية بديلة ومعتمدة على الذات  (زيارة 1664 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

نوفمبر 07, 2004, 11:57:34 مساءاً
زيارة 1664 مرات

التواق للمعرفة

  • عضو خبير

  • *****

  • 2342
    مشاركة

    • مشاهدة الملف الشخصي
نحو استراتيجية زراعية بديلة ومعتمدة على الذات
« في: نوفمبر 07, 2004, 11:57:34 مساءاً »
مدخل:

يروج ممثلو الحكومات الغربية والمؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية بقوة وبمنهجية لما يسمى بتحرير التجارة و"عولمة" الاقتصاد و"تحسين مناخ الاستثمار الأجنبي" في البلدان "النامية". بمعنى أن الدول الغربية لا زالت تصر على المضي قدما في فرض "تنمية" قسرية على مجتمعات "العالم الثالث" من الخارج، يكون عمودها الفقري مفاهيم اقتصادية – اجتماعية لا علاقة لها ببنيتها الانتاجية والاقتصادية – الاجتماعية. فمفهوم "تحرير التجارة" مثلا هو افراز مباشر للمستويات الاقتصادية والتكنولوجية والادارية في الدول الصناعية الغربية المتقدمة، فضلا عن مكانة هذه الدول الاقتصادية في السوق العالمي والمختلفة تماما عما هو قائم في بلدان "العالم الثالث" التي حاولت تطبيق النماذج الغربية بعيدا عن واقعها الاقتصادي- الاجتماعي فكانت النتيجة الفشل الذريع. ناهيك عن سحق البنى الاقتصادية التقليدية التي كانت قائمة قبل الوجود الاستعماري المباشر في هذه البلدان والتي اعتمدت على الموارد والسوق المحلية، كالزراعة مثلا، وبالتالي حطم الغرب أسس اعتماد غالبية دول "العالم الثالث" على ذاتها اقتصاديا وضمن بالتالي تبعيتها الاستهلاكية والغذائية له، وبالنتيجة جردها من أمنها الغذائي وقذف بها الى مستنقع المجاعة.



وبالرغم من تأكيد منظمة "الفاو" بأن عام 1996 شهد ارتفاعا في الانتاج العالمي لمحاصيل الحبوب الاستراتيجية بحوالي 7%، إلا أن المعروض العالمي من الحبوب قد انخفض وارتفعت الأسعار بأكثر من 50% في نفس العام,وهذا يشير الى أن "أزمات" القمح العالمية الدورية ليست سوى أزمات مفتعلة سببها الأساسي يكمن في التنافس على سوق القمح العالمي بين أمريكا (أكبر مصدر عالمي للقمح) وأوروبا، وبالتالي التلاعب بفائض القمح المعروض عالميا وبالمحصلة التحكم بغذاء "العالم الثالث.

. ويتحدث حاليا منتجو القمح الغربيون (أمريكا الشمالية والاتحاد الأوروبي) عن ضرورة زيادة المساحات المزروعة بالقمح في بلدانهم، في الوقت الذي تفرض فيه هذه الدول ومؤسساتها المالية الدولية على "العالم الثالث" زراعة محاصيل كمالية للتصدير لأوروبا وأمريكا واليابان، بينما تفتقر غالبية شعوب "العالم الثالث" للمحاصيل الغذائية الأساسية التي تحتاجها. ويشير هذا التوجه الاقتصادي الغربي المفروض على "العالم الثالث" الى أن الزراعة الأحادية الموجهة لما يسمى بالسوق العالمي قد أوصلت هذه الشعوب الى درجة العجز عن انتاج وتأمين الغذاء الأساسي لنفسها، فلم يبق أمامها سوى مواجهة مصيرها المحتوم: المجاعة أو الفقر الغذائي.

والحقيقة أن المشكلة لا تكمن في عدم كفاية الانتاج الغذائي العالمي، لأن العالم ينتج كميات كبيرة من الطعام أكثر من حاجته. لكن المشكلة تكمن في أن جياع وفقراء "العالم الثالث" لا يملكون الأموال اللازمة لشراء أو زراعة حاجتهم من الغذاء، بمعنى أن الكميات الزراعية لا تشكل، اطلاقا، حلا للمشكلة.

كما أن الزيادة الضخمة التي أحدثتها "الثورة الخضراء" في الانتاج، كانت نتيجة لاضافة مدخلات مرتفعة التكلفة من بذور عالية الانتاجية وسماد ومبيدات كيماوية وري. وعادت وتعود الفائدة، أساسا، على المزارعين الأغنياء القادرين على اقتناء كميات كبيرة من المدخلات والحصول على الاعتمادات أكثر من المزارعين الفقراء الذين لا يملكون المدخلات المطلوبة.

ومن الملفت للنظر، أن معظم المبيدات (الكيماوية) التي استخدمت في "العالم الثالث" (أكثر من 70%) استعمل على محاصيل كمالية تزرع للتصدير للولايات المتحدة وأوروبا واليابان، ولم يستخدم في المحاصيل الغذائية الرئيسية والأساسية التي يعتمد عليها الفقراء.



على الصعيد العربي، وبالرغم من شراء العديد من الأنظمة العربية لوصفات البنك وصندوق النقد الدوليين المتعلقة بما يسمى "التصحيح الهيكلي" و"الخصخصة" و"السوق الحرة" وبالتالي تراجع القطاع العام والتخطيط، فضلا عن ما يسمى "المشروع الشرق أوسطي"، فان ما تروج له هذه الأنظمة من مقولات المؤسسات المالية الدولية بأن هذه الوصفات والمشاريع ستأتي على العرب بالازدهار الاقتصادي، ليس فقط أنها (أي المقولات) لم تتحقق، بل هناك تدهور مستمر في قدرة معظم الأقطار العربية على توفير الغذاء لشعوبها، استنادا الى الموارد المحلية، وبالتالي زيادة التبعية للغذاء المستورد. فمثلا، انخفضت نسب الاعتماد على الذات (غذائيا) في كل من مصر والجزائر، من 84% و88% عام 1963 على التوالي، الى 62% و41% عام 1995 على التوالي(. علما بأن الزراعة في العديد من الدول العربية تستوعب أكثر من نصف قوة العمل وفي بعض الأحيان قد تصل النسبة الى 70%، إلا أن مساهمة الزراعة في إجمالي الناتج المحلي العربي لا تزيد عن 20% في أحسن الحالات، ناهيك عن وجود مساحات شاسعة من الأراضي العربية الصالحة للزراعة غير مستغلة (نحو 910 مليون دونم)، أي أكثر من 68% من اجمالي المساحات الصالحة للزراعة في الوطن العربي والتي تقدر بنحو 1330 مليون دونم، أي أن المساحات المزروعة تبلغ حوالي 420 مليون دونم (أقل من 32% من إجمالي المساحات الصالحة للزراعة. وبالرغم من أن معظم الأقطار العربية ظل مكتفيا غذائيا حتى بداية السبعينات، وكان بعضها في الخمسينات والستينات يصدر الحبوب والقمح (كما مصر والسودان)، إلا أنها أصبحت حاليا من أكبر مستوردي المنتجات الغذائية في "العالم الثالث". كما تهاوى الوطن العربي، في عام 1989، الى فجوة غذائية قدرت بأكثر من 16.6 مليار دولار. ويكمن السبب المباشر لأزمة الغذاء العربي في كون الزيادة بمعدل الطلب على المنتجات الزراعية أعلى من نسبة نمو الانتاج الزراعي السنوي (بفارق نحو 3.5% سنويا لصالح الزيادة بمعدل الطلب. وبالمقابل، نجد ملايين الأيدي العاملة العربية العاطلة عن العمل والمهاجرة الى خارج أوطانها، في الوقت الذي يعج فيه الوطن العربي (خاصة دول الخليج) بالعمال و"الخبراء" والفنيين الأجانب.



وتنفيذا لمتطلبات "الخصخصة" فقد سنت بعض الأنظمة قوانين جديدة تبرر عملية إفقار الفقراء وإغناء الأغنياء، كما حدث مؤخرا في مصر، حيث ألغت الحكومة من "قانون المستأجر والملاك"، البند الذي كان يضمن حماية مستأجر الأرض (الفلاح المصري) من تحكم الملاكين والاقطاعيين الذين منعهم القانون السابق (الذي سنه النظام الناصري) من رفع إيجار الأرض أو طرد الفلاح منها. وبالنتيجة أعيدت للأقطاعيين القدامى "حرية" استبداد ملايين الفلاحين المصريين الفقراء الذين حرموا من مصدر رزقهم الوحيد.



إن تجاوز هذه الصورة القاتمة أمر ممكن إذا ما تم التركيز على الانتاج الزراعي بهدف تلبية الاحتياجات الغذائية الأساسية للشعوب العربية، وذلك عبر خطط زراعية عربية تكاملية تستفيد من المناخ المعتدل في العديد من الأقطار العربية ومن المساحات الشاسعة للأراضي الصالحة للزراعة وغير المزروعة ومن المياه.



فلسطينيا، باءمكاننا القول ان الشروط والعوائق الاقتصادية التي فرضتها وتفرضها اسرائيل على الضفة والقطاع، حسب الاتفاقات السياسية – الاقتصادية مع الطرف الفلسطيني، أشد قساوة مما كان عليه الحال قبل أوسلو. خاصة وأن عملية "السلام" بنيت على حقيقة كون الاقتصاد الفلسطيني ملحق بالاقتصاد الاسرائيلي. كما أن الخطط الاقتصادية الدولية والفلسطينية الخاصة بمناطق الحكم الذاتي الفلسطيني، تم تأسيسها على فرضية خاطئة أصلا، وهي أن الاتفاقات السياسية ستترجم الى "حركة حرة" لقوة العمل والمنتجات بين اسرائيل والمناطق الفلسطينية والخارج. لكن الطرف الوحيد الذي يتمتع فعليا "بالحركة الحرة" هو اسرائيل.



علاوة على ذلك، منح اتفاق باريس الاقتصادي، فضلا عن الاتفاقات التي سبقته، اسرائيل، الحق بأن تقرر الحلال والحرام الاقتصادي- السياسي، بالنيابة عن الشعب الفلسطيني. وتعتبر اسرائيل، وفقا لهذه الاتفاقيات، المرجعية الأولى والأخيرة في كل ما يتعلق بالصادرات والواردات الفلسطينية والاتفاقات الاقتصادية مع آية دولة عربية أو غير عربية. إذ ليس فقط المسائل السياسية – الأمنية خاضعة للجان الاسرائيلية – الفلسطينية المشتركة، بل أيضا، القضايا الاقتصادية، وبالطبع، الطرف الأقوى في هذه اللجان (اسرائيل) هو الذي يقرر. بمعنى أن الاتفاقات الاسرائيلية – الفلسطينية تخول اسرائيل لوحدها بأن تقرر أصناف السلع وكمياتها التي يسمح للطرف الفلسطيني استيرادها أو تصديرها. وينطبق هذا الأمر أيضا على التبادل الزراعي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تنفيذ "الرزنامة الزراعية" التي تم "الاتفاق" عليها بين وزيري الزراعة الفلسطيني والأردني بتاريخ 9 /10 / 1997، منوط بموافقة اسرائيل التي تفرض على الطرف الفلسطيني العودة اليها للحصول على موافقتها على هذه "الرزنامة"(.

ليس هذا فقط، بل إن الاتفاقات الموقعة مع اسرائيل، تفرض على الجانب الفلسطيني أي القطاعات والسلع والخدمات يجب أن يركز عليها (بما فيها الزراعة)، من منطلق "التكامل" مع السوق الاسرائيلي في القطاعات المختلفة، وخاصة تلك القطاعات التي تضمن تسويق السلع والمدخلات الاسرائيلية. فضلا عن التركيز على الطرق التي تربط مناطق الحكم الذاتي والمستعمرات باسرائيل.



وبالرغم من حقيقة كون الأرض الزراعية أندر وأغلى عناصر رأس المال الوطني الفلسطيني وبالتالي فان الحفاظ عليها وتنميتها أمانة يتحملها الجيل الحالي المسؤول أمام الأجيال القادمة والتاريخ، إلا أن التناقض المأساوي في الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967، والتي لا تملك سوى اقتصاد هش واستهلاكي، يكمن في تنامي قطاع الخدمات الذي بلغت حصته عام 1994 في الناتج المحلي الاجمالي أكثر من 60%، بينما انخفضت حصة الزراعة من حوالي 35% قبل احتلال عام 1967 الى أقل من 16% (عام 1994. كما أن استيعاب القطاع الزراعي للعمالة هبط من حوالي 32% في بداية الثمانينات الى أقل من 13% في أواسط التسعينات). علما بأن المستوطنين، بشكل عام، ومستوطني الغور، بشكل خاص، لم يتوقفوا عن التوسع في المناطق الزراعية الفلسطينية وحراثة وزراعة المزيد من الأراضي التي يسيطرون عليها، والتي لم يزرعها الاسرائيليون سابقا، بينما مساحات الأراضي الفلسطينية المزروعة تتقلص باستمرار، ليس فقط بسبب المصادرات والتهويد، بل أيضا بسبب مواقف وسياسات وسلوكيات غير جذرية تجاه الأرض وانتاج الغذاء.



وعلى ضوء تحكم اسرائيل بغذائنا وسيطرتها على حركة عمالنا ومنتجاتنا وإحكامها الحصار التجويعي على شعبنا، فان المطلوب إطلاق العنان للحريات وللمبادرات الانتاجية الشعبية المعتمدة على الذات والتي تنتج الغذاء الأساسي للناس، تطبيقا لمبدأ الاستفادة من مواردنا المحلية وعلى رأسها الأرض لتلبية احتياجاتنا المحلية، بدلا من إشباع رغبات الأسواق الخارجية وقلة من الناس المتكسبين وبالتالي إعادة انتاج البطالة والفقر والجوع.

ويعتبر هذا التوجه مقاومة وطنية من أجل الصمود الاقتصادي الفلسطيني، في مواجهة الضغط الاقتصادي والسياسي الذي تمارسه السلطة الاسرائيلية وقوى خارجية أخرى ضد شعبنا. وهذا يعني الاستثمار في مشاريع انتاجية زراعية شعبية، على أساس جماعي أو تعاوني أو فردي.



والسؤال المطروح: لماذا تعمل المؤسسات المالية الدولية والسوق الأوروبية المشتركة ومن قبلهما اسرائيل، على دفع مزارعينا الفلسطينيين الى ممارسات زراعية ثبت فشلها في بلدانهم، كالزراعة الأحادية مثلا وبالتالي تصدير فشلهم إلينا؟ فهناك في بلدانهم (أوروبا وأمريكا الشمالية) يتحدثون حاليا عن الزراعة المستدامة والزراعة البيئية والتنويع الزراعي كضرورة للاستقرار المعيشي والاقتصادي وكبديل للزراعات الأحادية التي تتطلب تبعية كبيرة للمدخلات من خارج الوحدات الانتاجية كالمبيدات والأسمدة الكيماوية والبذور المهجنة والمياه والقروض المالية وغير ذلك. ناهيك عما تسببه الزراعات الصناعية الأحادية من تلويث بيئي وإخلال في التوازن البيئي الطبيعي وتدمير لخصوبة التربة وهدر للمياه. علما بأن مجتمعنا الريفي تميز تقليديا وتاريخيا بالتنويع الزراعي والاكتفاء الغذائي الذاتي. فلماذا إذن الهرولة الى تبني نظم وأنماط زراعية غريبة وقصيرة النظر ولا تهدف سوى تحقيق أرباح سهلة وعابرة وسريعة على حساب احتياجاتنا الغذائية الحقيقية وبيئتنا ومياهنا وتربتنا وأجيالنا القادمة؟ علما بأن معظم هذه الأرباح تتدفق الى جيوب المستوردين والمسوقين في الأسواق الخارجية، بينما لا يبقى سوى الفتات للمزارع المحلي.




تشوه البنية الانتاجية الزراعية الفلسطينية بسبب عوامل موضوعية وخارجية



باءمكاننا القول، إن أهم سمة خطيرة مميزة للاقتصاد الفلسطيني، تتمثل في عملية تعميق متواصلة للبنية الاستهلاكية والطفيلية لهذا الاقتصاد. وتتجسد هذه البنية في حقيقة أن مجتمعنا الفلسطيني ينتج حاليا أقل بكثير مما يستهلك، ولا توجد مؤشرات فعلية تدل على أن الفجوة الكبيرة بين الانتاج والاستهلاك آخذة في التقلص. وهذه الفجوة، فضلا عن العجز التجاري، تغطيهما الى حد كبير التدفقات والتحويلات المالية الخارجية وليس التراكم الرأسمالي الداخلي في الضفة والقطاع. وهذا الأمر واضح من تدني حصة الناتج المحلي الفلسطيني الاجمالي في الناتج القومي الفلسطيني الاجمالي. كما يتضح هذا الأمر من مجرد نظرة سريعة الى السلع الغذائية، "الطازجة" والمصنعة، المعروضة في سوقنا المحلي، حيث تبرز بشكل صارخ الحصة المتواضعة جدا للسلع "الفلسطينية" المحلية أو بشكل أدق حصة السلع الوطنية (أي التي تم انتاجها من موارد وخامات محلية) من إجمالي أنواع وأصناف السلع الغذائية المعروضة في سوقنا المحلي. ناهيك عن أن كميات كبيرة ومتنوعة من السلع "المحلية" ليست أكثر من سلع اسرائيلية تسوق في الضفة والقطاع بغطاء فلسطيني (ملصقات فلسطينية).

إن حقيقة كوننا مجتمعا استهلاكيا، يشتري معظم طعامه من اسرائيل والخارج، بما فيه الغذاء الاستراتيجي، تعني، تحديدا، أننا نفتقر الى الأمن الغذائي. وهنا بالذات يكمن السبب الأساسي في تبعيتنا للخارج. وافتقارنا للأمن الغذائي يعني أيضا افتقارنا للأمن الوطني الذي لا يمكننا توفيره ما دامت اسرائيل والاقتصاديات الخارجية تتحكم في عملية إطعامنا وتجويعنا.



تحطيم أسس الاعتماد على الذات:

تعتبر السياسة الاقتصادية الاسرائيلية (في جوهرها) تجاه فلسطينيي الضفة والقطاع ومن قبلهم فلسطينيي الأرض المحتلة عام 1948، استمرارا لنفس السياسة الاستعمارية منذ الاحتلال البريطاني لفلسطين ووعد بلفور، والمتمثلة في القضاء على الزراعة. فاذا ما كانت الأرض بور يسهل على صاحبها تركها أو بيعها أو تسريبها لليهود. كما أن العمل في السوق الاسرائيلي أرغم شبابنا على ترك الأرض بور بدون أي عمل فيها، وخاصة الأرض الوعرة، ما عدا الأرض التي يصلها التراكتور، وبالتالي أصبحت الأرض بدون إنتاج، ركضا وراء النقود التي تقذفها اسرائيل لشبابنا. ويشكل هذا الواقع تطبيقا للسياسة الاستعمارية القديمة: "قوموا باغرائهم حتى تبقى الأرض بور".



وكما حدث في سائر أرجاء الوطن العربي، كذا أيضا في الضفة والقطاع، فان الغرب، من خلال مؤسساته "التنموية" و"التمويلية" المختلفة، يساهم مباشرة، عبر نشاطه لتكريس ما يسمى بالسوق الحرة وتحرير التجارة، في تهميش أو حتى سحق البنى الاقتصادية التقليدية التي كانت قائمة قبل الوجود الاستعماري في فلسطين والتي اعتمدت على الموارد والسوق المحلية، وخاصة الزراعة، ليس لأن هذه البنى "متخلفة" كما روج بعض الأغبياء، وإنما ليستكمل ما قام به الاحتلال الصهيوني من تحطيم أسس اعتمادنا على ذاتنا اقتصاديا ويضمن بالتالي تبعيتنا الاستهلاكية له. فضلا عن النهب الصهيوني لمساحات كبيرة من أخصب الأراضي الفلسطينية، الأمر الذي أدى الى حرمان آلاف الفلسطينيين من أهم مصدر انتاجي وبالتالي ضرب أهم مصدر من مصادر تراكم الرأسمال الذي كان مرشحا لأن يستثمر في تطوير الزراعة وقطاعات انتاجية أخرى. ولو أضفنا الى ذلك استمرار واقع التجزئة المزدوجة للضفة والقطاع: تجزئة الأرض المتمثلة أساسا بعزل قطاع غزة والقدس عن سائر أنحاء الضفة، والتجزئة البشرية، نجد بأن الشعب الفلسطيني يفتقر حاليا الى القاعدة الطبيعية الضرورية لوجود وتنمية أي مجتمع انساني طبيعي.



التوسع في الزراعات الكمالية لصالح من؟

يحاول المركز التجاري الدولي التابع لمنظمة التجارة العالمية إيهامنا (في الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967)، بأننا "على مسافة شبر" من السوق الأوروبي الضخم الذي يمثل 65 – 70% من حجم التجارة الدولية في زهور القطف والبالغ حوالي 10 مليار دولار، لدرجة، حسب ادعاء المركز الأخير، أن "قيمة التجارة الدولية للزهور التي يمكن انتاجها في المناطق الفلسطينية وتصديرها بشكل واسع يتجاوز 14 مليار دولار"(، أي بامكان المناطق الفلسطينية انتاج وتصدير كميات من الزهور تتجاوز في قيمتها إجمالي قيمة تجارة الزهور الدولية! ليس هذا فقط، بل إن نفس المركز "يطالب" وزارة الزراعة الفلسطينية بزيادة المساحات الفلسطينية المزروعة بالزهور من 900 دونم (حاليا) الى 125 ألف دونم "في أسرع وقت لأن الانتاج الحالي لا يذكر"().

عدا عن التساؤلات حول الأسباب الحقيقية الكامنة وراء الحماس لزيادة انتاج الزهور للتصدير زيادة ضخمة وحول من هم المستفيدون الحقيقيون من هذه السياسة التصديرية، من المفيد هنا الاشارة الى أن إجمالي المساحات المزروعة في الضفة والقطاع تبلغ حوالي 1,782,000 دونم، أما المساحات المروية فهي نحو 217000 دونم()، بمعنى أن المساحات التي يريدنا المركز التجاري الدولي زراعتها بالزهور تشكل نحو 7% من إجمالي المساحات المزروعة و58% من إجمالي المساحات المروية! علما بأن زراعة الزهور عبارة عن زراعة مروية بشكل مكثف، وتتوفر لها، فجأة (يا للعجب)، المياه النقية التي يحرم منها شعبنا (وخاصة في غزة).



علاوة على ذلك، يدعو مركز التجارة الدولي السلطة الفلسطينية والدول "المانحة" الى توفير الدعم الكامل للمزارع الفلسطيني المصدر للزهور، لضمان عدم خسارته بسبب الاجراءت الاسرائيلية أو الأخطار الطبيعية(. والسؤال البديهي هو: لماذا الاهتمام الغربي والاسرائيلي يتركز تحديدا باتجاه تسهيل زراعة وتصدير الزهور دون غيرها من المنتجات الزراعية الفلسطينية؟ ولماذا الدعم والتسهيلات تحديدا لقطاع زراعي كمالي، وليس لزراعة محاصيل استراتيجية أساسية كالقمح مثلا، أو توفير الدعم والتعويض لمزارعينا عن الخسائر الكبيرة التي يتكبدونها، سنويا، بسبب الحصار الاسرائيلي والعوامل الطبيعية؟



وهنا لا بد من التنويه الى أن الحكم العسكري الاسرائيلي تحديدا، عمل منذ أواخر الثمانينات على تشجيع مزارعينا في غزة على زراعة الورود، وذلك في إطار توجيه الزراعة الفلسطينية لانتاج محاصيل تلبي حاجات الاقتصاد الاسرائيلي إما للاستهلاك المباشر أو لسد فجوات معينة في الصادرات الاسرائيلية، تمشيا مع سياسة تعميق دمج الاقتصاد الفلسطيني في الاقتصاد الاسرائيلي. تلك السياسة القائمة على سلسلة من الأوامر العسكرية والاجراءات الضريبية لمنع المنتجين الفلسطينيين من منافسة المنتجين الاسرائيليين سواء في السوقين الاسرائيلي والفلسطيني أو في الأسواق العالمية.

ولاغراء مزارعي غزة، قدمت لهم "الادارة المدنية" في حينه بعض "القروض والمساعدات الفنية"، فضلا عن ضمان شراء الزهور منهم. وبالفعل، نجح الاحتلال في "إقناع" بعض المزارعين بزراعة الزهور بدلا من الخيار والبندورة وسائر الخضروات والحمضيات). وعندما تمكن الأخير من تسخير الانتاج الزراعي الفلسطيني لخدمة اقتصاده، توقف عن إعطاء المزارعين "الحوافز"، فصار الانتاج الزراعي خاضعا لتقلبات السوق. بمعنى عمل الاحتلال على سحق المنتجات الزراعية الفلسطينية الأساسية، من خلال منع حمايتها من المنافسة الاسرائيلية والأجنبية من ناحية، وتشجيع تحويل المزارعين الفلسطينيين الى الزراعة الكمالية التي لا يستفيد محليا من أرباحها سوى نفر من الملاكين والتجار الكبار، من ناحية أخرى.

وفي هذا السياق، لا بد من التنويه الى أن السوق الأوروبي لن يفتح لنا أبوابه على مصراعيها لمنتجاتنا من الزهور وغيرها، نظرا لسياسته الزراعية الموحدة (PAC) التي تفرض القيود على الاستيراد من غير الدول الأوروبية لحماية المزارع الأوروبي(). لهذا وفي ظروف سياسية - اقتصادية محددة، فان إغلاق هذا السوق أمام منتجاتنا أمر وارد جدا. ناهيك عن الأسعار الاحتكارية التي تفرضها الدول الغربية على منتجاتها الزراعية والصناعية وبالتالي قدرة هذه المنتجات على منافسة مثيلاتها في الدول المتخلفة.



ولنلاحظ هنا ذكاء الرأسمال الأوروبي المتجلي في اتفاق "التجارة الحرة" الذي وقعه الاتحاد الأوروبي (في شباط 1997) مع الضفة القطاع، بشكل منفصل عن اسرائيل، إذ في الوقت الذي رفعت فيه العوائق الجمركية وغير الجمركية في الاتحاد الأوروبي عن السلع المصنعة الفلسطينية، فان "الاعفاء الجمركي" في الاتحاد الأوروبي لا يشمل سوى حصة هامشية من بعض السلع الزراعية الفلسطينية()، ذلك أن بعض المنتجات الزراعية الفلسطينية تحديدا، مرشحة لمنافسة المنتجات الأوروبية.



والأهم مما ورد، فقد باشرت وزارة الزراعة الاسرائيلية، مؤخرا، في استثمار أكثر من 300 مليون دولار، لزراعة أكثر من 100 ألف دونم في صحراء النقب (جنوبي غزة) لانتاج كميات كبيرة من الحمضيات والخضروات والزيتون والقمح والورود. ويتوقع أن تكون هذه المنتجات التي ستروى بالمياه العادمة المعالجة من منطقة تل أبيب، منافسة في الأسواق الأوروبية والأمريكية(). وهذا يذكرنا أيضا باغراق السوق الفلسطيني بالبطيخ الاسرائيلي الذي ضارب بأسعاره البطيخ الفلسطيني وسحق انتاجه. مع العلم أن الانتاج الفلسطيني من البطيخ وصل عام 1985 الى أكثر من 100,000 طن كانت حصة جنين منه حوالي 60,000 طن، ثم هبط في أواخر الثمانينات الى حوالي 10,000 طن، وتدنت الكمية في الغور الى حوالي الصفر، بالرغم من أن طبيعة الأرض وكميات المياه المتاحة لزراعة البطيخ لم تتغير().



إن توريط مزارعينا في الزراعات الكمالية وإغرائهم بالتخلي عن الزراعات الأساسية والتقليدية سيؤدي بالمحصلة الى تدمير ما تبقى من قطاعنا الزراعي، لصالح تصدير اسرائيل لنفس المحاصيل التي يراد لنا التخلي عنها. كما أن اسرائيل والجهات الغربية نفسها التي تشجع مزارعينا وبعض المسؤولين المحليين الآن على زراعة الزهور ستقوم فيما بعد باءبادة هذا القطاع، لأن الأولوية ستكون آنذاك لزهور النقب، وبالمحصلة مزيد من تشويه اقتصادنا وإفقار وتجويع مزارعينا وبالتالي شعبنا.






البنوك و"التنمية" الزراعية:

بادرت مؤخرا بعض الجهات الدولية، بالتعاون مع بنوك محلية في الضفة والقطاع، الى منح قروض قصيرة ومتوسطة الأجل للعاملين في مجال "الزراعات المروية في البيوت البلاستيكية والحقول المكشوفة"، ولأصحاب المشاريع الزراعية "الذين يرغبون في إدخال زراعات جديدة مثل العنب اللابذري، الأزهار، التوت الأرضي…"(. علما بأن الزراعات الأخيرة تعتبر أحادية وكثيفة الرأسمال وموجهة أساسا للأسواق الخارجية. بمعنى أن الاستدانة هنا تهدف أساسا الى تكثيف الرأسمال في الزراعة، عبر الوقوع في "مصيدة" الديون، وبالتالي زيادة مستمرة في مدخلات الانتاج من الخارج والغرق في مزيد من القروض لزراعة المحاصيل الأحادية بدل التنويع الزراعي، وبالمحصلة الادمان على الديون وتعميق التبعية للأسواق الخارجية وقوانينها القاسية. كما ويطلب أحيانا من المقترضين، كضمانات، رهن عقارات.



ان الأسواق الخارجية (الغربية والاسرائيلية) التي تستهدفها المنتجات الكمالية والأحادية (التي تم زراعتها بالقروض) هي التي تتحكم بأسعارهذه المنتجات لتفرض عليها غالبا أبخس الأسعار. وفي حالة أن هذه الأسواق تقرر، لأسباب سياسية واقتصادية، وقف الاستيراد، وبالتالي انسداد آفاق التسويق، بالتوازي مع ارتفاع تكلفة الانتاج والمستلزمات الزراعية، فان النتيجة ستكون تآكل خطير ومدمر في مداخيل اولئك المزارعين الأحاديين، الأمر الذي سيؤدي، كما سبق وأدى في حالة بعض مزارعي الغور وغزة، الى تورط العديد من المزارعين في الديون والفوائد الكبيرة، لدرجة فقدان بعض المزارعين القدرة على السداد. وبالرغم من منح بعض المزارعين المتورطين في الديون، فترة إضافية للسداد، أو إعادة جدولة ديونهم، إلا أنه ومع ذلك، فان العديد منهم لا يستطيع السداد، لتصل بعض الحالات الى المحاكم().

إذن، القروض، الهزيلة أصلا، الممنوحة للمزارعين الفلسطينيين، تهدف الى تكريس عملية "التخصص" في الانتاج الأحادي الغزير للتصدير، على قاعدة "المنافسة الحرة" التي لا ترحم الضعفاء، وذلك بدلا من إنشاء مؤسسة إقراض أو أكثر للتنمية الزراعية، بحيث تمنح القروض الميسرة وبشروط مريحة حقا للمزارعين، بهدف تشجيع تنويع الانتاج الزراعي والمشاريع الزراعية المعتمدة على الموارد الذاتية والمتحررة من التبعية المهلكة للمدخلات الخارجية، وبالتالي تشجيع المزارع على البقاء في أرضه وعدم هجرها.



المياه الفلسطينية المنهوبة:

تنهب اسرائيل مصادر مياه الأرض المحتلة عام 1967، وتقيدها وتتحكم في إدارتها وتحدد الحصص وبالتالي تسرق حقوقنا في السيادة على مواردنا واستخدامها وإدارتها. ويشمل النهب الاسرائيلي مياهنا الجوفية والسطحية. إذ حفر الاحتلال وجفف ولا زال يحفر ويجفف الآبار الارتوازية في الضفة الغربية، ناهيك عن تجفيف الينابيع المتدفقة بشكل طبيعي، لصالح مستعمراته في الضفة والقطاع والاسرائيليين داخل "الخط الأخضر"، بحيث نحرم من الاستفادة من مياهنا الطبيعية، الأمر الذي يؤدي، بشكل مباشر، الى تدمير الزراعة الفلسطينية، وبشكل غير مباشر، الى تصحر الأراضي الفلسطينية. في حين يعاني الانسان الفلسطيني من نقص خطير في مياه الشرب وتتهدده الآثار الصحية والبيئية الخطيرة نتيجة شح المياه المسموح له باستهلاكها. خاصة وأن الصهاينة يسرقون كميات ضخمة من مياهنا الجوفية، إذ أن حصة الشعب الفلسطيني في مياهه الجوفية أقل من 20%. علما بأن جزءا كبيرا من المياه المستهلكة في المستعمرات يستخدم لأغراض الرفاهية والترف (إرواء حدائق الزينة وبرك السباحة و"النجيل" وغيره). ويقدر المعدل العام لاستهلاك الفرد الفلسطيني اليومي للمياه (الضفة والقطاع) بحوالي 40 لترا (يشمل القدس)، بينما يقدر معدل استهلاك الاسرائيلي في مستعمرات الضفة والقطاع بنحو عشرة أضعاف هذا المعدل()، علما بأن الاسرائيليين يتمتعون بالمياه المدعومة حكوميا، إذ يدفع المزارع الفلسطيني ما يعادل 0.07 دولار / م3 من المياه، بينما يدفع المزارع الاسرائيلي نحو 0.014 دولار / م3(). كما يقدر إجمالي نهب اسرائيل المائي لصالح مستعمراتها بحوالي 70% من إجمالي موارد المياه السنوية في الضفة والقطاع، ومن الباقي (30%) فان حولي 18% عبارة عن مياه مالحة أو أن استخراجها صعب ومكلف، وهذا يعني أن المتاح من المياه لسكان الضفة والقطاع ليس أكثر من 12% من إجمالي موارد المياه().

وقد تسبب استغلال اسرائيل لمواردنا المائية، وضخها الزائد للمياه، خاصة في قطاع غزة، في هبوط سطح الماء الباطني الى ما دون مستوى التغذية الطبيعي، وبالتالي تدفق المياه المالحة والملوثة الى المياه الجوفية القليلة المتاحة لفلسطينيي القطاع، وجعل جودة هذه المياه متدنية جدا، بل وغير صالحة للاستخدامات البيتية والزراعية. أما في منطقة الغور، فقد انخفض سطح الماء الباطني، منذ عام 1969 بمعدل أكثر من 16م وبالتالي جفاف عشرات الآبار(). وفي الفترة 1982 – 1991 ارتفع التركيز الكلي للكلور بحوالي 50%، فوصل في منطقة أريحا الى 1700ملغم / لتر().



تشكل المياه الفلسطينية بالنسبة لاسرائيل، عنصرا أساسيا من عناصر "أمنها الاستراتيجي" وبالتالي فهي قد "توافق" على "زيادة حصة الفلسطينيين من المياه" ولكن "ليس على حساب آية نقطة ماء تسيطر عليها اسرائيل" كما أوضح في حينه بقوة، شمعون بيرس(). لهذا حافظت وتحافظ حكومات اسرائيل المتعاقبة على استراتيجية واضحة، ثابتة ومثابرة، يتلخص جوهرها بأن تأخذ اسرائيل ما تشاء من المصادر الطبيعية الفلسطينية والمياه والأراضي والغور وأخصب أراضي غزة وتترك للفلسطينيين مجرد حطام.



ولم تأل بعض الدول الغربية ومؤسساتها الدولية جهدا في التنظير والضغط على الفلسطينيين لتحقيق هذه الغاية. فمثلا، "نصح" تقرير البنك الدولي حول المياه في الشرق الأوسط (لعام 1996) الفلسطينيين بالتخلي عن الزراعة "التي تحتاج الى مياه كثيرة ونادرة" والتحول الى "اقتصاد التكنولوجيا المتقدمة". وبالمقابل، تتمتع المستعمرات اليهودية بوفرة غير محدودة من المياه العذبة وعالية الجودة، ولا توجد لديها آية مشكلة في استهلاك ما تشاء من مياهنا، والمطلوب من الشعب الفلسطيني فقط أن يقتصد ويعطش ويحرم من الاستفادة من مصادر مياهه الطبيعية المتوفرة، تحديدا، بالضفة الغربية، بغزارة.



بالاضافة، تحاول اسرائيل، عبر بعض وجوهها الأكاديمية، ومدعومة من بعض المؤسسات الدولية، إخفاء سياستها التقليدية المتمثلة بمواصلة استنزافها الرخيص لمياهنا ومواردنا الطبيعية وتعميقها الخلل في التوازن البيئي الطبيعي، تحت غلاف تنموي جذاب هو "التنمية المستدامة". كما تحاول نفس الوجوه، إلقاء مسؤولية تدمير البيئة، في الضفة والقطاع، علينا(). علما بأن ممارسات الفلسطينيين الملوثة لبيئتنا ومياهنا الجوفية تبقى هامشية، قياسا بممارسات اسرائيل البيئية الكارثية، وخاصة بسبب النفايات والمياه العادمة المتسربة من المستعمرات الى أراضينا الزراعية ومياهنا الجوفية. والأنكى من ذلك، أن بعض الجهات الدولية التي تعتبر هذا التخريب الاسرائيلي للبيئة أمرا واقعا، يقترح علينا أن نعيد تدوير هذه النفايات (الاسرائيلية) لصالحنا، مساهمين بذلك في منع التلوث البيئي()!



تدمير البيئة:

يشكل الاحتلال الاسرائيلي، حاليا، أهم عامل مدمر للبيئة الفلسطينية. ويتخذ التدمير الاسرائيلي لبيئتنا أشكالا متعددة أهمها الدمار البيئي الناتج عن مخلفات المصانع في المستعمرات الاسرائيلية، من نفايات صلبة وسائلة وغازات تتسبب في مخاطر صحية للانسان والحيوان، فضلا عن تخريب التربة الزراعية. علما بأن معظم المصانع في المستعمرات منعت من العمل في اسرائيل، نظرا لدورها في تلويث البيئة. وتتمثل أخطر الصناعات في المستعمرات بالصناعات الكيماوية (مصانع بلاستك وبطاريات وبوجيات للسيارات وألومنيوم وجلود ومصابغ وغيرها) التي تخلف مركبات كيماوية وحامضية تتسرب الى الأرض وتلوث التربة (والهواء) وتفقدها خصوبتها أو تجعلها غير قابلة للزراعة، بل قد تؤدي الى تصحرها). ناهيك عن العناصر السامة الناتجة عن هذه الصناعات، كالكادميوم والكروم والزرنيخ المدمرة للتربة والملوثة للمياه الجوفية(. كما أن صناعات مواد البناء والحجارة والاسمنت في المستعمرات لا تقل خطورة عن الصناعات الكيماوية من ناحية التلويث البيئي وتخريب الأراضي الزراعية والتسبب في أمراض مزمنة وخطيرة(. دون إغفال الكسارات التي أقامتها الشركات الاسرائيلية في الضفة الغربية والتي يتسبب غبارها الكثيف وانفجاراتها بالتصحر ويحدث أضرارا بيئية ويترك آثارا صحية مميتة على السكان المقيمين في منطقة الكسارات وعلى الثروة الحيوانية والأراضي الزراعية والأشجار المثمرة والمراعي. ناهيك عن مخطط الاحتلال لانشاء كسارات في وادي التين بمنطقة طولكرم.




العامل الذاتي في تعميق عملية تشوه الاقتصاد الزراعي الفلسطيني



ما يميز القطاع الزراعي الفلسطيني، في الضفة الغربية وقطاع غزة، هو غياب التخطيط وانعدام توزيع الانتاج المحلي على اطول فترة ممكنة، وفي نفس الوقت اعتماد العديد من المزارعين على نوع واحد أو نوعين من المحاصيل، الأمر الذي يزيد من المغامرة والمخاطرة. إذ أن التنويع الزراعي يضمن ثباتا في الأسعار واستقرارا اقتصاديا أكبر من الاعتماد على زراعة صنف واحد أو صنفين. وحاليا، هناك نوع من الفوضى في حجم ومواعيد زراعة أصناف معينة، الأمر الذي يؤدي الى تراكم كميات كبيرة فائضة من نفس المنتجات لدى معظم المزارعين وفي نفس الفترة. وبالنتيجة، انعدام الجدوى الاقتصادية في قطف وتعليب وتسويق هذه المنتجات التي ونظرا لغزارتها غير المبرمجة لا مفر من بيعها بأسعار منخفضة جدا أو حتى قد تترك أحيانا غير مقطوفة على الأرض حتى تتلف. بمعنى لا يوجد تخطيط للمزارعين على مستوى وطني لتنويع الزراعة، وكل مزارع يخطط على مستواه بداخل مزرعته، كما أن غالبية المزارعين تتحمل بشكل فردي ومباشر مسؤولية تسويق انتاجها. فمثلا في منطقة الغور التي تعتبر قلب الزراعة الشتوية، ونظرا لسؤ التخطيط، نرى بأن عددا كبيرا من المزارعين يزرع بعض الخضار في نفس الفترة، وبالتالي فان نضوج هذه الخضار وتسويقها يكونان أيضا في نفس الفترة. ونظريا، فان الأرض المحتلة تنتج خضارا رئيسية أكثر من حاجتها، إلا أن فترة الانتاج تكون قصيرة، بحيث نستورد فيما بعد العديد من هذه الخضار من اسرائيل بأسعار مرتفعة وقد تكون نفس الخضار التي اشتراها منا الاسرائيليون وقاموا بتبريدها وتخزينها. كما أن المزارع في منطقة طوباس يضطر أحيانا لبيع شاحنة من محصوله من الخضار بـِ400 شيكل اسرائيلي (نحو 109 دولار أمريكي)، أي حوالي شيكل واحد للصندوق (نحو 0.2 دولار للصندوق. علما بأن تدفق المنتجات الزراعية الاسرائيلية إلينا بدون قيود. وما دام الوضع على ما هو عليه الآن فلا يمكننا ضمان التسويق في الموسم القادم وبالتأكيد ليس خلال الأربع أو الخمس سنوات القادمة. فالمزارع يعرف بالضبط تكاليف انتاجه، لكن، بالمقابل، لا يمكنه معرفة كم سيكون مدخوله من هذا الانتاج، لأن التسويق غالبا ما يكون حسب الظروف والحظ، وبالتالي فان المخاطرة كبيرة.



انعدام التمفصل القطاعي:

من الواضح أننا في الضفة والقطاع نفتقر الى الاستراتيجية التنموية الواضحة التي تضمن عملية التمفصل في القطاع الاقتصادي الواحد وبين مختلف القطاعات. بمعنى وضع جزء من قطاع اقتصادي معين في خدمة جزء آخر من نفس القطاع أو من قطاع آخر، وبالمحصلة تحقيق الترابط بين جوانب القطاع الاقتصادي الواحد، من ناحية، وبين القطاعات المختلفة، من ناحية أخرى. علما بأن مختلف قطاعات الاقتصاد الفلسطيني مندمجة، حاليا، في الاقتصاد الرأسمالي الاسرائيلي، بدلا من تكاملها مع بعضها البعض.

إن غياب العلاقات بين وداخل القطاعات المختلفة يساهم في تكريس وتجزيء القوة الانتاجية الفلسطينية، كما ويقلل من امكانيات تبادل الخبرات المتراكمة في مجالات الانتاج وتقنيات التسويق وبالتالي يؤدي الى إبطاء عملية التوسع القطاعي ويحافظ على تبعيته لمصادر الموارد وخطوط التسويق القائمة.



ممارسات زراعية غير مستدامة:

تعتبر الزراعة أهم مورد معيشي واقتصادي لشعبنا، ناهيك عن كونها مكونا أساسيا من مكونات تراثنا وثقافتنا. علما بأن انتاجنا الزراعي، في الماضي غير البعيد، كان خيرا ومتنوعا، وتمتع ريفنا الفلسطيني باكتفاء ذاتي في كل احتياجاته الغذائية. أما اليوم فقد تحولت قطاعات واسعة من شعبنا الى عاطلة عن العمل، بل وجائعة.

بالمقابل، وبالاضافة لمصادرة اسرائيل ونهبها لمئات آلاف الدونمات من أخصب أراضينا الزراعية، هناك مساحات لا يستهان بها من الأراضي الصالحة للزراعة لكنها غير مستغلة، فضلا عن الأراضي المباشرة حول البيوت والتي تملؤها الأشواك والأعشاب الضارة، وبالتالي بامكاننا زراعتها والاستفادة من انتاجها. بل، أحيانا كثيرة، وكأن هذا الاهمال للأرض غير كاف، نجد البنايات التجارية وقد ارتفعت فجأة، على حساب الأرض الصالحة للانتاج الزراعي.



لقد تضاءلت كثيرا ممارسات الانتاج الزراعي الطبيعي، المتنوع والصحي، فضلا عن تربية الدواجن والماشية، على مستوى الوحدات المنزلية. وهذا يعني أن مخلفات كثيرة تنتجها منازلنا لا يعاد استخدامها في نطاق النشاط الانتاجي المنزلي. علما بأن البعض يهتم بتربية الدواجن أو الأغنام لكنه لا يزرع الأرض التي بامكانها الاستفادة من الروث الحيواني الذي، في حالة عدم إعادة استخدامه، سيتحول الى نفايات وبالتالي تلوث.

ومن الملاحظ أن الممارسات الزراعية "الحديثة" قد تسببت في تلاشي العديد من الممارسات الزراعية التقليدية الحكيمة التي طورها أجدادنا المزارعون، عبر الأجيال، من خلال تجاربهم وذكائهم والتي أثبت الزمن بأنها صحية ومجدية أكثر من الزراعة "الحديثة" التي أدت الى تعميق تبعية المزارعين للخارج و"ورطتهم" في الديون وتسببت في تدهور خصوبة التربة وغير ذلك من الأزمات المستعصية. علما بأن الاستخدام المكثف للبذور المهجنة وبالتالي اندثار البذور البلدية أدى ويؤدي الى ضياع متواصل للتنوع الجيني (البيولوجي) مما يتسبب حاليا في هجوم الآفات على المزروعات، الأمر الذي يستوجب "تحسينا" متواصلا في البذور المهجنة، إلا أن هذا "التحسين" لا يمنع مزيدا من ضياع التنوع البيولوجي.

وفي أغلب الأحيان، لم يؤد ركض المزارعين وراء الأساليب الزراعية "الحديثة" والمكثفة الى اختفاء الوسائل التقليدية للوقاية من الآفات فقط، بل أدى كذلك الى خسائر بيئية وصحية واقتصادية كبيرة. ومع ذلك كان الرد المهيمن هو اللجؤ الى مبيدات الآفات التي تم التعامل معها باعتبارها الحل الوحيد، وبالتالي بولغ في إبراز "فوائدها" والتصغير من شأن أضرارها.



لقد عملت المؤسسة الاسرائيلية، كما عمل وكلاء ووسطاء شركات الكيماويات والبذور المهجنة الاسرائيلية والغربية طويلا، ولا زالوا يعملون، على إقناع مزارعينا بالتحول نهائيا الى الزارعة المكثفة و"الحديثة" أو الزراعة الأحادية التصديرية. وبالفعل اشترى العديد من مزارعي الضفة والقطاع أفكار هذه الشركات وأسمدتهم الكيماوية وأدويتهم الزراعية وبذورهم المهجنة. بل، ونتيجة قيام اسرائيل بربط الاقتصاد الزراعي الفلسطيني باقتصادها، أصبحت كل المستلزمات الزراعية من علاجات وأسمدة وأغطية بلاستيكية وغيرها تشترى من اسرائيل، لدرجة أن الاتفاقيات الاقتصادية المبرمة بين اسرائيل والطرف الفلسطيني تمنع الأخير من شراء نفس هذه المستلزمات من خارج اسرائيل وبأسعار أرخص، الأمر الذي يؤدي الى ارتفاع أسعار المدخلات الزراعية الفلسطينية وبالتالي أسعار المخرجات، مقارنة مع الأسعار الأرخص في الأقطار العربية المجاورة. وبالنتيجة، أدمن المزارعون على الأسمدة الكيماوية التي صاروا ملزمين بزيادة الكميات المستخدمة منها لنفس المساحات المزروعة، سنويا، نظرا لتسبب هذه الكيماويات بتناقص مستمر في خصوبة التربة، وكذا أيضا حال المبيدات الكيماوية، إذ أن استخدامها المتواصل من قبل مزارعينا ولد مناعة لدى الآفات ضد هذه المبيدات، فضلا عن تآكل التربة، مما حدى بالمزارعين الى زيادة كميات المبيدات المستخدمة سنويا، دون أن يؤدي ذلك الى تناقص الآفات الزراعية، بل بالعكس، فقد ازدادت الآفات انتشارا وظهرت أنواع جديدة منها، الأمر الذي يحول دون التحكم بها. كما أن الاعتماد على المدخلات الكبيرة من خارج الوحدات الانتاجية الزراعية أدى الى زيادة تكاليف الانتاج والمديونية، مما أرغم عددا لا يستهان به من المزارعين على هجر أراضيهم والعمل في أعمال أخرى، وبالنتيجة تدهور مزيد من الأراضي الزراعية. ناهيك عن تحكم اسرائيل المطلق بالمعابر والجسور والتلاعب في الأسعار العالمية التي هبطت كثيرا وهبط معها التصدير الفلسطيني.



فوضى الكيماويات:

نشهد حاليا نوعا من الفوضى والعشوائية الواضحتين في تسويق الكيماويات الزراعية واستخدامها، إذ أن إغراءات الشركات الاسرائيلية التي تزور المزارعين الفلسطينيين مباشرة أو من خلال وكلائهم المحليين تلعب دورا هاما في هذا الانفلات الكيماوي. والجدير ذكره أن أوضاع الأخيرين قد تحسنت في الآونة الأخيرة، ولم يتورع بعضهم، في ظل غياب الرقابة الرسمية أو الشعبية الجدية، من بيع مبيدات مغشوشة، وبنفس أسعار غير المغشوشة (للتمويه.

والحقيقة أن شركات الكيماويات الاسرائيلية تستخدمنا كحقل تجارب، إذ تعمل أولا على تسويق مبيداتها الجديدة (التي تنتجها أو تستوردها) في السوق الفلسطيني، ومن ثم تقرر تسويقها أو عدمه في السوق الاسرائيلي وغيره. وحاليا تنتشر في الضفة والقطاع عشرات أصناف المبيدات الكيماوية السامة والمحظورة والتي تستخدم بآلاف الأطنان سنويا، علما بأن بعض الأوساط تقدر نسبة المبيدات من إجمالي تكاليف الانتاج الزراعي الفلسطيني بما لا يقل عن 35%، وهي تعتبر من أعلى النسب في العالم(). والأنكى من ذلك، أن بعض النشرات الارشادية الصادرة عن مؤسسات رسمية وغير رسمية، والموجهة للمزارعين، توصي باستخدام بعض المبيدات الكيماوية التي حظر استخدامها دوليا أو منع استعمالها في العديد من دول العالم، بسبب أضرارها الصحية والبيئية الخطيرة، والأمراض المزمنة والمميتة التي قد تسببها للانسان().



ومن المفيد الاشارة هنا، الى أنه غالبا ما تكون شركات الكيماويات الزراعية المنتجة أو المسوقة هي المصدر الوحيد لمعلومات المزارعين أو المهندسين والمرشدين الزراعيين الخاصة بهذه الكيماويات، علما بأن أبحاثا عديدة في العالم أثبتت عدم دقة أو حتى خطأ معظم هذه المعلومات التي هدفها الأول والأخير الدعاية التجارية لسلعها الكيماوية. ونتج عن هذه المعضلة الأساسية معضلة أخرى تتمثل في الضعف الواضح في قدرة العديد من المهندسين والمرشدين الزراعيين على تشخيص المرض الزراعي وتحديد العلاج، بحيث تكون الكيماويات أول خيارات المهندسين، بدلا من جعلها الخيار الأخير(.



العامل الذاتي في تدمير الأرض والبيئة:

بالرغم من عوامل التدمير البيئي الموضوعية، والمتعلقة أساسا باسرائيل ومستعمراتها، إلا أننا كمجتمع فلسطيني نتحمل أيضا قسطا هاما من المسؤولية في التدمير البيئي الجاري. وبامكاننا إيجاز العامل الذاتي الفلسطيني في تدمير الأرض والبيئة بما يلي:

أولا: التقلص المستمر في مساحات الأراضي الفلسطينية المزروعة، ليس فقط بسبب المصادرات الاسرائيلية والتهويد، بل أيضا بسبب مواقف وسياسات وسلوكيات فلسطينية غير جذرية تجاه الأرض وانتاج الغذاء. وهنا لا بد من الاشارة الى ظاهرة اقتطاع أجزاء كبيرة من الأراضي الصالحة للزراعة لاقامة المنشآت والمباني، الأمر الذي يمس الأمن الغذائي والوطني الفلسطيني ويهدد بتدمير ما تبقى من بنيتنا الزراعية.

ثانيا: تقلص مساحات الأراضي الصالحة للزراعة بسبب إقامة المزيد من المنشآت الصناعية عليها، فضلا عن زيادة نسبة الكلس في الأراضي المحيطة بهذه المنشآت بسبب مخلفات الأخيرة، وبالتالي تدمير خصوبة التربة، بالاضافة لقتل الغطاء النباتي وتلويث المياه الجوفية والسطحية. ناهيك عن التأثيرات البيئية والصحية الخطيرة والمباشرة التي تحدثها الكسارات ومناشير الحجر الفلسطينية المنتشرة في المناطق الزراعية والسكنية. علما بأن سلطات الاحتلال هي التي رخصت (عمدا) معظم هذه الكسارات في المناطق المذكورة.

ثالثا: ينحصر اهتمام العديد من مزارعينا في مجرد تحصيل أكبر قدر ممكن من المداخيل والأرباح، حيث ينعدم لدى بعض المزارعين الحرص الضروري للحفاظ على التربة أو أنه لا يتبع الدورة الزراعية أو الممارسات الزراعية المستديمة التي يمكنها أن تحافظ على خصوبة التربة ومعدلات انتاج جيدة. لهذا نجد، باستمرار، المزيد من مشاكل التربة، كالارتفاع المتواصل في نسبة الملوحة والكلس في منطقة أريحا مث



نوفمبر 08, 2004, 12:02:36 صباحاً
رد #1

التواق للمعرفة

  • عضو خبير

  • *****

  • 2342
    مشاركة

    • مشاهدة الملف الشخصي
نحو استراتيجية زراعية بديلة ومعتمدة على الذات
« رد #1 في: نوفمبر 08, 2004, 12:02:36 صباحاً »
تعتبر الأرض والزراعة أهم مورد معيشي واقتصادي مضمون وثابت لشعبنا، ناهيك عن كونهما مكونا أساسيا من مكونات تراثنا وثقافتنا. إذ أن انتاجنا الزراعي في الماضي كان خيرا وغزيرا ومتنوعا وكنا نصدر فائضنا الزراعي. وتمتع ريفنا الفلسطيني باكتفاء ذاتي في كل احتياجاته الغذائية. فلماذا لا يتم توجيه شبابنا الذي يملك طاقات وقدرات انتاجية كبيرة كامنة ومشلولة، الى العمل الانتاجي في ما تبقى لنا من أرض، على أساس جماعي أو تعاوني أو فردي، بهدف التحول الى منتجين نحقق على الأقل اكتفاء ذاتيا في غذائنا وقد نسوق أيضا بعض الفائض للسوق، وبالتالي نحقق استقلالا اقتصاديا واستقرارا اجتماعيا؟ فالمطلوب ليس تنمية زراعية هدفها الأول والأخير الربح التجاري الذي لا ينتفع منه سوى قلة من الناس. ففي غزة والضفة الغربية، وخاصة في الأخيرة، توجد مساحات كبيرة من الأراضي الصالحة للزراعة لكنها غير مستغلة، ناهيك عن الأراضي المباشرة حول البيوت والتي بالامكان زراعتها والاستفادة من انتاجها. كما أن هناك مبان وعقارات ومواقع كثيرة مهملة أو مهجورة، فلماذا لا تقام في هذه المواقع المبادرات المجتمعية المنتجة في الزراعة وتربية الحيوانات والتصنيع الزراعي والغذائي وتنمية المواقع باتجاه تدوير وإعادة استخدام المصادر والنفايات والمياه العادمة والحصاد المائي ونشاطات لتحسين بيئتنا وتطوير أنظمة جديدة للانتاج والتصنيع الغذائيين وغير ذلك من النشاطات المجتمعية المنتجة التي يحتاج بعضها الى تدريب أولي وتوجيه سريعين للشباب، من قبل خبرائنا وفنيينا ومهندسينا المحليين والعرب وذلك بالتعاون مع المؤسسات التنموية والعلمية والجامعات المحلية للمساهمة في التنمية والبحث العلمي الخاصين بتطوير طرق انتاجية جديدة ذات مدخلات قليلة من الخارج مثل انتاج الطاقة الطبيعية من الشمس والرياح وتنقية المياه للشرب والزراعة وغير ذلك من التنمية الانتاجية التي تشكل ضمانا لأمننا الغذائي ولاستمرارية وجودنا ومستقبلنا.



فيما يتعلق بمواردنا المائية المنهوبة، فالمطلوب، بالدرجة الأولى، النضال المبدئي العنيد لانتزاع سيادتنا على مواردنا المائية. إلا أنه، وبالتوازي مع هذا النضال، وكجزء من اقتصاد الصمود، ونظرا لمحدودية الموارد المائية المتاحة لنا حاليا، وحيث أن توفر المياه يعتبر عاملا أساسيا في آية استراتيجية هدفها تحقيق زيادة كمية ونوعية في الانتاج الزراعي والغذائي، فمن الضروري أيضا العمل على استفادتنا القصوى والناجعة من مياهنا الطبيعية المتدفقة التي "تضيع" سدى، كاقامة أعداد كبيرة من آبار الجمع والسدود الترابية للاستفادة المباشرة من مياه الأمطار للاستخدامات الزراعية والبيتية، فضلا عن الاستفادة من مياه بعض الينابيع المنتشرة في الضفة الغربية. ومن الأهمية بمكان، أيضا، إعادة تدوير المياه العادمة في الزراعة، بهدف زيادة كمية مياه الري والتقليل من تلوث البيئة والمياه الجوفية. كما لا بد أيضا من تشجيع الزراعات البعلية وزراعة المحاصيل التي لا تتطلب كميات كبيرة من المياه.



وفي ظروف فقداننا الأمن الغذائي، فان التصدير الزراعي يجب أن يكون له الأولوية الأخيرة، وليس كما هو التوجه القائم حاليا والذي يضع التصدير الزراعي ضمن الأولويات الأولى بحجة توفير العملات الصعبة (العملات الصعبة لصالح من؟)، لأنه إذا توفر التوجه الصادق والحقيقي نحو التصنيع الزراعي والغذائي بهدف انتاج السلع الغذائية الضرورية والأساسية للناس، بدل استيرادها ، فستقل كثيرا الحاجة الى زراعة منتجات أحادية للتصدير.



من هنا تنبع أيضا مسألة التنويع الزراعي الذي لا بد أن يكون لب آية خطة وطنية للتنمية الزراعية وذلك لضمان أعلى قدر من الاكتفاء الذاتي الغذائي بهدف توفير الأمن الغذائي، الأمر الذي يقلل من التبعية للسوق الخارجي وقوانينه اللئيمة. ثم إن التنويع والتصنيع الزراعيين لا يعملان فقط على التقليل من التبعية الفلسطينية للاقتصاد الاسرائيلي والأسواق الخارجية، بل يضمنان أيضا ثباتا في أسعار المنتجات الزراعية واستقرارا اقتصاديا أكبر، فضلا عن مساهمة التنويع في الحفاظ على جودة أفضل للتربة والتقليل من الآفات الزراعية. وفي المحصلة، يشكل التنويع والتصنيع الزراعيين حافزا للفلاح الفلسطيني لفلاحة أرضه والتشبث بها.



كما ليس بالضرورة أن تترافق التنمية الزراعية باقتناء التكنولوجيا بكثافة، لأن التنمية الوطنية الحقيقية لا تضع الربح ضمن أولوياتها، خاصة إذا كنا معنيين حقا يالتنمية التي تهدف الى تكريس الاعتماد على الذات والتقليل بقدر الامكان من التبعية للخارج وتوفير أكبر عدد ممكن من فرص العمل للفلاحين والعمال، وذلك عبر الانتاج المحلي بهدف الاستهلاك في المناطق الفلسطينية ذاتها. من هنا لا بد من تطويع التكنولوجيا لضروراتنا وأولوياتنا المعيشية، بدل اللهاث وراء التكنولوجيا "المتقدمة". فبالامكان تشجيع الفنيين والمهندسين الفلسطينيين وبعض المشاغل والورشات المهنية في الضفة والقطاع على انتاج الآلات والمعدات التي تلبي الاحتياجات المحلية، فضلا عن إصلاحها وصيانتها.



التمفصل القطاعي:

كنموذج للتمفصل القطاعي، يمكن أن تكون التنمية الزراعية على صعيد قطري أم على صعيد القرية الواحدة قائمة باتجاه تكريس الاعتماد على الذات في إطار دائرة انتاجية داخلية. فعند زراعة الفلاح لأرضه لا بد أن يهتم بتربية الثروة الحيوانية التي ستوفر السماد الطبيعي اللازم للأرض وبالتالي الحد من استخدام الأسمدة الكيماوية السامة، فضلا عن الاهتمام بزراعة الأعلاف (خاصة الخضراء) للثروة الحيوانية، بدل شراء الأعلاف من الشركات الاسرائيلية التي تتحكم بتزويدها وبأسعارها المرتفعة. إذ أن عدم التوفر المنتظم للأعلاف الحيوانية يتسبب في خسائر كبيرة (ملايين الدولارات) لقطاعي الألبان والدواجن وبالتالي تفاقم العجز في الانتاج. علما بأن تكلفة الأعلاف تشكل حوالي 70% من إجمالي تكاليف الانتاج الحيواني السنوية.

كما بالامكان تشجيع مشاريع الصناعات الزراعية المترابطة والمتداخلة مع بعضها. مثلا مصنع لتعليب وحفظ اللحوم يكون مرتبطا، من ناحية، بمجموعة كبيرة من مربي الأغنام والأبقار وغيرهما، ويرتبط، من ناحية أخرى، بمصنع محلي آخر للعبوات المعدنية. ونفس مربي الثروة الحيوانية قد يرتبطون أيضا بمصنع حليب ومنتجاته، فضلا عن ارتباطهم بمزارعين آخرين يستخدمون روث الحيوانات لتسميد الأرض. وقد يزرع المزارعون الأخيرون وغيرهم القمح الذي يبيعونه على أساس تعاقدي مع مطحنة حبوب قطرية تكون مرتبطة بدورها بأفران ومصانع أغذية أخرى يشكل الطحين بالنسبة لها مادة خام أساسية. وهكذا يمكن مواصلة بناء المشاريع الزراعية والصناعية المحلية المترابطة والمتكاملة، وفي اطار دائرة انتاجية داخلية متوازنة انتاجيا وبيئيا وصحيا، تعيد، باستمرار، مخرجات الانتاج الى نفس النظام الانتاجي، والمغذيات العضوية الغنية الى التربة.



إن هكذا توجه تنموي لا يضع الربح ضمن أولوياته، لأننا نعالج التنمية الزراعية في اطار مشروع وطني يهدف الى تكريس الاعتماد على الذات. لهذا وفي اطار مثل هذا المشروع الوطني، فان الانتاج المحلي واستهلاكه في المناطق الفلسطينية ذاتها هما اللذان يفترض أن يحددا القيمة الحقيقية للسلع وبالتالي الأسعار التي ستكون منخفضة بالمقارنة مع السلع الأمريكية أو الأوروبية أو حتى الاسرائيلية التي تصنعها أيدي عاملة أجرها مرتفع.



الاقتصاد غير الرسمي:

يعتبر التوجه التنموي الزراعي غير الرسمي بمثابة مقاومة وطنية من أجل الصمود الاقتصادي، ويجوز لنا إدراجه في ما يعرف بالاقتصاد غير الرسمي الذي من الطبيعي أن يزداد قوة في ظل البطالة المرتفعة وتدني معدل الأجور وارتفاع الأسعار. وبالرغم من أن النشاط الاقتصادي عبارة عن النشاط الذي يضيف قيما مادية معينة، إلا أن الاقتصاديين الرسميين لا يقرون تقليديا بهذه القيم المادية إلا في حالة إمكانية قياسها سعريا في السوق عندما تباع السلع أو الخدمات لشخص أو جهة ما. لكن هذا التعريف للقيمة المضافة محدود وغير كاف لأنه يتجاهل النشاط الاقتصادي – الاجتماعي في اطار الاقتصاد غير الرسمي، كالنشاط التطوعي، العمل الزراعي النسائي غير المأجور، البستنة، النشاط الانتاجي المنزلي وغير ذلك. إذ أن أي شخص يأكل الخضروات التي زرعها في حديقته المنزلية أو يقدم بعضها مجانا لجيرانه، فاءنه في الواقع يعمل على خلق منتج ذي قيمة محددة لا يعترف بها "اقتصاد السوق" الذي يتعامل فقط مع النشاط التجاري الذي يتم من خلاله عرض السلع والخدمات في السوق حيث تتم المتاجرة بها بأسعار متفق عليها بين البائع والمشتري.



إجمالا، فان طبيعة السكن الريفي مناسبة أكثر من المدينة لممارسات الاقتصاد غير الرسمي المنتج والمكتفي ذاتيا، حيث بالامكان أحيانا كثيرة، الاستفادة من قطعة أرض للزراعة، من غرفة أو أكثر غير مستغلة، من كراج أوسقيفة وغيره. هذا لا يعني أن لا وجود في المدينة لمثل هذه الامكانيات، وإنما في حالة انعدامها فبالامكان تنظيم نشاطات مجتمعية منتجة تشارك فيها عدة عائلات أو أفراد.



ملاحظة حول مفهوم "التنمية المستدامة":

يعتبر تعريف "براندلاند" (عام 1987) للتنمية "المستدامة" ("تلبية احتياجاتنا الحالية دون المساومة في احتياجات الأجيال القادمة والذي يكرره معظم دعاة "التنمية المستدامة"، غير كاف. إذ أن جزءا صغيرا فقط من مجمل السلع الاستهلاكية في الدول الصناعية يمكن اعتباره فعلا "احتياجات". علما بأن انتاج معظم هذه السلع يعني مزيدا من تدمير البيئة والتربة. وكذا الحال لدينا، وإن بمدى أقل بكثير، حيث أن جزءا هاما من السلع التي نستهلكها (وغالبيتها مستوردة من اسرائيل والخارج) لا تشكل "احتياجات" أساسية وحيوية وبالتالي يمكننا الاستغناء عنها، مساهمين بذلك ليس فقط في تخفيف التدهور المتواصل في التوازن البيئي، وإنما نقلل أيضا من تسريب الفائض المالي المتراكم لدينا للخارج، وبالتالي إعادة استثمار هذا الفائض داخليا، استثمارا منتجا ومستداما.



ماهي الاستراتيجية الزراعية المعتمدة على الذات؟

في إطار التفتيش عن فرص الاستثمار في القطاع الزراعي، غالبا ما يتم تجاهل الممارسات والتجارب والأنماط الزراعية الطبيعية المتنوعة والمتداخلة التي لم تميز تقليديا، فلسطين، فحسب، بل ميزت أيضا سائر أنحاء الوطن العربي. ويكمن سبب هذا التجاهل، الى حد كبير، في مصلحة شركات الكيماويات والمعدات الزراعية "الحديثة" والبذور، فضلا عن مصلحة مؤسسات التمويل الدولية، في إحباط أي توجه تنموي يكون نتيجته التخلص من كابوس الكيماويات والتبعية لمستلزمات الانتاج الزراعي المستوردة، وبالتالي خسائر كبيرة في أرباح هذه الشركات والمؤسسات. علما بأنه، منذ احتلال عام 1967، حدث في المجتمع الفلسطيني (بالضفة والقطاع) انحراف كبير، من انتاج الغذاء المتنوع والمكتفي ذاتيا (في الريف الفلسطيني)، الى التبعية الاقتصادية والغذائية لاسرائيل. إذ امتلك معظم العائلات الريفية، قبل الاحتلال، أرضا خصبة غنية بالخضروات ومشجرة بالأشجار المثمرة والزيتون، فضلا عن بعض الدواجن والأغنام أو الماشية(وتميزت أنماط الانتاج الزراعي، آنذاك، بالتنوع الكبير والتداخل الذي عنى إقامة علاقات مفيدة بين مكونات وحدة الانتاج الزراعي والتقليل الى الحد الأدنى من المدخلات الخارجية والمخلفات الضائعة (بدون استعمال). حيث استخدمت بقايا المحاصيل لتغذية الحيوانات، واستعمل أهل الريف روث الحيوانات لتسميد حقولهم، وقاموا أحيانا بتحضير الزبل العربي أو "الدبال" من خليط الروث والمخلفات العضوية الأخرى(. كما أتاح العديد من المزارعين للرعاة بأن يرعوا ماشيتهم في الحقول التي تم حصادها، وبالتالي تسميدها. وشاعت أيضا ممارسة "تعاقب" المحاصيل المختلفة وتداخلها التكافلي في نفس قطعة الأرض، وخاصة تلك المحيطة مباشرة بالمنزل(. فضلا عن امتداد التنوع الزراعي ليشمل المناخات المحلية وأصناف التربة والمحاصيل المختلفة في إطار مترابط وتكاملي(). الأمر الذي قلل كثيرا من احتمالات الخسارة، ووفر للمزارعين دخلا وأمنا غذائيا مضمونين.



وفيما عدا بعض المناطق، كالأغوار، تميزت الزراعة الفلسطينية بكونها بعلية وقليلة المدخلات الخارجية)، ووفرت اكتفاءا غذائيا ذاتيا للعائلات الريفية، بل وأنتجت بعض الفائض للتصدير (كالقمح مثلا). كما أن المَزارع لم تنتج تلوثا، لأن كل أو معظم مخلفات ومخرجات المزرعة كان يعاد تدويره في نطاق المزرعة نفسها().



والحقيقة أن الزراعة البعلية لدى العديد من مزارعينا (مثلا، في منطقتي رام الله وسلفيت بالضفة الغربية)، لا زالت، جزئيا، تنسجم مع اتباع النمط الزراعي الطبيعي (التقليدي) الذي يعني بأن تبعية أولئك المزارعين لمدخلات الانتاج الخارجية وللتكنولوجيا الزراعية "الحديثة"، من ناحية الصيانة وقطع الغيار والكيماويات وغير ذلك ليست كبيرة( . لهذا لا بد من تشجيع هذا الواقع الايجابي، عبر تشجيع استخدام الأدوات والآلات الزراعية البسيطة والمصنعة محليا في الحراثة والري والتقليم والحصاد وغيره، فضلا عن تشجيع استخدام الحيوانات. بمعنى تطوير أو نقل التكنولوجيا المناسبة للزراعات الطبيعية والبعلية.



بالاضافة، فان المزارعين الذين لا زالوا يتبعون النمط الزراعي التقليدي والطبيعي لم ينزلقوا لاستخدام الكيماويات المكثفة في الزراعة. كما أن تدوير أو إعادة استخدام المخلفات الزراعية وروث الحيوانات كسماد طبيعي للتربة أو كوقود للطوابين لا زال يشكل ممارسة شائعة لدى أولئك المزارعين وغيرهم(. لهذا لا بد من تشجيع هذه الممارسة الزراعية والبيئية السليمة، من خلال تعميمها أو تطويرها لتشمل أيضا إعادة استخدام المخلفات الناتجة عن ذبح الحيوانات وفضلات الطعام وغيرها، بحيث يمكن تحويلها الى سماد عضوي ممتاز وبالتالي زيادة خصوبة التربة، وذلك عبر تشجيع أهل الريف، بشكل خاص، على عمل المكمورات الزراعية والأثلام الخصبة وغير ذلك. أو تحويل بعض المخلفات العضوية وفضلات الطعام الى غذاء للدواجن وغيرها.



لقد تضافرت عدة عوامل، في نفس الوقت، على تهشيم الممارسات الزراعية التقليدية والغنية السابقة. وتمثلت هذه العوامل أساسا في الاحتلال وما تلاه من مصادرات واسعة للأراضي ونهب لمصادر المياه، والتحول نحو العمل المأجور الرخيص في سوق العمل الاسرائيلي، والانزلاق باتجاه الزراعات الأحادية المكثفة وذات المدخلات الخارجية الكبيرة. والحقيقة أن المراعي القليلة التي لم "يغلقها" أو يصادرها الاحتلال، فقد رعت فيها الماشية لدرجة الاستنزاف.

علاوة على ذلك، فان مساحات واسعة من الأراضي الزراعية المحيطة بالمستعمرات قد تم تلويثها وتدميرها بنفايات ومجاري الأخيرة، فضلا عن استنزاف وتلويث الموارد المائية.



وكنتيجة لزيادة عدد العاملين المأجورين في اسرائيل والاقتصاديات الأخرى وبالتالي هجرة الأرض الزراعية، وتحول المجتمع الفلسطيني الى مجتمع استهلاكي يشتري معظم سلعه من اسرائيل والخارج (الضفة والقطاع تعتبران أهم وأكبر سوق خارجي لاسرائيل)، فقد انعدم التراكم الرأسمالي المحلي الذي لم يعاد استثماره محليا في الانتاج الزراعي أو الصناعي. كما تآكلت، لدى الأجيال الشابة، المعارف الخاصة بالممارسات الزراعية التقليدية. وفي نفس الوقت، تسببت الزراعات الأحادية والمدخلات الخارجية المرتفعة (وخاصة في المناطق المروية) وأصناف البذور الغريبة (المهجنة) التي حلت مكان البذور البلدية، في تآكل التنوع والتداخل اللذين سادا أنماط الانتاج السابقة، وبالتالي اختلت ميكانزمات السيطرة البيولوجية والايكولوجية الطبيعية على الآفات، الأمر الذي أدى الى هجوم آفات زراعية جديدة وكثيرة لم نعرفها قبل سنوات قليلة خلت، وتفاقم استخدام الكيماويات الزراعية المستوردة من اسرائيل، وتلاشت تقريبا طرق تخصيب التربة التقليدية الناجحة(. كما أخذ مربو الثروة الحيوانية يشترون الأعلاف ومركزاتها من اسرائيل(). وبالمحصلة ارتفعت كثيرا، تكاليف الانتاج وتفاقمت مديونية العديد من المزارعين، وفقد المجتمع الفلسطيني، الى حد كبير، أمنه الغذائي.



وما دام هذا هو واقعنا الاقتصادي – الزراعي (الغذائي) الحالي، فان الهدف الأول لآية استراتيجية تنموية يفترض أن يكون ضمان الأمن الغذائي للناس، وبالتالي فان أي اعتبارات اقتصادية أخرى، كزيادة الصادرات أو الاستثمار في قطاعات اقتصادية أخرى يجب أن تكون هامشية أمام هذا الهدف الاستراتيجي المصيري والحاسم. علما بأن المؤسسات الدولية (البنك الدولي) واسرائيل وأدواتها المحلية، تمارس على مزارعينا ضغوطا متعددة الأشكال، وأحيانا عبر تقديم بعض الاغراءات الربحية الآنية، ليتحولوا الى الانتاج الزراعي الأحادي (التصديري)، بذريعة الحاجة الى "العملات الصعبة" و"تصحيح" ميزان المدفوعات.



ولتحقيق أمننا الغذائي لا بد من وصولنا الى درجة انتاج كل احتياجاتنا الغذائية الأساسية وبالتالي تحقيق استقلالنا الغذائي (والاقتصادي) عن اسرائيل. فضلا عن انتزاع سيادتنا السياسية على أرضنا ومصادرنا وشؤوننا الحياتية. وبالرغم من أن هدف تحقيق سيادتنا السياسية لا زال بعيد المنال، إلا أن هدف تحقيق الاستقلال الغذائي يعتبر أقرب منالا وأكثر واقعية، كما أنه يشكل مفتاحا للتحرر السياسي.

وبامكاننا القول، إن البديل للسياسات والممارسات الاقتصادية – الزراعية المهيمنة حاليا، والتي لا تعمل سوى على تعميق تبعيتنا وانعدام أمننا الغذائي، يتمثل في اتباع استراتيجية انتاجية تستند الى مواردنا وتجاربنا وتقاليدنا الانتاجية المحلية الغنية (وتطويرها) أولا، وإنتاجنا الغذاء بهدف استهلاكه محليا (خاصة مع التزايد السكاني المتواصل) ثانيا، وإعادة التدوير المحلي للرأسمال، ثالثا.



التحرر من التبعية لمدخلات الانتاج الخارجية:

إن تحليل مجمل المشاكل التنموية في الضفة والقطاع والسياسات والاستراتيجيات الاقتصادية القائمة التي ينطلق معظمها من حقيقة كون الاقتصاد الفلسطيني ملحق بالاقتصاد الاسرائيلي والتي لا تسهم، غالبا، سوى في تعميق هذا الالحاق، يقودنا الى ضرورة إجراء عملية إعادة بناء لتفكيرنا التنموي، باتجاه البحث عن جذور الأزمة أو المشكلة التنموية والخروج بتصورات شاملة ومتماسكة عن مجمل المسائل التنموية المعالجة، وبالنتيجة ترجمة هذه التصورات من قبل الجهات والمؤسسات المعنية الى قرارات ومواقف فعالة وعمليات تغيير وتطوير نوعية في المجالات الانتاجية.



على الصعيد الزراعي، تحديدا، فان ما يميز الانتاج الزراعي الفلسطيني، بشكل عام، هو اعتماده على مدخلات الانتاج المكلفة من خارج المشاريع الزراعية، بمعنى ارتفاع كبير في تكاليف الانتاج وبالتالي ارتفاع أسعار المخرجات. من هنا تنبع الحاجة الى تشجيع أنماط الانتاج الزراعي المتداخلة والتي تستفيد من التقاليد والممارسات الزراعية الطبيعية والعضوية المتمفصلة داخليا وقليلة المدخلات الخارجية. ويعتبر هذا التوجه شرطا أساسيا وضروريا لفك الارتباط بالمدخلات الخارجية من اسرائيل وغيرها وضمان التنوع الانتاجي والأمن الغذائي.



وبالملموس، فان المطلوب، إذا أردنا حقا فك الارتباط غذائيا واقتصاديا باسرائيل وضمان التنوع والأمن الغذائيين، التخطيط لأنماط زراعية تتجنب استخدام الكيماويات وبالتالي تقليل التلوث والأضرار على البيئة والتربة والموارد المائية والانسان. كما لا بد من تطوير أنماط زراعية بيئية (منسجمة مع البيئة والطبيعة)، بحيث يتاح للعلاقات والعمليات الطبيعية أن تأخذ مجراها وبالتالي صيانة وتحسين خصوبة التربة والتحكم الفعال والصحي بالأمراض والآفات والأعشاب الضارة. وهنا تأتي أهمية تشجيع المزارعين على العودة الى انتاج واستخدام البذور البلدية. علما بأن هناك، حاليا، في الضفة والقطاع ندرة حقيقية في معظم أصناف البذور البلدية، بل وأحيانا اختفاء بعضها نهائيا. إذ ومنذ سنوات طويلة عمدت شركات البذور المهجنة والكيماويات الى إخفاء بذورنا البلدية من السوق، لتحل مكانها البذور المهجنة. علما بأن النباتات النامية من البذور البلدية تمكن المزارعين من جمع وتخزين البذور للموسم القادم، من نفس النباتات وثمارها، الأمر الذي لا يمكننا القيام به في حالة النباتات النامية من البذور المهجنة التي تلزم المزارع أيضا على شراء الأسمدة والمبيدات الكيماوية الضرورية لنمو النباتات من البذور المهجنة التي تسبب تآكلا متواصلا في خصوبة التربة. بينما البذور البلدية تنمو جيدا مع السماد البلدي. بمعنى أن المصلحة التجارية الأنانية بالدرجة الأولى هي التي تقف وراء إغراق السوق المحلي بالبذور المهجنة وما يلزمها من كيماويات. ومن المعلوم أن البذور البلدية مناسبة لظروف مناخنا الجاف أو شبه الجاف ولا تحتاج الى مياه كثيرة، بعكس البذور المهجنة. من هنا تنبع أهمية عودة المزارعين الى انتاج البذور البلدية سنويا بأنفسهم بهدف إعادة استخدامها في الموسم التالي، وخاصة في زراعات الحبوب والخضروات. علما بأنه قبل نحو اثني عشر سنة كان العديد من مزارعي منطقة نابلس يعتمد على البذور والأشتال البلدية التي يوفرها بنفسه والتي تتميز بكونها أقل انتاجا ولكنها أكثر مقاومة للأمراض. وإجمالا يفترض المزارع بأن البذور والأشتال المهجنة تعطي انتاجا أكبر وزراعتها أسهل، متجاهلا استهلاكها كمية كبيرة من المياه وحاجتها الى الأدوية والأسمدة الكيماوية الضارة بالتربة وغيرها الكثير من الخدمات.



وليس أمرا مستحيلا إرجاع البذور البلدية. إذ بامكان كل مزارع تكوين هذه البذور التي تتوفر لدى العديد من بيوت المزارعين الذين يستخدمونها على مستوى بيتي. إلا أنه، وبسبب الاتكالية على البذور والأشتال الاصطناعية، نظرا لسهولة الحصول عليها من السوق، فاننا لا نحمل أنفسنا عناء إنتاج البذور البلدية وفق الطرق التقليدية المعروفة(. فعلى سبيل المثال، شتلة البندورة المهجنة التي نشتريها من السوق لا تعطي ثمارا كما الشتلة البلدية، بالرغم من نمو الشتلة الاصطناعية السريع والقوي والتي تبدو كالشجرة الجميلة، إلا أنها تنتج كمية أكبر من الثمار لمدة محدودة في الموسم وعلى دفعة واحدة، أو، أحيانا، على دفعتين ومن ثم تتوقف. بينما يبقى انتاج شتلة البندورة البلدية لمدة أربعة أشهر أو أكثر(. علما بأن تكلفة الانتاج لدى استخدام البذور المهجنة أكبر. علاوة على أن الشبكة الجذرية للأشتال المهجنة لا تخترق التربة بعمق، كما في حالة الأشتال البلدية التي تتمدد جذورها بعمق وبقوة أكبر لتفتش عن الرطوبة في باطن الأرض، حتى وإن لم نروها. وعلى سبيل المثال، فان عمق امتداد شبكة جذور الفقوس والبندورة البلديتين، يكون بقدر طول الساق لغاية آخر برعم. بينما الأشتال المهجنة التي لا نعرف أصلها فتكون جذورها قصيرة، خاصة وأننا لا نملك كميات كافية من المياه(. إذن في الزراعة البعلية والمتداخلة يفضل استخدام البذور البلدية.



والأهم من كل ما ورد، ضرورة التعامل مع الجوانب والآثار الاجتماعية والأخلاقية لأي نمط زراعي، بما لا يقل أهمية عن حسابات الربح والخسارة المالية البحتة.



وفي هذا السياق، من الضروري تثبيت النظام الزراعي المتداخل الذي يعني إقامة العلاقات المفيدة بين مكونات وعناصر النظام. بمعنى تحديد احتياجات (أو مدخلات) ومخرجات كل مكون من مكونات المشروع الزراعي وبالتالي تحديد كيفية الترابط التكاملي داخليا بين مختلف المكونات. إذ كلما ازداد الترابط بين مختلف مكونات وحدة الانتاج الزراعي قوة، كلما ازداد النظام الزراعي البيئي استقرارا وقدرة على التكيف مع التغيرات الطارئة(.

وليس المقصود هنا إدخال عناصر خارجية ومدخلات جديدة للنظام الزراعي، بل البدء باعادة تنظيم مكونات وموارد الوحدات الزراعية القائمة، بحيث يبقى تدفق الموارد والطاقة في نطاق نفس النظام. ولهذا الغرض، لا بد من تحديد الاستعمالات الممكنة للعديد من مخرجات النظام الزراعي غير المستفاد منها حاليا والتي قد تقذف باعتبارها "نفايات" وبالتالي تساهم في تلويث الأرض والبيئة. ومن ثم، تحديد المدخلات اللازمة للنظام الزراعي والتي يتم تلبيتها، حاليا، من خارج الوحدات الانتاجية نفسها. وأخيرا، ربط مدخلات ومخرجات نفس النظام ببعضها البعض، عبر تحديد المدخلات اللازمة لمكونات معينة في النظام الزراعي والتي بامكان المخرجات الناتجة من المكونات الأخرى في نفس النظام تلبيتها(. بمعنى أن التصميم الجيد للوحدة الزراعية، على أساس تكامل وتداخل عناصرها المختلفة، بحيث يقوم كل عنصر بداخلها بعدة وظائف في نفس الوقت، وبحيث تلبي عناصر مختلفة احتياجات وظيفة واحدة محددة، يعتبر مفتاح النجاح للانتاج الزراعي المتنوع والمكتفي ذاتيا، فضلا عن تجنب المنافسة بين المحاصيل وبالتالي توفير الظروف المناسبة التي تضمن منع تآكل التربة أو دمار المحاصيل الناتج عن العوامل الطبيعية (الرياح، الصقيع، الجفاف…الخ) أو غير ذلك(. مثلا، الأغنام تشكل مصدرا للطعام ولتخصيب التربة وللدخل وغيره. أما وظيفة تخصيب التربة فيمكن إنجازها عبر إضافة مهاد أوراق وأغصان الأشجار، السماد، الغطاء العضوي وغير ذلك(. كما بامكاننا تنويع زراعة الزيتون بشكل متداخل وتكاملي مع بعض المحاصيل العلفية والأعشاب المفيدة وغيرها(. بمعنى الاستفادة القصوى من مساحات الأراضي المتاحة، وفي نفس الوقت، تجنب المنافسة بين المحاصيل على الضؤ والموارد الأخرى(. كما أن زراعة الأشجار ومصدات الرياح (البلوط مثلا)، على طول حدود الأرض الزراعية يمكنها أن تلعب دور الأسيجة الواقية من الحيوانات الضارة للمحاصيل وصد الرياح. علما بأن الأشجار المزروعة على طول الجدران الاستنادية (الخروب، البلوط والعنب مثلا) تزيد من القدرة على التحكم الفعال بجريان المياه وبتآكل التربة. فضلا عن استفادتنا من ثمار وأوراق نفس الأشجار (العنب وورقه مثلا) وخشبها (كوقود: البلوط والخروب وغيرهما) وقشورها وأوراقها كعلف حيواني (قشور وأوراق الخروب مثلا.. ناهيك أن زراعة النباتات البقولية تزيد من قدرة التربة حولها على الاحتفاظ بالمياه والمغذيات. وفي مثل هذا النظام، تشكل الأعشاب المزروعة أعلافا خضراء في الشتاء، كما بالامكان حصادها، في بداية الربيع وتخزينها كعلف (تبن وغيره)، الى جانب الاستفادة من قشور وأوراق الخروب والجفت ومخلفات تقليم أشجار الزيتون وغيرها، كأعلاف أيضا.

علاوة على ذلك، لا بد من تنظيم عملية الحصاد المائي لمياه الشتاء المتدفقة والضائعة عبر الصخور والمنحدرات وغيرها، وتوجيهها عبر قنوات الى البيارات أو الأشجار المتفرقة. وبهدف منع تنافس الأعشاب الضارة مع أشجار الزيتون، من المفيد تغطية محيط الأشجار بالغطاء العضوي الذي يمنع نمو الأعشاب ويصون بنية التربة ويحافظ على رطوبتها الداخلية، علما بأن الغطاء العضوي الجيد قد يغنينا عن الحراثة.



بالاضافة، بامكان مجموعات أسرية معينة تهتم بزراعة أراضيها، الاستفادة من الروث الناتج من مجموعات أسرية أخرى. وهذا ينطبق أيضا على مخلفات المطبخ والمياه العادمة وغيرها. بمعنى تقوية العلاقات الانتاجية المتكاملة والمفيدة بين وحدات الانتاج الأسرية المختلفة وبالتالي تقليل التبعية للمدخلات الخارجية.

كما بالامكان إحياء تقاليد التداخل الزراعي، كرعي الحيوانات مثلا في الحقول بعد حصادها. فضلا عن التحضير الجماعي (الأسري) للدبال في مواقع متفق عليها بين الأحياء (في القرية أو المدينة)، أو حتى زراعة بعض الأراضي غير المستفاد منها حاليا بالمحاصيل العلفية.

كما هناك بعض الأشجار الشائعة في بلادنا والتي بامكاننا الاستفادة من مكوناتها ومخلفاتها، كأشجار الصبر، مثلا، التي، وبالاضافة لثمارها أو لكونها "سياجا" طبيعيا واقيا حول الأراضي، فباستطاعتنا أيضا استعمال أوراقها، بعد تجفيفها، كوقود للتدفئة وغيرها، وبالتالي التقليل من أو استبدال جفت الزيتون كوقود للطوابين وغيره والاستفادة منه أكثر كمكون من مكونات العلف الحيواني.



إجمالا، الزراعات المتداخلة والمتنوعة تترك آثارها المفيدة على مجمل الانتاج الزراعي وتقلل من احتمالات المخاطرة، بالاضافة لمنع تسرب جزء هام من المغذيات المفيدة للتربة الى خارج الوحدات الانتاجية، بل ضمان إعادتها كمغذيات للأرض. مثلا، بامكاننا دائما زيادة تدفق المغذيات والموارد من قطعة أرض لأخرى، كنقل مخلفات أشجار الزيتون (بقايا التقليم والأوراق) الى الأراضي الزراعية الخصبة التي تحتاج لهذه المخلفات العضوية كمغذيات للتربة، فضلا عن الاستفادة من الأزبال (على شكل دبال) ورماد الطوابين لتسميد التربة وتليينها.

علاوة على ذلك، أثبتت بعض التجارب بأن لمحاصيل معينة (التي تتحمل الحياة في هوامش الأراضي غير المستغلة) القدرة على زيادة الجدوى الاقتصادية لانتاج الزيتون، ومن هذه المحاصيل، على سبيل المثال، بعض الأعشاب الطبية، اللوزيات، الرمان والتين.



وعلى مستوى قطري، الانتاج الغذائي المتنوع والمتداخل، لا يعني الاستفادة من المخلفات الزراعية والغذائية في النطاق الزراعي أو البيتي فقط، بل يشمل أيضا كميات ضخمة من مخلفات الصناعات الغذائية التي تختزن طاقة تحويلية كبيرة، ومع ذلك فانها تقذف في المزابل، كنفايات. إذ أن إعادة استخدام معظم هذه "النفايات" لا يتطلب استثمارا ماليا كبيرا أو تكنولوجيا معقدة. مثلا بامكاننا الاستفادة، جزئيا، من لب الحمضيات الناتج من صناعات العصائر، بعد تجفيفه ومعالجته، كعلف حيواني. كما أن بعض الباحثين المحليين يؤكد بأن أوراق أشجار الموز (في الغور) بامكانها أن تشكل مصدرا جيدا للألياف والمعادن للحيوانات، علما بأن أشجار الموز، عندما تهرم، يتم قطعها وإتلافها. والغريب في الأمر أننا نستورد من اسرائيل ليس فقط مكونات الأعلاف الخام، بل أيضا بعض المنتجات الزراعية الجانبية التي تعلف بها الأغنام، كقشور اللوزيات الخضراء (اللينة) مثلا، علما بأن اللوزيات البلدية كانت في الماضي غير البعيد من الزراعات الفلسطينية الرئيسية، وبالتالي بامكاننا إحياء وتكثيف زراعتها بهدف الاستفادة من مخلفاتها كمصدر علفي محلي.ناهيك عن آفاق استخدام مخلفات عصر الزيتون السائلة كجزء هام من مكونات الغذاء الحيواني.



وبشكل عام، بامكاننا إعادة تدوير استخدام معظم نفايات المدن ومخلفات التصنيع العضوية والفضلات البشرية لدينا، كمغذيات عضوية للتربة، بعد معاملتها بالطرق المناسبة والسهلة وغير المكلفة. إذ أن النفايات الناتجة عن الصناعات الغذائية، غالبا، لا يتم التخلص منها بطرق سليمة بيئيا وصحيا، وبالتالي تتحول الى مصدر أذى للصحة العامة، ناهيك عن فقدانها لقيمتها، كمصدر عضوي هام، بامكاننا إعادة استخدامه في الزراعة. إذ بامكاننا تطوير قطاع صناعي متخصص باعادة تحويل المخلفات العضوية بشكل عام ومخلفات التصنيع الغذائي أو الزراعي بشكل خاص. مثلا، بامكاننا تحويل الجفت (من مخلفات عصر الزيتون) الى مواد علفية أو أن نستخرج منه الفحم وغير ذلك. كما يمكننا الاستفادة من مخلفات عصر الزيتون السائلة في صناعة مواد التجميل. ناهيك عن بقايا القشور في مصانع العصير أو مخلفات تصنيع الحمضيات ("مولاس" القشور مثلا) التي بامكاننا إعادة استخدامها كعلف حيواني ذي قيمة غذائية مرتفعة، علما بأن روث وبول الحيوانات المسمنة تسمينا طبيعيا جيدا يشكلان سمادا ممتازا للتربة. ومن المجدي أيضا العمل على استخراج وتصنيع الزيوت النباتية من قشور الحمضيات وغيرها، فضلا عن إعادة تصنيع بذور الزيتون والحمضيات والفواكه، وإعادة تحويل بقايا الخضار التالفة وغير ذلك الكثير من آفاق الصناعات العضوية التحويلية.

وفي مواجهة مشكلة تصريف المخلفات الناتجة عن عمليات ذبح وتجهيز الدواجن ولتوفير نفقات التخلص من هذه المخلفات وبالتالي تأمين دخل إضافي للمسالخ ومحلات ذبح الدواجن، فبالامكان إعادة استخدام هذه المخلفات كغذاء جيد للدواجن (مصدر جيد من مصادر البروتين الحيواني)، حيث تعبأ (بعد معالجتها) وتباع لمزارع الدواجن كعلف (مسحوق مخلفات وريش.

وحيث أن القسم الأكبر من نفاياتنا في الضفة والقطاع عبارة عن مواد عضوية (فضلات الطعام ومخلفات معاطات الدواجن والمسالخ، الورق، الشعر، الريش، نجارة الخشب، بقايا المحاصيل والخضار والفواكه التالفة…الخ) قد تصل الى أكثر من 60%، وفي المناطق الزراعية كطولكرم أو جنين مثلا فان النسبة أعلى بكثير من ذلك. فبامكاننا تحويلها (المواد العضوية) الى "كمبوست" وغيره من أشكال السماد العضوي المخصب للتربة وبالتالي التخلص من الكيماويات في الزراعة، المكلفة والمدمرة للحياة في التربة والمسيئة لصحة الانسان والملوثة للبيئة وللمياه الجوفية. بمعنى تحويل الفضلات والنفايات العضوية الى ثروة غذائية للنبات والحيوان والتربة، وكل ذلك بدون تكلفة أحيانا أو بتكلفة زهيدة جدا، أحيانا أخرى.



ويكمن جوهر مبدأ تدوير المصادر المحلية في حقيقة أن المخرجات "الضائعة" أو النفايات الناتجة من أي نظام انتاجي أو استهلاكي، ما لم يعاد إدخالها الى نفس النظام واستعمالها ثانية كمدخلات فانها سوف تتحول الى تلوث. إذ أن أي منتج لا مجال لاعادة استعماله يعتبر خطرا بيئيا، وفي حالة عدم تحلله الى مادة(أو مواد) آمنة فسيبقى مشكلة بيئية وبالتالي صحية.



إذن، التنويع في الانتاجين النباتي والحيواني، وإعادة تدوير المصادر والمخلفات، والتعامل بيئيا بشكل أفضل مع الأراضي المتاحة، يعتبر أكثر جدوى، بيئيا وصحيا واجتماعيا واقتصاديا، ويشكل ضمانة أقوى للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والاستقلال الغذائي.



وفي الخلاصة، النظام الانتاجي المجدي والمعتمد على الذات هو النظام الذي يدعم نفسه بنفسه، بحيث أن احتياجات مكوناته المختلفة توفر من داخل النظام نفسه، وبالتالي فهو النظام الذي لا يعرف التبذير في الانفاق أو توليد المخلفات (الضائعة) التي لا يعاد استخدامها في نفس النظام وبالتالي تشكيلها ملوثات للبيئة وللصحة العامة.



المنظمات الأهلية:

لقد كانت الخدمات الزراعية، قبل فترة الحكم الذاتي الفلسطيني، ولا زالت الى حد بعيد، ضعيفة، بل وشبه معدومة في بعض المناطق، كما في منطقة طوباس (أكبر المناطق الزراعية الفلسطينية) والغور الشمالي وقرى منطقة قبلان (قضاء نابلس) في الضفة الغربية. إذ لا وجود لخدمات القروض الزراعية الميسرة والتسويق الزراعي والتعبئة والتغليف وتوفير الآلات الزراعية البسيطة، فضلا عن عدم توفير المدخلات الزراعية (أسمدة، بذور، أشتال…الخ) بأسعار مخفضة. كما ان جهاز الارشاد الزراعي ضعيف جدا وغير منتشر في العديد من المناطق. وهناك، إجمالا، غياب في الاهتمام والدعم الفعليين للمزارع. ناهيك عن انعدام أي نوع من تعويض المزارع عن الخسائر التي يتكبدها سنويا، بسبب الممارسات الاسرائيلية، أو بسبب كساد المحاصيل التي لم تسوق أو نتيجة للكوارث الطبيعية.



وفي ظل هذا الواقع التنموي الزراعي البائس، عملت بعض المنظمات الفلسطينية غير الحكومية (اتحاد لجان الاغاثة الزراعية، مركز العمل التنموي/"معا"، اتحاد العمل الزراعي وغيرها) ولا زالت تعمل، على سد بعض الفجوات الخدماتية، في مجالات التدريب والارشاد الزراعيين، إقراض زراعي (متواضع)، استصلاح مساحات محدودة من الأراضي، شق بعض الطرق الزراعية، حفر بعض آبار وخزانات الجمع. فضلا عن توفير بذور وأشتال الخضروات والأشجار المثمرة بأسعار مخفضة. كما هناك محاولات متواضعة من قبل بعض المنظمات الأهلية (كالاغاثة الزراعية و"معا")، لتدريب المزارعين والمهندسين والمرشدين الزراعيين على الممارسات والتقنيات الزراعية العضوية والصحية والبيئية السليمة وقليلة المدخلات الخارجية، مثل الحصاد المائي، التشتيل والاكثار، تقنيات تحضير "الكومبوست"، الأعشاب الطبية، الزراعة العضوية، إدارة وإعادة استخدام المياه وتصميم الحدائق المروية على المياه الرمادية.

كما تعمل بعض المؤسسات الأهلية على توفير المعلومات في المجالات الزراعية وإدارة المياه والمشاريع الانتاجية وغيرها، فضلا عن محاولة التأثير على القرارات والسياسات الزراعية الرسمية. إلا أنه، من غير الواضح، مدى جدوى وفاعلية هذه النشاطات فعليا على الأرض، من حيث حجم الفئات المستهدفة والمستفيدة من هذه النشاطات ومدى قدرة المؤسسات على الوصول الى فئاتها المستهدفة ومدى عدالة توزيع الخدمات ومدى تبني المؤسسات غير الحكومية لنشاطات لا تقوم بها السلطة الرسمية وطبيعة علاقة هذه المؤسسات بالفئات المستفيدة ومدى مشاركة هذه الفئات في صنع قرارات المؤسسة و في أنشطتها.



بالاضافة، وفي غياب مراكز أبحاث زراعية (رسمية أو غير رسمية) متخصصة في الضفة والقطاع، أنتجت بعض المنظمات غير الحكومية (كمؤسسات "أريج" و"معا" والاغاثة) عددا محدودا من الأبحاث الزراعية، وأصدرت بعض النشرات الزراعية الارشادية، فضلا عن الملاحق والصفحات الزراعية في الصحف المحلية.



نوفمبر 08, 2004, 12:05:15 صباحاً
رد #2

التواق للمعرفة

  • عضو خبير

  • *****

  • 2342
    مشاركة

    • مشاهدة الملف الشخصي
نحو استراتيجية زراعية بديلة ومعتمدة على الذات
« رد #2 في: نوفمبر 08, 2004, 12:05:15 صباحاً »
وبالاضافة لقيود المنظمات الأهلية المالية، تعاني الأخيرة من نقص في الكادر التنموي الماهر والمدرب والمجرب والمتعاطف، فعليا، لا نظريا، مع معاناة وآلام الفلاحين، الأمر الذي يعتبر معيقا أساسيا امام توسع وانتشار هذه المنظمات، أفقيا وعموديا. ناهيك أن المؤسسات الرسمية والحكومية، كثيرا ما تتعامل مع المنظمات غير الحكومية باعتبارها منظمات هواة عابرة. وبدلا من التعاون كشركاء متساوين، تحاول السلطة (الحكومة) أحيانا، تحجيم هذه المنظمات أو دمجها بها أو تحويلها الى مجرد فروع تابعة لأجهزة الارشاد الزراعي الرسمية.

على أي حال، امتازت بعض المنظمات الأهلية الفاعلة في القطاع الزراعي، ولا زالت تمتاز، في اتباعها منهجية التدريب أو الارشاد الزراعي بالمشاركة (مع المزارع)، وتشخيص الاحتياجات البحثية من خلال مشاركة المزارعين أنفسهم، فضلا عن تطبيق أسلوب مراقبة وتقييم التقنيات الزراعية الجديدة.



وبسبب المعيقات المالية ومحدودية وضعف وأحيانا غياب الخدمات الزراعية المقدمة للمزارعين (خدمات الارشاد والتدريب الزراعي، خدمات التسويق والتعبئة والتغليف وتوفير آلات زراعية ومواد وأشتال بأسعار منخفضة، القروض والتمويل وغير ذلك) فان تطوير علاقات التعاون بين المنظمات الأهلية والمؤسسات ومراكز الأبحاث الزراعية الرسمية، يصبح أمرا ضروريا. إذ بامكان المنظمات الأهلية سد الفجوة الناتجة عن ضعف الخدمات الزراعية، وخاصة في مجال توفير وتوزيع بعض المدخلات الزراعية كالبذور البلدية وغيرها، أو تقديم الارشادات والخدمات التقنية، أو تطوير التقنيات الزراعية المستخدمة من خلال مشاركة المزارعين أنفسهم في تجربة بعض التقنيات وتقييمها. علما بأن مقياس مدى نجاح نظام تقني زراعي معين يفترض أن يكون من خلال أداء المزارعين وكيفية وجدوى استخدامهم لهذا النظام، وبالتالي مدى مساهمته في تطوير العمل الزراعي.

وتجدر الاشارة، هنا، الى أن بعض الخدمات الزراعية الحكومية في بلدان "العالم الثالث"، تأثرت بشكل واضح، من أساليب العمل والمناهج التي امتازت بها المنظمات الأهلية العاملة في المجال الزراعي، مثل أسلوب المشاركة والتقييم الأولي السريع.



أخيرا، لا بد من التنويه الى أن التمويل الأجنبي والدولي للقطاع الزراعي هامشي وغير ذي أهمية. ومما لا شك فيه أن "المساعدات" والقروض الغربية المنوحة للفلسطينيين (سلطة ومؤسسات غير حكومية) ليست أكثر من "مساعدات" سياسية شكلية في جوهرها تهدف الى ما يسمى "دفع مسيرة السلام" المتعثرة، ولا علاقة لها ببناء البنية التحتية والتنمية الفعلية على الأرض. إذ أن القطاعات التي يتم اختيارها للاستثمار الأجنبي والمشاريع المرشحة للتمويل يحددها أساسا "المانحون" بالاتفاق مع البنك الدولي واسرائيل. لهذا لا يحول "المانحون" سوى "مساعدات" هامشية باتجاه الاستثمارات الانتاجية في قطاع الزراعة. إذ بينما حصل ما يسمى ببرامج "الديمقراطية" و"حقوق الانسان" على 68.91 مليون دولار من أصل 1527 مليون دولار دفعتها الدول "المانحة" في الفترة الواقعة بين أيلول 1993 وأيار 1997 (أي أكثر من 4.5% من إجمالي المبلغ المدفوع في الفترة المذكورة)، فقد خصص لقطاع الزراعة، في نفس الفترة، 18 مليون دولار، أي أقل من 1.2% من إجمالي "العون الدولي.

إن تجاهل وتهميش القطاع الزراعي ناتجان عن كونه مرتبط أساسا بالأرض والمياه وبالتالي فان "المانحين" غير معنيين بتجاوز الاتفاقات الاسرائيلية - الفلسطينية التي أبقت السيادة السياسية على الأرض والمياه لاسرائيل.




خلاصة، استنتاجات وتوصيات



إذا كان لا بد من التصدير الزراعي، فيجب ألا يكون ذلك قبل تلبية كل احتياجاتنا الغذائية الأساسية من إنتاجنا المحلي، ومن ثم بامكان الزراعة التصديرية أن تستند الى تنوع الانتاج أولا وزراعة منتجات عضوية (خالية من الكيماويات) ثانيا، حيث أن الطلب على الأخيرة يزداد باستمرار في الأسواق العالمية عامة والغربية خاصة، وبامكان مزارعينا (عربا وفلسطينيين) التفوق في هذا المجال والاستفادة من مزايا استراتيجية حقيقية في المنافسة على الأسواق الخارجية، وذلك بالاعتماد على قوتنا الزراعية المحلية الكامنة وتراثنا الزراعي الطبيعي والعضوي الغني الذي لم يعرف، قبل عشرات السنين فقط، الآفات الزراعية الكثيرة التي غزت محاصيلنا مع قدوم الزراعة "الحديثة" الى منطقتنا.



وفي ظل ما يسمى بالعولمة واتفاقيات الغات التي تدعو الى إزالة الحواجز الجمركية وغير الجمركية أمام السلع والاحتكارات الأجنبية التي، وفقا لهذه الاتفاقيات، "يجب" أن تمنح مزايا وأفضليات وبالتالي رفع الحماية عن المنتجات المحلية، لم تنجح الأقطار العربية، حتى الآن، في تأسيس تكتل عربي فعال يستفيد من نصوص اتفاقيات الغات التي تعفي أعضاء التكتل من منح المزايا والأفضليات للدول غير الأعضاء في التكتل.

إن إقامة مثل هذا التكتل الاقتصادي العربي (الاقليمي) يشكل ضرورة وجودية واستراتيجية لحماية الوطن العربي ومنتجاته الزراعية وغيرها التي تمتلك مزايا نسبية هامة.



فلسطينيا، فان المبادرات الانتاجية الشعبية في مطلع الانتفاضة (أواخر الثمانينات)، والتي شكلت بوصلة البديل التنموي للاستغلال الاقتصادي القائم على قاعدة "من أعلى الى أسفل" والمدعوم بحراب الاحتلال، هي تحديدا التي تشكل تناقضا مع المفهوم التنموي للبنك الدولي والمستند الى اقتصاد "السوق الحر" الذي يريد أن يجعل من الحياة الريفية الزراعية التقليدية في الضفة والقطاع أول ضحاياه. إذ كيف يمكن لمجتمع يرزح تحت الاحتلال الاستيطاني والعسكري منذ عقود طويلة وتتواصل ضده الضغوط الاقتصادية والسياسية الهائلة، أن يقف فورا ودفعة واحدة في "اقتصاد السوق" ويواجه المنافسات "الحرة" التي لا ترحم؟ علما بأن البطالة في الدول الغربية تعتبر من أهم النتاجات "الجانبية" المدمرة لاقتصاد "السوق الحر"، في حين أن نتاجاته في "العالم الثالث" تتجسد في الفقر والمجاعة والحروب القبلية والمحلية.



قبل عشرات السنين، لم يعرف فلاحونا الآفات الزراعية الكثيرة والمتنوعة التي غزت محاصيلنا مع قدوم الزراعة "الحديثة" الى منطقتنا. ذلك أن الآفات لم تشكل آنذاك مشكلة جدية بالنسبة لهم، لأنهم بممارساتهم الزراعية الطبيعية كانوا يحافظون على التوازن الطبيعي بين الآفات والحشرات الضارة وبين أعدائها الطبيعية. من هنا تنبع أهمية تشجيع اتباع أساليب المقاومة الطبيعية والعضوية للآفات. إذ بامكان المزارعين والمهندسين الزراعيين وغيرهم من المعنيين في ممارسة وتطوير تقنيات لحماية النباتات والحيوانات من الآفات، التعلم كثيرا من التراث الزراعي التقليدي الطبيعي والبيولوجي. إلا أن ذلك لا يعني عدم الاستفادة من العلم الحديث الخاص ببيئات الآفات والأمراض النباتية والحيوانية، وبالتالي تبني تقنيات مناسبة لمقاومة بعض الآفات التي لم تتمكن الأساليب التقليدية من السيطرة عليها.



ومن المفيد أن نتعلم من تجارب البدائل الزراعية الجارية حاليا بنجاح، في بعض بلدان "العالم الثالث" (مثلا، في كوبا والهند) حيث تم تطبيق أساليب وتقنيات طبيعية وبيولوجية ثبتت نجاعتها في مواجهة التدهور المستمر في أنماط الانتاج الزراعي غير المستديمة وغير المستقرة التي أدت في الماضي، كما تؤدي في بعض مناطقنا حاليا، الى تآكل متواصل في خصوبة التربة، فضلا عن راتفاع نسبة الملوحة وغير ذلك من أشكال تدمير التربة. وحاليا فان فلسفة العناية المتكاملة بالتربة في كوبا، تستند الى استخدام الأحياء الدقيقة المثبتة للنيتروجين في التربة والتقليل الى الحد الأدنى من الحراثة وتحسين خصوبة التربة من خلال استعمال المحسنات العضوية والأسمدة البيولوجية والدبال (بما فيه الدبولة الديدانية) وجمع نفايات المدينة ومعالجتها وإعادة استخدامها(113). ناهيك عن الزراعة المتداخلة والتنوع والتعاقب الزراعيين والاجراءات البيولوجية المتمثلة بالمحافظة على أو إدخال الأعداء الطبيعيين للأفات، كبعض أنواع الحشرات والطيور والأعشاب.



إن اتباع الوسائل الوقائية الطبيعية والممارسات الزراعية الشعبية والبيولوجية والميكانيكية، تعني زراعة متوازنة ومستديمة وبالتالي تخفيضا كبيرا في مدخلات الانتاج الخارجية واحتمالية ضئيلة في المخاطرة، فضلا عن الحد من الانبعاث المتواصل للآفات أو توليد مناعة لديها، وبالمحصلة عدم تهديد صحة الانسان والبيئة والتربة.



وكخطوة داعمة للزراعة العربية (والفلسطينية) العضوية والبيئية المستدامة، فلا بد من العمل الأهلي المكثف على تشجيع ترويج الانتاج الزراعي الطبيعي – العضوي، فضلا عن المصنع منه، في السوق المحلي، ومنحهما الأولوية في المؤسسات العامة والمدارس والمعاهد والجامعات وغيرها. وذلك على طريق الاستغناء التدريجي عن السلع الغذائية الكيماوية الأجنبية والمحلية.



من ناحية أخرى، المطلوب نوع من التكامل بين المنظمات الفلسطينية الأهلية الفاعلة في مجال التنمية الزراعية والمجتمعية الذاتية، وبين مراكز الأبحاث ومحطات التجارب الزراعية الرسمية، وذلك من حيث تبادل المعلومات العلمية والتقنية والتطبيقية بينهما، واستفادة الأوائل من المعلومات العلمية المحددة التي تقدمها الأخيرة، وبالمحصلة تحفيز التعاون والتفاعل بين الطرفين، باتجاه تطوير التقنيات الزراعية المحلية البسيطة والعملية وغير المكلفة، لما فيه منفعة المزارعين، وبهدف إغناء وتطوير تجاربهم ومعارفهم. علما بأن المنظات الأهلية تستطيع العمل أكثر باتجاه تحديد احتياجات المزارعين ودمج معارف الأخيرين بالنشاط الزراعي العلمي "الرسمي"، بما يتجاوب، بالمحصلة، مع الاحتياجات الفعلية التي تم تحديدها من خلال المزارعين أنفسهم.

ومما لا شك فيه أن هذا التوجه يتطلب تغطية النقص الكبير القائم لدى المنظمات الأهلية في المهارات التقنية المحددة وفي بعض التسهيلات الفنية والمهنية من معدات ومصادر معلومات. علما بأن إمكانية تجاوز هذا النقص الأخير، واردة جزئيا، من خلال ثورة الاتصالات الألكترونية الحالية وشبكات المنظمات غير الحكومية العالمية، وبالتالي تبادل الأفكار حول كيفية إدارة الممارسات والتقنيات الزراعية المتوازنة، قليلة المدخلات الخارجية، السهلة والرخيصة.



ان الزراعة على قاعدة "اقتصاد السوق" والمدخلات الخارجية الكبيرة، قد تم تطويرها في الغرب أصلا، لتتلائم غالبا مع مناخات وأنماط زراعية مختلفة عن منطقتنا ولا علاقة لها بالحاجات الحقيقية لمزارعينا(115). وبالتالي هناك غياب في التوجه نحو الموارد والامكانيات المحلية وتغييب للممارسات والتجارب والمعارف الزراعية المحلية التي اكتسبها وطورها مزارعونا القدامى، فضلا عن عدم الاهتمام بالمحاصيل والبذور والحيوانات البلدية(116). علما بأن اهتمام البحث الزراعي الرسمي يركز غالبا على دعم المزارعين الميسورين والقادرين على شراء التقنيات والمستلزمات الزراعية "الحديثة"، وبالنتيجة لا يستطيع معظم المزارعين تطبيق هذه التقنيات التي هي أصلا غير مناسبة للزراعات البعلية وذات المدخلات الخارجية المنخفضة.

والاشكالية الجديرة بالمعالجة أن غالبية الأبحاث والتجارب الزراعية وظروف الانتاج في مراكز الأبحاث ومحطات التجارب الزراعية لا علاقة لها بالأصناف المحلية أو البلدية المناسبة أصلا لظروفنا المناخية والبيئية، أو أنها لا تمس ظروف المزارعين الفعلية الذين بمعظمهم يتبعون الزراعة البعلية التي تتميز تقليديا بالتداخل والتنوع.لهذا ليس غريبا أن يفشل العديد من التقنيات التي جربت أو طورت في المحطات أو مراكز الأبحاث الزراعية، حين تطبيقها في الظروف الحقيقية للمزارعين.



من هنا، فان تطوير البحث الزراعي المحلي الهادف الى النهوض بواقعنا الزراعي، باتجاه بلورة أنظمة وأنماط زراعية مستدامة، يحتاج الى تثبيت ممارسة جديدة لم يعتد عليها الباحثون سابقا، ألا وهي تبادل المعلومات بين المزارعين أنفسهم الذين يواجهون مشاكل متشابهة في المناطق الفلسطينية المختلفة، وبالتالي تعميم المعارف الخاصة بالتقنيات والممارسات الزراعية التي طورها أو طبقها المزارعون بنجاح في مواقع مختلفة وعلى محاصيل متشابهة.. وفي هذه الحالة تصبح إبداعات المزارع وتجاربه هي محورالعمل البحثي والارشادي وليس العكس.



ختاما نقول بأن الشرط الأساسي لازدهارنا الحقيقي واستمرارية وجودنا يكمن، الى حد كبير، في مدى حمايتنا لتربتنا الزراعية ومواردنا المائية القليلة المتوفرة لدينا وإغناءهما. فضلا عن تلبية احتياجاتنا الذاتية من مصادرنا المحلية. الأمر الذي يتطلب تعزيز مبدأ تدوير استخدام المصادر المحلية وبالتالي المساهمة في تخصيب التربة وزيادة الثروة الطبيعية. لأن كل المخرجات "الضائعة" أو النفايات التي لا يعاد إدخالها الى نفس النظام الانتاجي أو الاستهلاكي واستعمالها ثانية كمدخلات فانها سوف تتحول الى تلوث. وهذا التوجه، بالطبع، لا يعفينا من النضال لانتزاع حقوقنا في السيادة على مواردنا ومياهنا واستخدامها وإدارتها.



 ( بتصرف عن منشورات  مركز العمل التنموي - رام الله  )



نوفمبر 08, 2004, 12:13:43 صباحاً
رد #3

ابو يوسف

  • عضو خبير

  • *****

  • 10867
    مشاركة

  • مشرف اداري

    • مشاهدة الملف الشخصي
نحو استراتيجية زراعية بديلة ومعتمدة على الذات
« رد #3 في: نوفمبر 08, 2004, 12:13:43 صباحاً »
السلام عليكم

جزيل الشكر لك اخي العزيز التواق

سأنزل الموضوع على الجهاز لقراءته بتمعن اكبر

'<img'>

نوفمبر 08, 2004, 10:20:25 مساءاً
رد #4

عبدالله علي

  • عضو خبير

  • *****

  • 1005
    مشاركة

  • عضو مجلس الشورى

    • مشاهدة الملف الشخصي
نحو استراتيجية زراعية بديلة ومعتمدة على الذات
« رد #4 في: نوفمبر 08, 2004, 10:20:25 مساءاً »
بارك الله فيك..

'<img'> '<img'>
وقل رب زدني علما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نوفمبر 09, 2004, 01:17:52 صباحاً
رد #5

الأحيائي الصغير

  • عضو خبير

  • *****

  • 6258
    مشاركة

  • مشرف علوم الأرض

    • مشاهدة الملف الشخصي
نحو استراتيجية زراعية بديلة ومعتمدة على الذات
« رد #5 في: نوفمبر 09, 2004, 01:17:52 صباحاً »
الله يعطيك العافية أخي العزيز "" التواق ""

و جزاك الله كل خير أخي الحبيب



 '<img'>
اللهم أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأول فليس قبلك شيء و الآخر فليس بعدك شيء و الظاهر فليس فوقك شيء و الباطن فليس دونك شيء أسألك اللهم بأسمائك الحسنى و صفاتك العليا و باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت و إذا سئلت به أعطيت أن تنتقم لنبينا و حبيبنا محمد عليه أفضل الصلاة و أتم التسليم من كل من أرد به و بدينه و بالمسلمين السوء إنك يا مولنا على كل شيء قدير

نوفمبر 09, 2004, 09:48:05 صباحاً
رد #6

rana

  • عضو متقدم

  • ****

  • 692
    مشاركة

  • مشرف علوم البيئة

    • مشاهدة الملف الشخصي
نحو استراتيجية زراعية بديلة ومعتمدة على الذات
« رد #6 في: نوفمبر 09, 2004, 09:48:05 صباحاً »
السلام عليكم
حمدا لله على عودتك ...
والموضوع يحتاج لقراءة دقيقة .... سأحمله معي ...
شكرا لك ...
'<img'> '<img'>
جس الطبيب خافقي

وقال لي :

هل هنا الألم؟

قلت له نعم

فشق بالمشرط جيب معطفي

وأخرج القلم

هز الطبيب رأسه

ومال وابتسم

وقال لي:

ليس سوى قلم

فقلت: لا يا سيدي

هذا يد، وفم

رصاصة ، ودم

وتهمة سافرة تمشي بلا قدم


نوفمبر 10, 2004, 10:08:58 صباحاً
رد #7

التواق للمعرفة

  • عضو خبير

  • *****

  • 2342
    مشاركة

    • مشاهدة الملف الشخصي
نحو استراتيجية زراعية بديلة ومعتمدة على الذات
« رد #7 في: نوفمبر 10, 2004, 10:08:58 صباحاً »
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته

الشكر الجزيل لكم اخوتي الافاضل على المرور والتعليق ...


شكرا على الاهتمام ...

تحياتي