مدخل:
يروج ممثلو الحكومات الغربية والمؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية بقوة وبمنهجية لما يسمى بتحرير التجارة و"عولمة" الاقتصاد و"تحسين مناخ الاستثمار الأجنبي" في البلدان "النامية". بمعنى أن الدول الغربية لا زالت تصر على المضي قدما في فرض "تنمية" قسرية على مجتمعات "العالم الثالث" من الخارج، يكون عمودها الفقري مفاهيم اقتصادية – اجتماعية لا علاقة لها ببنيتها الانتاجية والاقتصادية – الاجتماعية. فمفهوم "تحرير التجارة" مثلا هو افراز مباشر للمستويات الاقتصادية والتكنولوجية والادارية في الدول الصناعية الغربية المتقدمة، فضلا عن مكانة هذه الدول الاقتصادية في السوق العالمي والمختلفة تماما عما هو قائم في بلدان "العالم الثالث" التي حاولت تطبيق النماذج الغربية بعيدا عن واقعها الاقتصادي- الاجتماعي فكانت النتيجة الفشل الذريع. ناهيك عن سحق البنى الاقتصادية التقليدية التي كانت قائمة قبل الوجود الاستعماري المباشر في هذه البلدان والتي اعتمدت على الموارد والسوق المحلية، كالزراعة مثلا، وبالتالي حطم الغرب أسس اعتماد غالبية دول "العالم الثالث" على ذاتها اقتصاديا وضمن بالتالي تبعيتها الاستهلاكية والغذائية له، وبالنتيجة جردها من أمنها الغذائي وقذف بها الى مستنقع المجاعة.
وبالرغم من تأكيد منظمة "الفاو" بأن عام 1996 شهد ارتفاعا في الانتاج العالمي لمحاصيل الحبوب الاستراتيجية بحوالي 7%، إلا أن المعروض العالمي من الحبوب قد انخفض وارتفعت الأسعار بأكثر من 50% في نفس العام,وهذا يشير الى أن "أزمات" القمح العالمية الدورية ليست سوى أزمات مفتعلة سببها الأساسي يكمن في التنافس على سوق القمح العالمي بين أمريكا (أكبر مصدر عالمي للقمح) وأوروبا، وبالتالي التلاعب بفائض القمح المعروض عالميا وبالمحصلة التحكم بغذاء "العالم الثالث.
. ويتحدث حاليا منتجو القمح الغربيون (أمريكا الشمالية والاتحاد الأوروبي) عن ضرورة زيادة المساحات المزروعة بالقمح في بلدانهم، في الوقت الذي تفرض فيه هذه الدول ومؤسساتها المالية الدولية على "العالم الثالث" زراعة محاصيل كمالية للتصدير لأوروبا وأمريكا واليابان، بينما تفتقر غالبية شعوب "العالم الثالث" للمحاصيل الغذائية الأساسية التي تحتاجها. ويشير هذا التوجه الاقتصادي الغربي المفروض على "العالم الثالث" الى أن الزراعة الأحادية الموجهة لما يسمى بالسوق العالمي قد أوصلت هذه الشعوب الى درجة العجز عن انتاج وتأمين الغذاء الأساسي لنفسها، فلم يبق أمامها سوى مواجهة مصيرها المحتوم: المجاعة أو الفقر الغذائي.
والحقيقة أن المشكلة لا تكمن في عدم كفاية الانتاج الغذائي العالمي، لأن العالم ينتج كميات كبيرة من الطعام أكثر من حاجته. لكن المشكلة تكمن في أن جياع وفقراء "العالم الثالث" لا يملكون الأموال اللازمة لشراء أو زراعة حاجتهم من الغذاء، بمعنى أن الكميات الزراعية لا تشكل، اطلاقا، حلا للمشكلة.
كما أن الزيادة الضخمة التي أحدثتها "الثورة الخضراء" في الانتاج، كانت نتيجة لاضافة مدخلات مرتفعة التكلفة من بذور عالية الانتاجية وسماد ومبيدات كيماوية وري. وعادت وتعود الفائدة، أساسا، على المزارعين الأغنياء القادرين على اقتناء كميات كبيرة من المدخلات والحصول على الاعتمادات أكثر من المزارعين الفقراء الذين لا يملكون المدخلات المطلوبة.
ومن الملفت للنظر، أن معظم المبيدات (الكيماوية) التي استخدمت في "العالم الثالث" (أكثر من 70%) استعمل على محاصيل كمالية تزرع للتصدير للولايات المتحدة وأوروبا واليابان، ولم يستخدم في المحاصيل الغذائية الرئيسية والأساسية التي يعتمد عليها الفقراء.
على الصعيد العربي، وبالرغم من شراء العديد من الأنظمة العربية لوصفات البنك وصندوق النقد الدوليين المتعلقة بما يسمى "التصحيح الهيكلي" و"الخصخصة" و"السوق الحرة" وبالتالي تراجع القطاع العام والتخطيط، فضلا عن ما يسمى "المشروع الشرق أوسطي"، فان ما تروج له هذه الأنظمة من مقولات المؤسسات المالية الدولية بأن هذه الوصفات والمشاريع ستأتي على العرب بالازدهار الاقتصادي، ليس فقط أنها (أي المقولات) لم تتحقق، بل هناك تدهور مستمر في قدرة معظم الأقطار العربية على توفير الغذاء لشعوبها، استنادا الى الموارد المحلية، وبالتالي زيادة التبعية للغذاء المستورد. فمثلا، انخفضت نسب الاعتماد على الذات (غذائيا) في كل من مصر والجزائر، من 84% و88% عام 1963 على التوالي، الى 62% و41% عام 1995 على التوالي(. علما بأن الزراعة في العديد من الدول العربية تستوعب أكثر من نصف قوة العمل وفي بعض الأحيان قد تصل النسبة الى 70%، إلا أن مساهمة الزراعة في إجمالي الناتج المحلي العربي لا تزيد عن 20% في أحسن الحالات، ناهيك عن وجود مساحات شاسعة من الأراضي العربية الصالحة للزراعة غير مستغلة (نحو 910 مليون دونم)، أي أكثر من 68% من اجمالي المساحات الصالحة للزراعة في الوطن العربي والتي تقدر بنحو 1330 مليون دونم، أي أن المساحات المزروعة تبلغ حوالي 420 مليون دونم (أقل من 32% من إجمالي المساحات الصالحة للزراعة. وبالرغم من أن معظم الأقطار العربية ظل مكتفيا غذائيا حتى بداية السبعينات، وكان بعضها في الخمسينات والستينات يصدر الحبوب والقمح (كما مصر والسودان)، إلا أنها أصبحت حاليا من أكبر مستوردي المنتجات الغذائية في "العالم الثالث". كما تهاوى الوطن العربي، في عام 1989، الى فجوة غذائية قدرت بأكثر من 16.6 مليار دولار. ويكمن السبب المباشر لأزمة الغذاء العربي في كون الزيادة بمعدل الطلب على المنتجات الزراعية أعلى من نسبة نمو الانتاج الزراعي السنوي (بفارق نحو 3.5% سنويا لصالح الزيادة بمعدل الطلب. وبالمقابل، نجد ملايين الأيدي العاملة العربية العاطلة عن العمل والمهاجرة الى خارج أوطانها، في الوقت الذي يعج فيه الوطن العربي (خاصة دول الخليج) بالعمال و"الخبراء" والفنيين الأجانب.
وتنفيذا لمتطلبات "الخصخصة" فقد سنت بعض الأنظمة قوانين جديدة تبرر عملية إفقار الفقراء وإغناء الأغنياء، كما حدث مؤخرا في مصر، حيث ألغت الحكومة من "قانون المستأجر والملاك"، البند الذي كان يضمن حماية مستأجر الأرض (الفلاح المصري) من تحكم الملاكين والاقطاعيين الذين منعهم القانون السابق (الذي سنه النظام الناصري) من رفع إيجار الأرض أو طرد الفلاح منها. وبالنتيجة أعيدت للأقطاعيين القدامى "حرية" استبداد ملايين الفلاحين المصريين الفقراء الذين حرموا من مصدر رزقهم الوحيد.
إن تجاوز هذه الصورة القاتمة أمر ممكن إذا ما تم التركيز على الانتاج الزراعي بهدف تلبية الاحتياجات الغذائية الأساسية للشعوب العربية، وذلك عبر خطط زراعية عربية تكاملية تستفيد من المناخ المعتدل في العديد من الأقطار العربية ومن المساحات الشاسعة للأراضي الصالحة للزراعة وغير المزروعة ومن المياه.
فلسطينيا، باءمكاننا القول ان الشروط والعوائق الاقتصادية التي فرضتها وتفرضها اسرائيل على الضفة والقطاع، حسب الاتفاقات السياسية – الاقتصادية مع الطرف الفلسطيني، أشد قساوة مما كان عليه الحال قبل أوسلو. خاصة وأن عملية "السلام" بنيت على حقيقة كون الاقتصاد الفلسطيني ملحق بالاقتصاد الاسرائيلي. كما أن الخطط الاقتصادية الدولية والفلسطينية الخاصة بمناطق الحكم الذاتي الفلسطيني، تم تأسيسها على فرضية خاطئة أصلا، وهي أن الاتفاقات السياسية ستترجم الى "حركة حرة" لقوة العمل والمنتجات بين اسرائيل والمناطق الفلسطينية والخارج. لكن الطرف الوحيد الذي يتمتع فعليا "بالحركة الحرة" هو اسرائيل.
علاوة على ذلك، منح اتفاق باريس الاقتصادي، فضلا عن الاتفاقات التي سبقته، اسرائيل، الحق بأن تقرر الحلال والحرام الاقتصادي- السياسي، بالنيابة عن الشعب الفلسطيني. وتعتبر اسرائيل، وفقا لهذه الاتفاقيات، المرجعية الأولى والأخيرة في كل ما يتعلق بالصادرات والواردات الفلسطينية والاتفاقات الاقتصادية مع آية دولة عربية أو غير عربية. إذ ليس فقط المسائل السياسية – الأمنية خاضعة للجان الاسرائيلية – الفلسطينية المشتركة، بل أيضا، القضايا الاقتصادية، وبالطبع، الطرف الأقوى في هذه اللجان (اسرائيل) هو الذي يقرر. بمعنى أن الاتفاقات الاسرائيلية – الفلسطينية تخول اسرائيل لوحدها بأن تقرر أصناف السلع وكمياتها التي يسمح للطرف الفلسطيني استيرادها أو تصديرها. وينطبق هذا الأمر أيضا على التبادل الزراعي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تنفيذ "الرزنامة الزراعية" التي تم "الاتفاق" عليها بين وزيري الزراعة الفلسطيني والأردني بتاريخ 9 /10 / 1997، منوط بموافقة اسرائيل التي تفرض على الطرف الفلسطيني العودة اليها للحصول على موافقتها على هذه "الرزنامة"(.
ليس هذا فقط، بل إن الاتفاقات الموقعة مع اسرائيل، تفرض على الجانب الفلسطيني أي القطاعات والسلع والخدمات يجب أن يركز عليها (بما فيها الزراعة)، من منطلق "التكامل" مع السوق الاسرائيلي في القطاعات المختلفة، وخاصة تلك القطاعات التي تضمن تسويق السلع والمدخلات الاسرائيلية. فضلا عن التركيز على الطرق التي تربط مناطق الحكم الذاتي والمستعمرات باسرائيل.
وبالرغم من حقيقة كون الأرض الزراعية أندر وأغلى عناصر رأس المال الوطني الفلسطيني وبالتالي فان الحفاظ عليها وتنميتها أمانة يتحملها الجيل الحالي المسؤول أمام الأجيال القادمة والتاريخ، إلا أن التناقض المأساوي في الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967، والتي لا تملك سوى اقتصاد هش واستهلاكي، يكمن في تنامي قطاع الخدمات الذي بلغت حصته عام 1994 في الناتج المحلي الاجمالي أكثر من 60%، بينما انخفضت حصة الزراعة من حوالي 35% قبل احتلال عام 1967 الى أقل من 16% (عام 1994. كما أن استيعاب القطاع الزراعي للعمالة هبط من حوالي 32% في بداية الثمانينات الى أقل من 13% في أواسط التسعينات). علما بأن المستوطنين، بشكل عام، ومستوطني الغور، بشكل خاص، لم يتوقفوا عن التوسع في المناطق الزراعية الفلسطينية وحراثة وزراعة المزيد من الأراضي التي يسيطرون عليها، والتي لم يزرعها الاسرائيليون سابقا، بينما مساحات الأراضي الفلسطينية المزروعة تتقلص باستمرار، ليس فقط بسبب المصادرات والتهويد، بل أيضا بسبب مواقف وسياسات وسلوكيات غير جذرية تجاه الأرض وانتاج الغذاء.
وعلى ضوء تحكم اسرائيل بغذائنا وسيطرتها على حركة عمالنا ومنتجاتنا وإحكامها الحصار التجويعي على شعبنا، فان المطلوب إطلاق العنان للحريات وللمبادرات الانتاجية الشعبية المعتمدة على الذات والتي تنتج الغذاء الأساسي للناس، تطبيقا لمبدأ الاستفادة من مواردنا المحلية وعلى رأسها الأرض لتلبية احتياجاتنا المحلية، بدلا من إشباع رغبات الأسواق الخارجية وقلة من الناس المتكسبين وبالتالي إعادة انتاج البطالة والفقر والجوع.
ويعتبر هذا التوجه مقاومة وطنية من أجل الصمود الاقتصادي الفلسطيني، في مواجهة الضغط الاقتصادي والسياسي الذي تمارسه السلطة الاسرائيلية وقوى خارجية أخرى ضد شعبنا. وهذا يعني الاستثمار في مشاريع انتاجية زراعية شعبية، على أساس جماعي أو تعاوني أو فردي.
والسؤال المطروح: لماذا تعمل المؤسسات المالية الدولية والسوق الأوروبية المشتركة ومن قبلهما اسرائيل، على دفع مزارعينا الفلسطينيين الى ممارسات زراعية ثبت فشلها في بلدانهم، كالزراعة الأحادية مثلا وبالتالي تصدير فشلهم إلينا؟ فهناك في بلدانهم (أوروبا وأمريكا الشمالية) يتحدثون حاليا عن الزراعة المستدامة والزراعة البيئية والتنويع الزراعي كضرورة للاستقرار المعيشي والاقتصادي وكبديل للزراعات الأحادية التي تتطلب تبعية كبيرة للمدخلات من خارج الوحدات الانتاجية كالمبيدات والأسمدة الكيماوية والبذور المهجنة والمياه والقروض المالية وغير ذلك. ناهيك عما تسببه الزراعات الصناعية الأحادية من تلويث بيئي وإخلال في التوازن البيئي الطبيعي وتدمير لخصوبة التربة وهدر للمياه. علما بأن مجتمعنا الريفي تميز تقليديا وتاريخيا بالتنويع الزراعي والاكتفاء الغذائي الذاتي. فلماذا إذن الهرولة الى تبني نظم وأنماط زراعية غريبة وقصيرة النظر ولا تهدف سوى تحقيق أرباح سهلة وعابرة وسريعة على حساب احتياجاتنا الغذائية الحقيقية وبيئتنا ومياهنا وتربتنا وأجيالنا القادمة؟ علما بأن معظم هذه الأرباح تتدفق الى جيوب المستوردين والمسوقين في الأسواق الخارجية، بينما لا يبقى سوى الفتات للمزارع المحلي.
تشوه البنية الانتاجية الزراعية الفلسطينية بسبب عوامل موضوعية وخارجية
باءمكاننا القول، إن أهم سمة خطيرة مميزة للاقتصاد الفلسطيني، تتمثل في عملية تعميق متواصلة للبنية الاستهلاكية والطفيلية لهذا الاقتصاد. وتتجسد هذه البنية في حقيقة أن مجتمعنا الفلسطيني ينتج حاليا أقل بكثير مما يستهلك، ولا توجد مؤشرات فعلية تدل على أن الفجوة الكبيرة بين الانتاج والاستهلاك آخذة في التقلص. وهذه الفجوة، فضلا عن العجز التجاري، تغطيهما الى حد كبير التدفقات والتحويلات المالية الخارجية وليس التراكم الرأسمالي الداخلي في الضفة والقطاع. وهذا الأمر واضح من تدني حصة الناتج المحلي الفلسطيني الاجمالي في الناتج القومي الفلسطيني الاجمالي. كما يتضح هذا الأمر من مجرد نظرة سريعة الى السلع الغذائية، "الطازجة" والمصنعة، المعروضة في سوقنا المحلي، حيث تبرز بشكل صارخ الحصة المتواضعة جدا للسلع "الفلسطينية" المحلية أو بشكل أدق حصة السلع الوطنية (أي التي تم انتاجها من موارد وخامات محلية) من إجمالي أنواع وأصناف السلع الغذائية المعروضة في سوقنا المحلي. ناهيك عن أن كميات كبيرة ومتنوعة من السلع "المحلية" ليست أكثر من سلع اسرائيلية تسوق في الضفة والقطاع بغطاء فلسطيني (ملصقات فلسطينية).
إن حقيقة كوننا مجتمعا استهلاكيا، يشتري معظم طعامه من اسرائيل والخارج، بما فيه الغذاء الاستراتيجي، تعني، تحديدا، أننا نفتقر الى الأمن الغذائي. وهنا بالذات يكمن السبب الأساسي في تبعيتنا للخارج. وافتقارنا للأمن الغذائي يعني أيضا افتقارنا للأمن الوطني الذي لا يمكننا توفيره ما دامت اسرائيل والاقتصاديات الخارجية تتحكم في عملية إطعامنا وتجويعنا.
تحطيم أسس الاعتماد على الذات:
تعتبر السياسة الاقتصادية الاسرائيلية (في جوهرها) تجاه فلسطينيي الضفة والقطاع ومن قبلهم فلسطينيي الأرض المحتلة عام 1948، استمرارا لنفس السياسة الاستعمارية منذ الاحتلال البريطاني لفلسطين ووعد بلفور، والمتمثلة في القضاء على الزراعة. فاذا ما كانت الأرض بور يسهل على صاحبها تركها أو بيعها أو تسريبها لليهود. كما أن العمل في السوق الاسرائيلي أرغم شبابنا على ترك الأرض بور بدون أي عمل فيها، وخاصة الأرض الوعرة، ما عدا الأرض التي يصلها التراكتور، وبالتالي أصبحت الأرض بدون إنتاج، ركضا وراء النقود التي تقذفها اسرائيل لشبابنا. ويشكل هذا الواقع تطبيقا للسياسة الاستعمارية القديمة: "قوموا باغرائهم حتى تبقى الأرض بور".
وكما حدث في سائر أرجاء الوطن العربي، كذا أيضا في الضفة والقطاع، فان الغرب، من خلال مؤسساته "التنموية" و"التمويلية" المختلفة، يساهم مباشرة، عبر نشاطه لتكريس ما يسمى بالسوق الحرة وتحرير التجارة، في تهميش أو حتى سحق البنى الاقتصادية التقليدية التي كانت قائمة قبل الوجود الاستعماري في فلسطين والتي اعتمدت على الموارد والسوق المحلية، وخاصة الزراعة، ليس لأن هذه البنى "متخلفة" كما روج بعض الأغبياء، وإنما ليستكمل ما قام به الاحتلال الصهيوني من تحطيم أسس اعتمادنا على ذاتنا اقتصاديا ويضمن بالتالي تبعيتنا الاستهلاكية له. فضلا عن النهب الصهيوني لمساحات كبيرة من أخصب الأراضي الفلسطينية، الأمر الذي أدى الى حرمان آلاف الفلسطينيين من أهم مصدر انتاجي وبالتالي ضرب أهم مصدر من مصادر تراكم الرأسمال الذي كان مرشحا لأن يستثمر في تطوير الزراعة وقطاعات انتاجية أخرى. ولو أضفنا الى ذلك استمرار واقع التجزئة المزدوجة للضفة والقطاع: تجزئة الأرض المتمثلة أساسا بعزل قطاع غزة والقدس عن سائر أنحاء الضفة، والتجزئة البشرية، نجد بأن الشعب الفلسطيني يفتقر حاليا الى القاعدة الطبيعية الضرورية لوجود وتنمية أي مجتمع انساني طبيعي.
التوسع في الزراعات الكمالية لصالح من؟
يحاول المركز التجاري الدولي التابع لمنظمة التجارة العالمية إيهامنا (في الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967)، بأننا "على مسافة شبر" من السوق الأوروبي الضخم الذي يمثل 65 – 70% من حجم التجارة الدولية في زهور القطف والبالغ حوالي 10 مليار دولار، لدرجة، حسب ادعاء المركز الأخير، أن "قيمة التجارة الدولية للزهور التي يمكن انتاجها في المناطق الفلسطينية وتصديرها بشكل واسع يتجاوز 14 مليار دولار"(، أي بامكان المناطق الفلسطينية انتاج وتصدير كميات من الزهور تتجاوز في قيمتها إجمالي قيمة تجارة الزهور الدولية! ليس هذا فقط، بل إن نفس المركز "يطالب" وزارة الزراعة الفلسطينية بزيادة المساحات الفلسطينية المزروعة بالزهور من 900 دونم (حاليا) الى 125 ألف دونم "في أسرع وقت لأن الانتاج الحالي لا يذكر"().
عدا عن التساؤلات حول الأسباب الحقيقية الكامنة وراء الحماس لزيادة انتاج الزهور للتصدير زيادة ضخمة وحول من هم المستفيدون الحقيقيون من هذه السياسة التصديرية، من المفيد هنا الاشارة الى أن إجمالي المساحات المزروعة في الضفة والقطاع تبلغ حوالي 1,782,000 دونم، أما المساحات المروية فهي نحو 217000 دونم()، بمعنى أن المساحات التي يريدنا المركز التجاري الدولي زراعتها بالزهور تشكل نحو 7% من إجمالي المساحات المزروعة و58% من إجمالي المساحات المروية! علما بأن زراعة الزهور عبارة عن زراعة مروية بشكل مكثف، وتتوفر لها، فجأة (يا للعجب)، المياه النقية التي يحرم منها شعبنا (وخاصة في غزة).
علاوة على ذلك، يدعو مركز التجارة الدولي السلطة الفلسطينية والدول "المانحة" الى توفير الدعم الكامل للمزارع الفلسطيني المصدر للزهور، لضمان عدم خسارته بسبب الاجراءت الاسرائيلية أو الأخطار الطبيعية(. والسؤال البديهي هو: لماذا الاهتمام الغربي والاسرائيلي يتركز تحديدا باتجاه تسهيل زراعة وتصدير الزهور دون غيرها من المنتجات الزراعية الفلسطينية؟ ولماذا الدعم والتسهيلات تحديدا لقطاع زراعي كمالي، وليس لزراعة محاصيل استراتيجية أساسية كالقمح مثلا، أو توفير الدعم والتعويض لمزارعينا عن الخسائر الكبيرة التي يتكبدونها، سنويا، بسبب الحصار الاسرائيلي والعوامل الطبيعية؟
وهنا لا بد من التنويه الى أن الحكم العسكري الاسرائيلي تحديدا، عمل منذ أواخر الثمانينات على تشجيع مزارعينا في غزة على زراعة الورود، وذلك في إطار توجيه الزراعة الفلسطينية لانتاج محاصيل تلبي حاجات الاقتصاد الاسرائيلي إما للاستهلاك المباشر أو لسد فجوات معينة في الصادرات الاسرائيلية، تمشيا مع سياسة تعميق دمج الاقتصاد الفلسطيني في الاقتصاد الاسرائيلي. تلك السياسة القائمة على سلسلة من الأوامر العسكرية والاجراءات الضريبية لمنع المنتجين الفلسطينيين من منافسة المنتجين الاسرائيليين سواء في السوقين الاسرائيلي والفلسطيني أو في الأسواق العالمية.
ولاغراء مزارعي غزة، قدمت لهم "الادارة المدنية" في حينه بعض "القروض والمساعدات الفنية"، فضلا عن ضمان شراء الزهور منهم. وبالفعل، نجح الاحتلال في "إقناع" بعض المزارعين بزراعة الزهور بدلا من الخيار والبندورة وسائر الخضروات والحمضيات). وعندما تمكن الأخير من تسخير الانتاج الزراعي الفلسطيني لخدمة اقتصاده، توقف عن إعطاء المزارعين "الحوافز"، فصار الانتاج الزراعي خاضعا لتقلبات السوق. بمعنى عمل الاحتلال على سحق المنتجات الزراعية الفلسطينية الأساسية، من خلال منع حمايتها من المنافسة الاسرائيلية والأجنبية من ناحية، وتشجيع تحويل المزارعين الفلسطينيين الى الزراعة الكمالية التي لا يستفيد محليا من أرباحها سوى نفر من الملاكين والتجار الكبار، من ناحية أخرى.
وفي هذا السياق، لا بد من التنويه الى أن السوق الأوروبي لن يفتح لنا أبوابه على مصراعيها لمنتجاتنا من الزهور وغيرها، نظرا لسياسته الزراعية الموحدة (PAC) التي تفرض القيود على الاستيراد من غير الدول الأوروبية لحماية المزارع الأوروبي(). لهذا وفي ظروف سياسية - اقتصادية محددة، فان إغلاق هذا السوق أمام منتجاتنا أمر وارد جدا. ناهيك عن الأسعار الاحتكارية التي تفرضها الدول الغربية على منتجاتها الزراعية والصناعية وبالتالي قدرة هذه المنتجات على منافسة مثيلاتها في الدول المتخلفة.
ولنلاحظ هنا ذكاء الرأسمال الأوروبي المتجلي في اتفاق "التجارة الحرة" الذي وقعه الاتحاد الأوروبي (في شباط 1997) مع الضفة القطاع، بشكل منفصل عن اسرائيل، إذ في الوقت الذي رفعت فيه العوائق الجمركية وغير الجمركية في الاتحاد الأوروبي عن السلع المصنعة الفلسطينية، فان "الاعفاء الجمركي" في الاتحاد الأوروبي لا يشمل سوى حصة هامشية من بعض السلع الزراعية الفلسطينية()، ذلك أن بعض المنتجات الزراعية الفلسطينية تحديدا، مرشحة لمنافسة المنتجات الأوروبية.
والأهم مما ورد، فقد باشرت وزارة الزراعة الاسرائيلية، مؤخرا، في استثمار أكثر من 300 مليون دولار، لزراعة أكثر من 100 ألف دونم في صحراء النقب (جنوبي غزة) لانتاج كميات كبيرة من الحمضيات والخضروات والزيتون والقمح والورود. ويتوقع أن تكون هذه المنتجات التي ستروى بالمياه العادمة المعالجة من منطقة تل أبيب، منافسة في الأسواق الأوروبية والأمريكية(). وهذا يذكرنا أيضا باغراق السوق الفلسطيني بالبطيخ الاسرائيلي الذي ضارب بأسعاره البطيخ الفلسطيني وسحق انتاجه. مع العلم أن الانتاج الفلسطيني من البطيخ وصل عام 1985 الى أكثر من 100,000 طن كانت حصة جنين منه حوالي 60,000 طن، ثم هبط في أواخر الثمانينات الى حوالي 10,000 طن، وتدنت الكمية في الغور الى حوالي الصفر، بالرغم من أن طبيعة الأرض وكميات المياه المتاحة لزراعة البطيخ لم تتغير().
إن توريط مزارعينا في الزراعات الكمالية وإغرائهم بالتخلي عن الزراعات الأساسية والتقليدية سيؤدي بالمحصلة الى تدمير ما تبقى من قطاعنا الزراعي، لصالح تصدير اسرائيل لنفس المحاصيل التي يراد لنا التخلي عنها. كما أن اسرائيل والجهات الغربية نفسها التي تشجع مزارعينا وبعض المسؤولين المحليين الآن على زراعة الزهور ستقوم فيما بعد باءبادة هذا القطاع، لأن الأولوية ستكون آنذاك لزهور النقب، وبالمحصلة مزيد من تشويه اقتصادنا وإفقار وتجويع مزارعينا وبالتالي شعبنا.
البنوك و"التنمية" الزراعية:
بادرت مؤخرا بعض الجهات الدولية، بالتعاون مع بنوك محلية في الضفة والقطاع، الى منح قروض قصيرة ومتوسطة الأجل للعاملين في مجال "الزراعات المروية في البيوت البلاستيكية والحقول المكشوفة"، ولأصحاب المشاريع الزراعية "الذين يرغبون في إدخال زراعات جديدة مثل العنب اللابذري، الأزهار، التوت الأرضي…"(. علما بأن الزراعات الأخيرة تعتبر أحادية وكثيفة الرأسمال وموجهة أساسا للأسواق الخارجية. بمعنى أن الاستدانة هنا تهدف أساسا الى تكثيف الرأسمال في الزراعة، عبر الوقوع في "مصيدة" الديون، وبالتالي زيادة مستمرة في مدخلات الانتاج من الخارج والغرق في مزيد من القروض لزراعة المحاصيل الأحادية بدل التنويع الزراعي، وبالمحصلة الادمان على الديون وتعميق التبعية للأسواق الخارجية وقوانينها القاسية. كما ويطلب أحيانا من المقترضين، كضمانات، رهن عقارات.
ان الأسواق الخارجية (الغربية والاسرائيلية) التي تستهدفها المنتجات الكمالية والأحادية (التي تم زراعتها بالقروض) هي التي تتحكم بأسعارهذه المنتجات لتفرض عليها غالبا أبخس الأسعار. وفي حالة أن هذه الأسواق تقرر، لأسباب سياسية واقتصادية، وقف الاستيراد، وبالتالي انسداد آفاق التسويق، بالتوازي مع ارتفاع تكلفة الانتاج والمستلزمات الزراعية، فان النتيجة ستكون تآكل خطير ومدمر في مداخيل اولئك المزارعين الأحاديين، الأمر الذي سيؤدي، كما سبق وأدى في حالة بعض مزارعي الغور وغزة، الى تورط العديد من المزارعين في الديون والفوائد الكبيرة، لدرجة فقدان بعض المزارعين القدرة على السداد. وبالرغم من منح بعض المزارعين المتورطين في الديون، فترة إضافية للسداد، أو إعادة جدولة ديونهم، إلا أنه ومع ذلك، فان العديد منهم لا يستطيع السداد، لتصل بعض الحالات الى المحاكم().
إذن، القروض، الهزيلة أصلا، الممنوحة للمزارعين الفلسطينيين، تهدف الى تكريس عملية "التخصص" في الانتاج الأحادي الغزير للتصدير، على قاعدة "المنافسة الحرة" التي لا ترحم الضعفاء، وذلك بدلا من إنشاء مؤسسة إقراض أو أكثر للتنمية الزراعية، بحيث تمنح القروض الميسرة وبشروط مريحة حقا للمزارعين، بهدف تشجيع تنويع الانتاج الزراعي والمشاريع الزراعية المعتمدة على الموارد الذاتية والمتحررة من التبعية المهلكة للمدخلات الخارجية، وبالتالي تشجيع المزارع على البقاء في أرضه وعدم هجرها.
المياه الفلسطينية المنهوبة:
تنهب اسرائيل مصادر مياه الأرض المحتلة عام 1967، وتقيدها وتتحكم في إدارتها وتحدد الحصص وبالتالي تسرق حقوقنا في السيادة على مواردنا واستخدامها وإدارتها. ويشمل النهب الاسرائيلي مياهنا الجوفية والسطحية. إذ حفر الاحتلال وجفف ولا زال يحفر ويجفف الآبار الارتوازية في الضفة الغربية، ناهيك عن تجفيف الينابيع المتدفقة بشكل طبيعي، لصالح مستعمراته في الضفة والقطاع والاسرائيليين داخل "الخط الأخضر"، بحيث نحرم من الاستفادة من مياهنا الطبيعية، الأمر الذي يؤدي، بشكل مباشر، الى تدمير الزراعة الفلسطينية، وبشكل غير مباشر، الى تصحر الأراضي الفلسطينية. في حين يعاني الانسان الفلسطيني من نقص خطير في مياه الشرب وتتهدده الآثار الصحية والبيئية الخطيرة نتيجة شح المياه المسموح له باستهلاكها. خاصة وأن الصهاينة يسرقون كميات ضخمة من مياهنا الجوفية، إذ أن حصة الشعب الفلسطيني في مياهه الجوفية أقل من 20%. علما بأن جزءا كبيرا من المياه المستهلكة في المستعمرات يستخدم لأغراض الرفاهية والترف (إرواء حدائق الزينة وبرك السباحة و"النجيل" وغيره). ويقدر المعدل العام لاستهلاك الفرد الفلسطيني اليومي للمياه (الضفة والقطاع) بحوالي 40 لترا (يشمل القدس)، بينما يقدر معدل استهلاك الاسرائيلي في مستعمرات الضفة والقطاع بنحو عشرة أضعاف هذا المعدل()، علما بأن الاسرائيليين يتمتعون بالمياه المدعومة حكوميا، إذ يدفع المزارع الفلسطيني ما يعادل 0.07 دولار / م3 من المياه، بينما يدفع المزارع الاسرائيلي نحو 0.014 دولار / م3(). كما يقدر إجمالي نهب اسرائيل المائي لصالح مستعمراتها بحوالي 70% من إجمالي موارد المياه السنوية في الضفة والقطاع، ومن الباقي (30%) فان حولي 18% عبارة عن مياه مالحة أو أن استخراجها صعب ومكلف، وهذا يعني أن المتاح من المياه لسكان الضفة والقطاع ليس أكثر من 12% من إجمالي موارد المياه().
وقد تسبب استغلال اسرائيل لمواردنا المائية، وضخها الزائد للمياه، خاصة في قطاع غزة، في هبوط سطح الماء الباطني الى ما دون مستوى التغذية الطبيعي، وبالتالي تدفق المياه المالحة والملوثة الى المياه الجوفية القليلة المتاحة لفلسطينيي القطاع، وجعل جودة هذه المياه متدنية جدا، بل وغير صالحة للاستخدامات البيتية والزراعية. أما في منطقة الغور، فقد انخفض سطح الماء الباطني، منذ عام 1969 بمعدل أكثر من 16م وبالتالي جفاف عشرات الآبار(). وفي الفترة 1982 – 1991 ارتفع التركيز الكلي للكلور بحوالي 50%، فوصل في منطقة أريحا الى 1700ملغم / لتر().
تشكل المياه الفلسطينية بالنسبة لاسرائيل، عنصرا أساسيا من عناصر "أمنها الاستراتيجي" وبالتالي فهي قد "توافق" على "زيادة حصة الفلسطينيين من المياه" ولكن "ليس على حساب آية نقطة ماء تسيطر عليها اسرائيل" كما أوضح في حينه بقوة، شمعون بيرس(). لهذا حافظت وتحافظ حكومات اسرائيل المتعاقبة على استراتيجية واضحة، ثابتة ومثابرة، يتلخص جوهرها بأن تأخذ اسرائيل ما تشاء من المصادر الطبيعية الفلسطينية والمياه والأراضي والغور وأخصب أراضي غزة وتترك للفلسطينيين مجرد حطام.
ولم تأل بعض الدول الغربية ومؤسساتها الدولية جهدا في التنظير والضغط على الفلسطينيين لتحقيق هذه الغاية. فمثلا، "نصح" تقرير البنك الدولي حول المياه في الشرق الأوسط (لعام 1996) الفلسطينيين بالتخلي عن الزراعة "التي تحتاج الى مياه كثيرة ونادرة" والتحول الى "اقتصاد التكنولوجيا المتقدمة". وبالمقابل، تتمتع المستعمرات اليهودية بوفرة غير محدودة من المياه العذبة وعالية الجودة، ولا توجد لديها آية مشكلة في استهلاك ما تشاء من مياهنا، والمطلوب من الشعب الفلسطيني فقط أن يقتصد ويعطش ويحرم من الاستفادة من مصادر مياهه الطبيعية المتوفرة، تحديدا، بالضفة الغربية، بغزارة.
بالاضافة، تحاول اسرائيل، عبر بعض وجوهها الأكاديمية، ومدعومة من بعض المؤسسات الدولية، إخفاء سياستها التقليدية المتمثلة بمواصلة استنزافها الرخيص لمياهنا ومواردنا الطبيعية وتعميقها الخلل في التوازن البيئي الطبيعي، تحت غلاف تنموي جذاب هو "التنمية المستدامة". كما تحاول نفس الوجوه، إلقاء مسؤولية تدمير البيئة، في الضفة والقطاع، علينا(). علما بأن ممارسات الفلسطينيين الملوثة لبيئتنا ومياهنا الجوفية تبقى هامشية، قياسا بممارسات اسرائيل البيئية الكارثية، وخاصة بسبب النفايات والمياه العادمة المتسربة من المستعمرات الى أراضينا الزراعية ومياهنا الجوفية. والأنكى من ذلك، أن بعض الجهات الدولية التي تعتبر هذا التخريب الاسرائيلي للبيئة أمرا واقعا، يقترح علينا أن نعيد تدوير هذه النفايات (الاسرائيلية) لصالحنا، مساهمين بذلك في منع التلوث البيئي()!
تدمير البيئة:
يشكل الاحتلال الاسرائيلي، حاليا، أهم عامل مدمر للبيئة الفلسطينية. ويتخذ التدمير الاسرائيلي لبيئتنا أشكالا متعددة أهمها الدمار البيئي الناتج عن مخلفات المصانع في المستعمرات الاسرائيلية، من نفايات صلبة وسائلة وغازات تتسبب في مخاطر صحية للانسان والحيوان، فضلا عن تخريب التربة الزراعية. علما بأن معظم المصانع في المستعمرات منعت من العمل في اسرائيل، نظرا لدورها في تلويث البيئة. وتتمثل أخطر الصناعات في المستعمرات بالصناعات الكيماوية (مصانع بلاستك وبطاريات وبوجيات للسيارات وألومنيوم وجلود ومصابغ وغيرها) التي تخلف مركبات كيماوية وحامضية تتسرب الى الأرض وتلوث التربة (والهواء) وتفقدها خصوبتها أو تجعلها غير قابلة للزراعة، بل قد تؤدي الى تصحرها). ناهيك عن العناصر السامة الناتجة عن هذه الصناعات، كالكادميوم والكروم والزرنيخ المدمرة للتربة والملوثة للمياه الجوفية(. كما أن صناعات مواد البناء والحجارة والاسمنت في المستعمرات لا تقل خطورة عن الصناعات الكيماوية من ناحية التلويث البيئي وتخريب الأراضي الزراعية والتسبب في أمراض مزمنة وخطيرة(. دون إغفال الكسارات التي أقامتها الشركات الاسرائيلية في الضفة الغربية والتي يتسبب غبارها الكثيف وانفجاراتها بالتصحر ويحدث أضرارا بيئية ويترك آثارا صحية مميتة على السكان المقيمين في منطقة الكسارات وعلى الثروة الحيوانية والأراضي الزراعية والأشجار المثمرة والمراعي. ناهيك عن مخطط الاحتلال لانشاء كسارات في وادي التين بمنطقة طولكرم.
العامل الذاتي في تعميق عملية تشوه الاقتصاد الزراعي الفلسطيني
ما يميز القطاع الزراعي الفلسطيني، في الضفة الغربية وقطاع غزة، هو غياب التخطيط وانعدام توزيع الانتاج المحلي على اطول فترة ممكنة، وفي نفس الوقت اعتماد العديد من المزارعين على نوع واحد أو نوعين من المحاصيل، الأمر الذي يزيد من المغامرة والمخاطرة. إذ أن التنويع الزراعي يضمن ثباتا في الأسعار واستقرارا اقتصاديا أكبر من الاعتماد على زراعة صنف واحد أو صنفين. وحاليا، هناك نوع من الفوضى في حجم ومواعيد زراعة أصناف معينة، الأمر الذي يؤدي الى تراكم كميات كبيرة فائضة من نفس المنتجات لدى معظم المزارعين وفي نفس الفترة. وبالنتيجة، انعدام الجدوى الاقتصادية في قطف وتعليب وتسويق هذه المنتجات التي ونظرا لغزارتها غير المبرمجة لا مفر من بيعها بأسعار منخفضة جدا أو حتى قد تترك أحيانا غير مقطوفة على الأرض حتى تتلف. بمعنى لا يوجد تخطيط للمزارعين على مستوى وطني لتنويع الزراعة، وكل مزارع يخطط على مستواه بداخل مزرعته، كما أن غالبية المزارعين تتحمل بشكل فردي ومباشر مسؤولية تسويق انتاجها. فمثلا في منطقة الغور التي تعتبر قلب الزراعة الشتوية، ونظرا لسؤ التخطيط، نرى بأن عددا كبيرا من المزارعين يزرع بعض الخضار في نفس الفترة، وبالتالي فان نضوج هذه الخضار وتسويقها يكونان أيضا في نفس الفترة. ونظريا، فان الأرض المحتلة تنتج خضارا رئيسية أكثر من حاجتها، إلا أن فترة الانتاج تكون قصيرة، بحيث نستورد فيما بعد العديد من هذه الخضار من اسرائيل بأسعار مرتفعة وقد تكون نفس الخضار التي اشتراها منا الاسرائيليون وقاموا بتبريدها وتخزينها. كما أن المزارع في منطقة طوباس يضطر أحيانا لبيع شاحنة من محصوله من الخضار بـِ400 شيكل اسرائيلي (نحو 109 دولار أمريكي)، أي حوالي شيكل واحد للصندوق (نحو 0.2 دولار للصندوق. علما بأن تدفق المنتجات الزراعية الاسرائيلية إلينا بدون قيود. وما دام الوضع على ما هو عليه الآن فلا يمكننا ضمان التسويق في الموسم القادم وبالتأكيد ليس خلال الأربع أو الخمس سنوات القادمة. فالمزارع يعرف بالضبط تكاليف انتاجه، لكن، بالمقابل، لا يمكنه معرفة كم سيكون مدخوله من هذا الانتاج، لأن التسويق غالبا ما يكون حسب الظروف والحظ، وبالتالي فان المخاطرة كبيرة.
انعدام التمفصل القطاعي:
من الواضح أننا في الضفة والقطاع نفتقر الى الاستراتيجية التنموية الواضحة التي تضمن عملية التمفصل في القطاع الاقتصادي الواحد وبين مختلف القطاعات. بمعنى وضع جزء من قطاع اقتصادي معين في خدمة جزء آخر من نفس القطاع أو من قطاع آخر، وبالمحصلة تحقيق الترابط بين جوانب القطاع الاقتصادي الواحد، من ناحية، وبين القطاعات المختلفة، من ناحية أخرى. علما بأن مختلف قطاعات الاقتصاد الفلسطيني مندمجة، حاليا، في الاقتصاد الرأسمالي الاسرائيلي، بدلا من تكاملها مع بعضها البعض.
إن غياب العلاقات بين وداخل القطاعات المختلفة يساهم في تكريس وتجزيء القوة الانتاجية الفلسطينية، كما ويقلل من امكانيات تبادل الخبرات المتراكمة في مجالات الانتاج وتقنيات التسويق وبالتالي يؤدي الى إبطاء عملية التوسع القطاعي ويحافظ على تبعيته لمصادر الموارد وخطوط التسويق القائمة.
ممارسات زراعية غير مستدامة:
تعتبر الزراعة أهم مورد معيشي واقتصادي لشعبنا، ناهيك عن كونها مكونا أساسيا من مكونات تراثنا وثقافتنا. علما بأن انتاجنا الزراعي، في الماضي غير البعيد، كان خيرا ومتنوعا، وتمتع ريفنا الفلسطيني باكتفاء ذاتي في كل احتياجاته الغذائية. أما اليوم فقد تحولت قطاعات واسعة من شعبنا الى عاطلة عن العمل، بل وجائعة.
بالمقابل، وبالاضافة لمصادرة اسرائيل ونهبها لمئات آلاف الدونمات من أخصب أراضينا الزراعية، هناك مساحات لا يستهان بها من الأراضي الصالحة للزراعة لكنها غير مستغلة، فضلا عن الأراضي المباشرة حول البيوت والتي تملؤها الأشواك والأعشاب الضارة، وبالتالي بامكاننا زراعتها والاستفادة من انتاجها. بل، أحيانا كثيرة، وكأن هذا الاهمال للأرض غير كاف، نجد البنايات التجارية وقد ارتفعت فجأة، على حساب الأرض الصالحة للانتاج الزراعي.
لقد تضاءلت كثيرا ممارسات الانتاج الزراعي الطبيعي، المتنوع والصحي، فضلا عن تربية الدواجن والماشية، على مستوى الوحدات المنزلية. وهذا يعني أن مخلفات كثيرة تنتجها منازلنا لا يعاد استخدامها في نطاق النشاط الانتاجي المنزلي. علما بأن البعض يهتم بتربية الدواجن أو الأغنام لكنه لا يزرع الأرض التي بامكانها الاستفادة من الروث الحيواني الذي، في حالة عدم إعادة استخدامه، سيتحول الى نفايات وبالتالي تلوث.
ومن الملاحظ أن الممارسات الزراعية "الحديثة" قد تسببت في تلاشي العديد من الممارسات الزراعية التقليدية الحكيمة التي طورها أجدادنا المزارعون، عبر الأجيال، من خلال تجاربهم وذكائهم والتي أثبت الزمن بأنها صحية ومجدية أكثر من الزراعة "الحديثة" التي أدت الى تعميق تبعية المزارعين للخارج و"ورطتهم" في الديون وتسببت في تدهور خصوبة التربة وغير ذلك من الأزمات المستعصية. علما بأن الاستخدام المكثف للبذور المهجنة وبالتالي اندثار البذور البلدية أدى ويؤدي الى ضياع متواصل للتنوع الجيني (البيولوجي) مما يتسبب حاليا في هجوم الآفات على المزروعات، الأمر الذي يستوجب "تحسينا" متواصلا في البذور المهجنة، إلا أن هذا "التحسين" لا يمنع مزيدا من ضياع التنوع البيولوجي.
وفي أغلب الأحيان، لم يؤد ركض المزارعين وراء الأساليب الزراعية "الحديثة" والمكثفة الى اختفاء الوسائل التقليدية للوقاية من الآفات فقط، بل أدى كذلك الى خسائر بيئية وصحية واقتصادية كبيرة. ومع ذلك كان الرد المهيمن هو اللجؤ الى مبيدات الآفات التي تم التعامل معها باعتبارها الحل الوحيد، وبالتالي بولغ في إبراز "فوائدها" والتصغير من شأن أضرارها.
لقد عملت المؤسسة الاسرائيلية، كما عمل وكلاء ووسطاء شركات الكيماويات والبذور المهجنة الاسرائيلية والغربية طويلا، ولا زالوا يعملون، على إقناع مزارعينا بالتحول نهائيا الى الزارعة المكثفة و"الحديثة" أو الزراعة الأحادية التصديرية. وبالفعل اشترى العديد من مزارعي الضفة والقطاع أفكار هذه الشركات وأسمدتهم الكيماوية وأدويتهم الزراعية وبذورهم المهجنة. بل، ونتيجة قيام اسرائيل بربط الاقتصاد الزراعي الفلسطيني باقتصادها، أصبحت كل المستلزمات الزراعية من علاجات وأسمدة وأغطية بلاستيكية وغيرها تشترى من اسرائيل، لدرجة أن الاتفاقيات الاقتصادية المبرمة بين اسرائيل والطرف الفلسطيني تمنع الأخير من شراء نفس هذه المستلزمات من خارج اسرائيل وبأسعار أرخص، الأمر الذي يؤدي الى ارتفاع أسعار المدخلات الزراعية الفلسطينية وبالتالي أسعار المخرجات، مقارنة مع الأسعار الأرخص في الأقطار العربية المجاورة. وبالنتيجة، أدمن المزارعون على الأسمدة الكيماوية التي صاروا ملزمين بزيادة الكميات المستخدمة منها لنفس المساحات المزروعة، سنويا، نظرا لتسبب هذه الكيماويات بتناقص مستمر في خصوبة التربة، وكذا أيضا حال المبيدات الكيماوية، إذ أن استخدامها المتواصل من قبل مزارعينا ولد مناعة لدى الآفات ضد هذه المبيدات، فضلا عن تآكل التربة، مما حدى بالمزارعين الى زيادة كميات المبيدات المستخدمة سنويا، دون أن يؤدي ذلك الى تناقص الآفات الزراعية، بل بالعكس، فقد ازدادت الآفات انتشارا وظهرت أنواع جديدة منها، الأمر الذي يحول دون التحكم بها. كما أن الاعتماد على المدخلات الكبيرة من خارج الوحدات الانتاجية الزراعية أدى الى زيادة تكاليف الانتاج والمديونية، مما أرغم عددا لا يستهان به من المزارعين على هجر أراضيهم والعمل في أعمال أخرى، وبالنتيجة تدهور مزيد من الأراضي الزراعية. ناهيك عن تحكم اسرائيل المطلق بالمعابر والجسور والتلاعب في الأسعار العالمية التي هبطت كثيرا وهبط معها التصدير الفلسطيني.
فوضى الكيماويات:
نشهد حاليا نوعا من الفوضى والعشوائية الواضحتين في تسويق الكيماويات الزراعية واستخدامها، إذ أن إغراءات الشركات الاسرائيلية التي تزور المزارعين الفلسطينيين مباشرة أو من خلال وكلائهم المحليين تلعب دورا هاما في هذا الانفلات الكيماوي. والجدير ذكره أن أوضاع الأخيرين قد تحسنت في الآونة الأخيرة، ولم يتورع بعضهم، في ظل غياب الرقابة الرسمية أو الشعبية الجدية، من بيع مبيدات مغشوشة، وبنفس أسعار غير المغشوشة (للتمويه.
والحقيقة أن شركات الكيماويات الاسرائيلية تستخدمنا كحقل تجارب، إذ تعمل أولا على تسويق مبيداتها الجديدة (التي تنتجها أو تستوردها) في السوق الفلسطيني، ومن ثم تقرر تسويقها أو عدمه في السوق الاسرائيلي وغيره. وحاليا تنتشر في الضفة والقطاع عشرات أصناف المبيدات الكيماوية السامة والمحظورة والتي تستخدم بآلاف الأطنان سنويا، علما بأن بعض الأوساط تقدر نسبة المبيدات من إجمالي تكاليف الانتاج الزراعي الفلسطيني بما لا يقل عن 35%، وهي تعتبر من أعلى النسب في العالم(). والأنكى من ذلك، أن بعض النشرات الارشادية الصادرة عن مؤسسات رسمية وغير رسمية، والموجهة للمزارعين، توصي باستخدام بعض المبيدات الكيماوية التي حظر استخدامها دوليا أو منع استعمالها في العديد من دول العالم، بسبب أضرارها الصحية والبيئية الخطيرة، والأمراض المزمنة والمميتة التي قد تسببها للانسان().
ومن المفيد الاشارة هنا، الى أنه غالبا ما تكون شركات الكيماويات الزراعية المنتجة أو المسوقة هي المصدر الوحيد لمعلومات المزارعين أو المهندسين والمرشدين الزراعيين الخاصة بهذه الكيماويات، علما بأن أبحاثا عديدة في العالم أثبتت عدم دقة أو حتى خطأ معظم هذه المعلومات التي هدفها الأول والأخير الدعاية التجارية لسلعها الكيماوية. ونتج عن هذه المعضلة الأساسية معضلة أخرى تتمثل في الضعف الواضح في قدرة العديد من المهندسين والمرشدين الزراعيين على تشخيص المرض الزراعي وتحديد العلاج، بحيث تكون الكيماويات أول خيارات المهندسين، بدلا من جعلها الخيار الأخير(.
العامل الذاتي في تدمير الأرض والبيئة:
بالرغم من عوامل التدمير البيئي الموضوعية، والمتعلقة أساسا باسرائيل ومستعمراتها، إلا أننا كمجتمع فلسطيني نتحمل أيضا قسطا هاما من المسؤولية في التدمير البيئي الجاري. وبامكاننا إيجاز العامل الذاتي الفلسطيني في تدمير الأرض والبيئة بما يلي:
أولا: التقلص المستمر في مساحات الأراضي الفلسطينية المزروعة، ليس فقط بسبب المصادرات الاسرائيلية والتهويد، بل أيضا بسبب مواقف وسياسات وسلوكيات فلسطينية غير جذرية تجاه الأرض وانتاج الغذاء. وهنا لا بد من الاشارة الى ظاهرة اقتطاع أجزاء كبيرة من الأراضي الصالحة للزراعة لاقامة المنشآت والمباني، الأمر الذي يمس الأمن الغذائي والوطني الفلسطيني ويهدد بتدمير ما تبقى من بنيتنا الزراعية.
ثانيا: تقلص مساحات الأراضي الصالحة للزراعة بسبب إقامة المزيد من المنشآت الصناعية عليها، فضلا عن زيادة نسبة الكلس في الأراضي المحيطة بهذه المنشآت بسبب مخلفات الأخيرة، وبالتالي تدمير خصوبة التربة، بالاضافة لقتل الغطاء النباتي وتلويث المياه الجوفية والسطحية. ناهيك عن التأثيرات البيئية والصحية الخطيرة والمباشرة التي تحدثها الكسارات ومناشير الحجر الفلسطينية المنتشرة في المناطق الزراعية والسكنية. علما بأن سلطات الاحتلال هي التي رخصت (عمدا) معظم هذه الكسارات في المناطق المذكورة.
ثالثا: ينحصر اهتمام العديد من مزارعينا في مجرد تحصيل أكبر قدر ممكن من المداخيل والأرباح، حيث ينعدم لدى بعض المزارعين الحرص الضروري للحفاظ على التربة أو أنه لا يتبع الدورة الزراعية أو الممارسات الزراعية المستديمة التي يمكنها أن تحافظ على خصوبة التربة ومعدلات انتاج جيدة. لهذا نجد، باستمرار، المزيد من مشاكل التربة، كالارتفاع المتواصل في نسبة الملوحة والكلس في منطقة أريحا مث