المبحث الثاني
استقطاع الأعضاء البشرية بغرض الزرع
(5) إذا كان من الجائز شرعا أن يتدخل الطبيب في جسم المريض تحقيقاً لمصلحة معتبرة عند هذا الأخير، وقد يصل الأمر إلي قطع جزء من جسمه إنقاذا لحياته (35) فهل يجوز شرعا للطبيب أن يعمل مبضعه في جسم إنسان حي سليم، أو في جثته تحقيقا لمصلحة علاجية لإنسان آخر مريض؟ تلك هي حالة استقطاع عضو من جسم إنسان أو جثته (ونسميه المعطي) بغرض زرعه في جسم إنسان آخر مريض (نسميه المتلقي) يقتضي علاجه القيام بمثل هذا العمل.
لا صعوبة بالنسبة للشق الثاني من هذا العمل، وهو زرع العضو في جسم المريض المتلقي، فهو يدخل في عداد الأعمال الطبية أو الجراحة المباحة بإذن الشرع وبإذن المريض إذا توافرت شروط الإباحة (36)، ولكن الصعوبة كلها تكمن في الشق الأول من العملية، ألا وهو استقطاع العضو من إنسان سليم غير مريض، فكيف يباح شرعاً مثل هذا العمل الذي لا تقتضيه ضرورة صحية عند الإنسان المستقطع من جسمه العضو؟ فإن قيل إن ذلك العمل لا يباح إلا في حالة الضرورة فإن مؤدي ذلك أنه يطلب من الطبيب أن يجمع مصالح شخصين في إطار واحد لكي يقيم الموازنة بينهما بارتكاب أخف الضررين. ولكن السؤال الذي يعرض هنا هو مثل هذه الموازنة بين قيم إنسانية متعارضة"هل هو أمر مسموح به في مصادر الشريعة الأصلية، وهل يوجد في الإطارات الفقهية التي يعرفها الفقه التقليدي وسيلة يمكن بها بلورة هذه الموازنة؟
(6) فيما عدا النصوص القرآنية الخاصة بالانتفاع بلبن المرضعات (37) لا يوجد، على حد علمنا، نص صريح ومباشر في القرآن أو السنة يعالج مسألة استقطاع الأعضاء البشرية بغرض زرعها في حالة الضرورة (38). فإذا توجهنا بعد ذلك
إلى القواعد الفقهية، لوجدنا أنها تتطلب منا أن نراعي ثلاثة أمور:
الأول: ديني يتصل بمدى جواز الانتفاع بأجزاء الآدمي حيا أو ميتا، والثاني: فقهي، وان شئت قل قانوني، يتعلق بالوسيلة الفنية التي يمكن بها تجسيد أو بلورة هذا الانتفاع، أما الأمر الثالث فهو يتعلق بالمفاضلة بين المصالح المتزاحمة. فإذا شرعنا قي تطبيق القواعد الفقهية، مع مراعاة الأمور الثلاثة السابقة على الاستخدامات الحديثة للأعضاء البشرية، كما طبقها بعض الفقهاء من قبل على بعض أجزاء الآدمي، لوجدنا أن المجال يتسع لاختلاف الرأي في مدى شرعية استقطاع الأعضاء بغرض الزرع، ويتعين علينا حينئذ الترجيح بين أدلة الإباحة وأدلة التحريم.
المطلب الأول
(الإطار الفقهي للمشكلة)
(التعاقد على أجزاء الآدمي)
(7) لا يحل لإنسان الانتفاع بشيء مملوك لإنسان آخر إلا من خلال أحد الإطارات الشرعية التي حدد الفقهاء شروط صحتها. ومن بين هذه الإطارات العقود مكان الصدارة. ويشترط لصحة العقد، بصفة عامة، أن يكون محله قابلاً للتعاقد شرعاً وهو لا يكون كذلك، عند الفقهاء، إلا إذا كان ما لا متقوماً يجوز الانتفاع به وكان مملوكا للعاقد (39). فإذا وقع العقد على شيء لم يستوف هذه الشروط فلا أثر في نقل الملك أو الانتفاع (40). وهنا يثو ر التساؤل عما إذا كان يجوز شرعاً التعاقد الذي محله جزء من أجزاء الإنسان؟ لقد تعرض الفقهاء لمثل هذه المسالة بخصوص التعاقد على لبن الآدميات، واختلفوا في مدى جوازه، وكان خلافهم هذا متفرعا على اختلافهم في استيفاء محل التعاقد لشروط صحته . فلنحاول هنا أن نبرز الأمور التي قد تمنع الانتفاع بأجزاء الآدمي من خلال تعرضنا لمدى انطباق أهم شروط محل التعاقد عليها (1). وأحب أن انوه هنا إلى أن القيام بهذه المحاولة اقتضى منا التعامل مع تفصيلات كثيرة احتوتها كتب الفقه الإسلامي الأصيلة.
لذلك رأيت من المناسب هنا، مراعاة لحجم البحث. أن أختصرها بقدر الإمكان بحيث أخلص إلى الأصول الأساسية التي ترتكز عليها هذا التفصيلات، حتى يمكننا بعد ذلك التساؤل عما إذا كانت مقتضيات هذه الأصول تظل قائمة في حالات الاضطرار إلى الانتفاع بأجزاء الآدمي.
أولا: حكم الانتفاع بأجزاء الآدمي في حالة السعة (الاختيار):-
لا يجوز التصرف في شيء إلا إذا كان مالا، كما لا يحل الانتفاع به إلا إذا كان طاهراً.
1- هل جسم الإنسان من الأموال؟:
(
![هادئ 8)](http://f2t.net/smf/Smileys/default/cool.gif)
لا يصح، من الناحية الفقهية، أن يكون الشيء محلا للتعاقد إلا إذا كان مالا متقوما يجوز الانتفاع به في حالة السعة أي في غير حالات الاضطرار الاستثنائية، وللفقهاء تعريفات متعددة للمال المتقوم تدور كلها حول ذلك الشيء الذي يحل الانتفاع به وقت السعة، ويقع تحت الحيازة ويتموله الناس بأن تكون له قيمة في السوق يضمنها متلفه (42) ونحن إذا طبقنا مقاييس اعتبار الشيء مالا متقوما على جسم الإنسان في مجموعة لوجدنا أنها لا تنطبق عليه. لذلك ذهب الفقهاء إلى أن الإنسان، حيا أو ميتا، لا يمكن أن يكون محلا ممكنا ومشروعا للمعاملات (43).
فالإنسان ليس مالا (44) لا في الشرع ولا في الطبع ولا في العقل، فالشرع يأبى أن يعامل الإنسان، الذي كرمه الله ، معاملة الأموال(). والشيء لا يعتبر مالا، في الطبع أو في العرف، إلا إذا كانت له قيمة في الأسواق (46)، ومن الواضح أن هذا لا يصدق في حق الإنسان (74) كما أن اعتبار الإنسان مالاً فيلف العقل لأن اعتبار الشيء مالاً يقتضي أن يكون هذا الشيء خارج الإنسان في حين أن جسم الإنسان ليس شيئا خارجاً عنه (48).
وإذا كان مبدأ عدم تقوم الإنسان بالمال يصدق في حق الإنسان في مجموعة جسمه وحياته وجثته، فهل يصد ق ذلك
أيضا في حق أجزائه بعد انفصالها عن جسده أو جثته (49)؟ من المفيد أن نبرز هنا الاتجاه الذي يسود المذهب الحنفي والذي قوامه أن أطراف الإنسان تعتبر من قبيل الأموال بالنسبة لصاحبها (50). ومعنى الأطراف هنا ينسحب، فيما يبدو، على كل عضو أو جزء في جسم الإنسان بصفته المنفردة أي منعزلا عن باقي الأعضاء التي لا يجوز أن يرد التصرف على مجموعها. ولذلك فإنه يجوز للإنسان عند الحنفية أن يتصرف في جزء من جسمه لغاية مشروعة. كأن يضحي بجزء من جسمه لإنقاذ حياته (51) فهو كالمال خلق وقاية للنفس (52).
وهكذا يتضح مما سبق أن جسم الإنسان وجثته لا يعد مالا عند جمهور الفقهاء (53) في حين أن الحنفية يعتبرون ما ينفصل من الجسم أو الجثة من قبيل الأموال.
والسؤال الآن هل يحل شرعا الانتفاع بالجزء المنفصل؟.
2- هل أجزاء الآدمي طاهرة؟
9- يشترط في محل العقد أن يكون طاهرا منتفعا به في الطبع وفي الشرع (54). وإذا كان لا يجوز بيع الشيء الطاهر الذي لا منفعة فيه (55)، فإنه لا يجوز أيضا أن تكون النجاسات أو بصفة عامة المحرمات محلا للعقود (56) وهنا أيضا يثور التساؤل عما إذا كانت أجزاء الآدمي طاهرة أم أنها من المحرمات التي لا يحل الانتفاع بها في حالة السعة والاختيار.
بالنسبة للجزء المنفصل من الجسم الحي لم يتفق فقهاء المذاهب على طهارته وجواز الانتفاع به ، ولهم في ذلك تفصيلات وأقوال كثيرة تعمدنا ألا نعرض منها هنا إلا ما يفيدنا في استخلاص الأصول. والراجح في هذه الأقوال أية على فرض أن الجزء المنفصل يعد طاهرا فانه لا يجوز مع ذلك الانتفاع به احتراما له من الابتذال فالانتفاع به يتعارض مع كرامة الإنسان وحرمته في الشرع (57) والأمر كذلك بالنسبة لأجزاء الجثة التي يتعين دفن ما انفصل منها فهذا ما تقتضيه حرمة الموتى (58).
ولكن إذا كان الأصل الذي يقضي بعدم جواز الانتفاع بأجزاء الآدمي يرجع إلى أنها من المحرمات، فان هذا الأصل لا يمنع الإنسان الذي انفصلت من جسده أن ينتفع بها كدواء إذا كان لا يوجد شيء آخر يقوم مقامها في التداوي، ذلك أن هناك أصلا آخر يقضى بإباحة التداوي بالمحرمات إذا كان لا يوجد في الأشياء المباحة ما يقوم مقامها (59). فإذا تعين الشيء المحرم دواء وحيدا للمريض فإنه يحل الانتفاع به (60). فالحرمة ساقطة، كما يقول ابن عابدين، عند الاستشفاء (61)، كما أن مصلحة العافية والسلامة أكمل من " مصلحة اجتناب المحرمات (61) وهذه قاعدة من القواعد الكلية في المجال الطبي والجراحي. وإذن ففي حالة الضرورة يجوز للإنسان أن ينتفع بجزء من أجزائه للتداوي بشرط أن تكون المصلحة في ذلك أعظم من ترك الجزء في مكانه (63).
ولكن هل يجوز لإنسان أن يتداوى بأجزاء إنسان غيره إذا لم يوجد شيء آخر يقوم مقامها ؟
هذه مسألة لا تتعلق بمدى جواز الانتفاع بأجزاء الآدمي في حالات الاضطرار سنبحثها فيما بعد، ويكفينا هنا أن نلاحظ أن الرأي الغالب في الفقه يرى حرمة ذلك إما لكرامة الإنسان وإما مخافة هلاك الإنسان المأخوذ منه الجزء.
(10) إلى هنا نستطيع أن نقول إن المقدمات التي يرتكز عليها الفقه التقليدي تقضي بأن الجزء المنفصل، وان كان يظل منتفعا به في طبيعته، خاصة إذا حافظنا على حياة خلاياه، فإنه يمتنع في الشرع نقل الانتفاع به إلى إنسان آخر. لانه يفترض أن ذلك لا يتم الا بوسيلة تتعارض مع كرامة الإنسان، وهي من الوسائل التي يعرفها الفقهاء للتعامل في الأموال. فكان العقبة من انتفاع إنسان بجزء من جسم إنسان آخر إنما هي عقبة فنية ترتبت على التحليل الفقهي التقليدي الذي لا يعرف إلا الأدوات (العقود) التي يتعامل فيها في الأموال (64) ولكن إذا كان الفقه الإسلامي فقها عمليا يحرص على إشباع حاجات الناس المشروعة فيجب ألا تقف صعوبة اختيار وسيلة الانتفاع بأجزاء الآدمي حجر عثرة أمام ضيق حاجات إنسانية تتفق مع المقاصد العامة للشرع، خاصة إذا كان هذا الانتفاع في ذاته ، ومجرؤا على وسيلته لا يتعارض مع الكرامة الإنسانية. ولقد تغلب بعض الفقهاء التقليديين على هذه الصعوبة وهم بصد د بحث الانتفاع بلبن الآدميات.
3- التعاقد على لبن الآدميات:
(11) اتفق الفقهاء على أن لبن الآدميات، باعتباره جزءا منفصلا عن جسم آدمي يمكن الانتفاع به في الشرع لورود آيات بينات في هذا المعنى ، (65) ولا العرف لأنه مخصص بطبيعته للخروج من جسم المرأة لينتفع به غيرها (66) غير أن الفقهاء اختلفوا، بعد ذلك، في تحديد العقود التي يمكن أن يتعلق محلها بلبن الآدميات ويرجع اختلافهم هذا إلى عدم اتفاقهم على تحديد طبيعة اللبن، وإلى ما إذا كانت إجازة الشرع للانتفاع به هي إجازة مطلقة أم إجازة مقيدة بالضرورة. ونحن إذ نعرض هنا للنتائج التي توصل إليها الفقهاء، في هذه المسائل، إنما نقصد من ناحية التأكيد على أن مسألة الانتفاع بأجزاء الآدمي، فيما لم يرد به نص شرعي، إنما هي مسألة اجتهادية يختلف فيها الرأي بحسب الاعتبارات، وهذه هي الناحية الأخرى التي تتنازع هذه المسألة إضافة إلى مبررات تغليب اعتبار على آخر.
(12) اتفق الفقهاء على أنه يجوز الانتفاع بلبن الآدميات عن طريق وسيلة عقدية تسمى إجارة الظئر ومعناها أن المرأة تستطيع أن تلزم نفسها بإرضاع طفل لا تلتزم شرعاً بإرضاعه مقابل أجر( 67).
ولقد روعي في إجازة هذا العقد أن تنفيذه لا يؤثر في السلامة الجسدية للمرأة لأن لبنها مخصص بطبيعته للخروج من جسدها كما أنه متجدد شأنه في ذلك شأن النشاط العضلي في عقد إجارة الآدمي (عقد العمل) (68) واختلف الفقهاء في تحديد ما ترد عليه إجارة الظئر، فقال البعض إنه يرد على اللبن ذاته (69)، حين ذهب البعض الآخر إلى أن العقد يرد على خدمات المرأة، أي على منافعها وليس على ذات اللبن (70). ولن نقف عند التفصيلات التي أوردها الفقهاء لتكييف العقد الذي يرد على اللبن، هل هو بيع أم إيجار، ولتحديد ما إذا كان من الأموال أم لا، إن ما يهمنا أن نبرز هنا نتيجة في منتهى الأهمية ألا وهي أن لبن المرأة باعتباره جزءا من آدمي، وإن كان لا يعد، عند الحنفية. محلا ممكنا وشروعا للعقد أصلا، إلا أنهم أجازوا عقد الرضاعة كاستثناء، أي استحسان تبرره ضرورة المحافظة على حياة الطفل.
فكان مبدأ عدم جواز التصرف في أجزاء الآدمي، الذي يقوم على قضية كرامة الإنسان، يحتمل استثناء إذا وجدت ضرورة تبرره عند آدمي آخر وكأن هذه القضية ليست قضية مطلقة. وهذه الضرورة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار متى
كانت المصلحة المترتبة على رعايتها تعلو، في سلم القيم، أي اعتبارات أخرى ولو كانت اعتبارات فقهية بأركان العقود.
إن الشرع ذاته أذن بالتعاقد على اللبن يرجح المصلحة التي تترتب عليه على قضية كرامة الإنسان وإذن فالمسألة التي تستحق النظر هي مسألة الترجيح بين المصالح المتزاحمة في موضوع الانتفاع بلبن الآدميات بصفة خاصة وبأجزاء الآدمى بصفة عامة.
وإذا كانت الضرورة تجعل من القيمة التي يحفظها مبدأ كرامة الإنسان قيمة مرجوحة أمام قيمة المصلحة المترتبة على الانتفاع بأجزائه، فهل تبرر الضرورة أيضا الضرر الذي يمكن أن يعود على الإنسان من استقطاع أجزاء من جسمه لمصلحة شخص آخر؟
ثانيا: حكم الانتفاع بأجزاء الآدمي في حالات الاضطرار
(13) حين أباح الشارع الحكيم أكل المحرمات في حالات الاضطرار(71) فإنه يكون بذلك قد أباح العلاج بها، فضرورة الغذاء كضرورة العلاج تبيح المحظورات (72) لان الهلاك أو التلف الذي يمكن أن يعود على الإنسان من عدم التغذي يمكن أن يصيبه من عدم التداوي (73). والأصل في أجزاء الآدمي حرمتها على بني جنسه (74). وإذا كان الفقهاء لا يتعرضون عادة للانتفاع بأجزاء الآدمي في حالات الاضطرار إلا بصفتها غذاء، فان تحليلهم الفقهي لأحكام هذه الحالات يسرى، بطريق القياس، على استعمال هذه الأجزاء كوسيلة للعلاج. وإذا كانت الضرورة تبيح، في رأي بعض الفقهاء التداوي بالمحرم إذا لم يوجد غيره من المباحات يقوم مقامه، فان السؤال الذي يعرض هنا هل تبرر حالة الضرورة استقطاع أجزاء من جسم الإنسان أو جثته كوسيلة لعلاج إنسان آخر؟.
(14) ذهب غالبية الفقهاء (75) إلى أن الضرورة لا تبرر انتفاع الإنسان بأجزاء آدمي غيره ولو كان ميتا ويتجسد 7 سبب هذا الحكم عند بعضهم في كرامة بني آدم وخشية الهلاك أو التلف الذي يصيب الإنسان الحي منه، في حين يري البعض الآخر أن هذا السبب تعبدي لا تدرك عته. وإذن فتحريم أجزاء من بني آدم تحريم مثقل لا يباح حتى لضرورة (7.
وعلى العكس من ذلك، يجيز الشافعية للمضطر أن ينتفع بأجزاء الآدمي المهدر أو المعصوم الدم وفقا للتفصيل
ا لآتي:-
فيجوز للمضطر أن يستعمل جسم إنسان مهدور الدم كالحربي والزاني المحصن أو جثته في الغذاء (77)، أما بالنسبة للمعصوم فإن كان ميتا فيجوز للمضطر أن ينتفع بجثته كغذاء إن لم يجد غيره لأن حرمة الحي أكد من حرمه الميت (78) أو لأن المفسدة في أكل لحم ميتة الإنسان أقل من المفسدة في فوات حياة إنسان (79) 0
أما إذا كان المعصوم حيا فيجوز للمضطر، عند الشافعية، أن يقطع جزءا من جسمه كغذاء، وكذلك لا يجوز لمعصوم الدم نفسه أن يقطع جزءاً من نفسه ليقدمه للمضطر( 80)، لأن الضرر لا يزال يمثله (81). ولكن يجوز للمضطر، عند الشافعية، أن يقطع جزءا من جسمه ليأكله إن لم يجد غيره،. لانه إحياء للنفس بإتلاف عضو فجاز وهذا من باب استبقاء الكل لزوال الجزء (82). ومؤدى هذا الحكم الأخير أنه يجوز استقطاع جزء من جسم شخص تحقيقا لمصلحته هو، كما لو استقطع جزء من جلده لترقيع جرح في جسمه.
ويشترط لإباحة الانتفاع بأجزاء الآدمي الميت، في حالة الضرورة، ألا يجد المضطر غيره، وأن يكون المضطر معصوم الدم، غير دامي أو معاهدا إذا كانت الميتة لمسلم، وأن يكون الضرر المترتب على عدم الانتفاع أعظم من الضرر المترتب على عدم مراعاة المحظور، أي أن تكون المصلحة في الاستقطاع أعظم من المفسدة التي اقتضت حظره.
(15) وهكذا فإن الضرورة، في أكثر المذاهب توسعا في إباحة الانتفاع بأجزاء الآدمي المعصوم، لا تبيح هذا الانتفاع إذا حدث الاستقطاع من جسم إنسان حي، والعلة في ذلك تتمثل إما في شرفه وكرامته أو في أن الاستقطاع بفصي
إلى الهلاك أو التلف، والضرر لا يزال يمثله.
والسؤال الذي يعرض على الفور هو هل ينقلب الخطر إلى إباحة في حالة الضرورة إذا كان الهدف من الاستقطاع
لا يتعارض مع الكرامة الإنسانية وكانت المصلحة المترتبة عليه أعظم من ضرره؟ الإجابة على هذا السؤال تضع الحد الحاسم في الترجيح بين أدلة الإباحة وأدلة التحريم.
" المطلب الثاني "
الترجيح بين أدلة الإباحة وأدلة التحريم
(16) رأينا أن العقبات التي قد تحول دون الانتفاع بأجزاء آدمي لدى آدمي آخر تتركز حول فكرتين، الأولى الكرامة الإنسانية أي حرمة الإنسان وشرفه حيا وميتا ، والثانية الضرر الذي يعود على الإنسان المنقول منه الانتفاع بجزء من أجزائه.
ونحن نعتقد أن المناط في الحكم على هذه العقبات أو في كيفية تذليلها إنما يرجع فيه إلى قاعدة التدرج بين المصالح والمفاسد التي طبقها بعض الفقهاء في حالة الاضطرار إلى الانتفاع بأجزاء الميت. وهذه القاعدة، التي هي صدى لمبدأ عام هو تحصيل أعظم المصلحتين أو درء أعظم المفسدتين، يجب أن ينطبق أيضا عند التزاحم بين قيم الأحياء ومصالحهم.
ولقد رأينا تطبيقا واضحا لهذا التدرج سمح الشارع بالأخذ بمقتضاه في مجال الانتفاع بلبن الآدميات. وبناء عليه
فإنه يلزمنا الآن أن نثبت أنه يجوز شرعاً الانتفاع بأجزاء الآدمي، حياً أو ميتاً، لعلاج آدمي آخر متى كان هذا الانتفاع نتيجة ضرورية، وبالتالي شرعية للتدرج بين المصالح. ولن نقف هنا عند العقبة الفقهية المتمثلة في عدم استيفاء أجزاء الآدمي لشروط محل العقود على الأموال، لأن هذا إقحام لأمر في غير مجاله، فنحن هنا لسنا بصدد الانتفاع بالأموال (83). ولن نستبقي من تحليلات الفقهاء، في هذا الصدد، إلا قضية كرامة الإنسان لنرى كيف يمكن تخطي العقبة المبنية على هذه القضية، في حين يثبت أن هذا الانتفاع يدخل بالنظر إلى ظروفه الضرورية وهدفه النبيل في إطار الكرامة الإنسانية التي لا تتعلق بإنسان واحد بقدر ما تتعلق بالنوع الإنساني.
وإذن لا يتبقى لنا إلا أن نثبت أن استخدام أجزاء الآدمي، حيا أو ميتا لعلاج غيره من الناس لا يتعارض في الشرع مع كرامته، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن نبين الشروط التي يترتب على إجماعها زوال المانع من الانتفاع بها وهو مخافة الهلاك أو الضرر.
أولا: إذن الشرع وأذن المعطى في إباحة استقطاع الأعضاء البشرية:
(17) تطبيقا للقواعد التي تحكم حق الله وحق العبد في جسم هذا الأخير في حالات الاضطرار، فان الشرع يأذن بنقل جزء من جسم المعطي إلى جسم المريض المتلقي إذا كانت المصلحة المترتبة على ذلك أعظم من المحافظة على حق الله تعالى في جسم المعطى. ولكن المشكلة تكمن في كيفية تعيين إنسان محدد ليدخل حقه في التكامل الجسدي في ميزان الترجيح بين المصالح.
لا خلاف بين أهل العلم كما يقول القرطبي (84) في وجوب رد مهجة المسلم عند خوف الهلاك أو التلف بالشيء اليسير الذي لا مضرة فيه على صاحبه. وهذا الواجب يقع في ذمة الجماعة فرض كفاية.
فإذا لم يكن هناك إلا شخص واحد بيده إخراج المضطر من حالته كان إنقاذه فرض عين على هذا الشخص، ويقع على الجماعة أو على الشخص المعين إثم عدم إنقاذ المضطر وعليهم الضمان (85) فالشرع يطلب من الإنسان التضحية ببعض من حقوقه لإنقاذ المضطر إذا كان ذلك لا يعود عليه بضرر أعظم من الضرر العائد على المضطر. ولقد. رأى الشرع أن إنقاذ نفس واحدة يعد بمثابة إحياء للناس جميعا وقوله تعالى (أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ) (5/ 32) (86) يفيد أن من يقوم بإنقاذ الإنسان إنما يحفظ مصلحة اجتماعية (87)
وتطبيقا لذلك فإنه إذا كان إعطاء الإنسان عضوا من أعضاء لإنسان آخر مريض يترتب عليه إنقاذه من الهلاك،
دون أن يترتب على ذلك هلاك المعطي، فإنه يعد عملا مميزا للتضامن الإنساني (88) ومعبرا عن معاني الرحمة والمودة، ومن ثم متفقا مع الكرامة الإنسانية وجديرا في النهاية بإجازة الشرع.
(18) على أن تضحية الإنسان ببعض حقوقه إنقاذا للمريض المضطر لا تكون جائزة شرعا إذا أدت إلى هلاك المعطي أو فقدانه لوظيفة تشريحية في جسمه فقوله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (2 /195) (89) يفيد أن لك للتضحية المأذون بها حدودا يجب أن يتقيد بها. فإذا تقيد استقطاع العضو من الإنسان بهذه القيود التي سنعرض لها فيما بعد، أمكن قبولها في ميزان الضرورة في اختيار أهون الضررين أو ترجيح أعلى المصلحتين بشرط أن يرضى هذا الإنسان بدخول مصلحته في هذا الميزان، لانه لا يمكن إجبار الإنسان، قضاء، على التبرع بأحد أعضاء لإنقاذ إنسان واحد ولو كان مثل هذا الإنقاذ يقع واجبا، ديانة، في ذمة الأمة جميعا. فهذا الواجب لا يقع على إنسان معين، قضاء، الا برضاه.
(19) فإذا قابلنا بين المصالح التي يتضمنها حق كل من المعطي والمتلقي في سلامة الحياة والجسد ووضعناهما في ميزان القيم ووجدنا أن كفة استقطاع عضو من جسم المعطي أو جثته لزرعه في جسم المتلقي ترجح كفة مصلحة المعطي
في عدم المساس بجسده لانه يجنب المتلقي ضرراً أعظم من الضرر المترتب على هذا المساس، بحيث تكون المصلحة النهائية للعملية حماية مصلحة اجتماعية جديرة بالحماية، فإن هذه العملية تكون جائزة شرعا. على أن مثل هذه الموازنة تقتضي، لضبط مصلحتها النهائية، تقدم العلوم الطبية والجراحية في السيطرة على ظاهرة رفض جسم الإنسان للأعضاء الأجنبية عنه، وإلا ما هي المصلحة في المخاطرة بعمل في سبيل هدف موهوم؟ لذلك فإنه بالنسبة لعمليات زرع الأعضاء التي لم يثبت نجاحها لا يجوز الاستقطاع من الجسم أو الجثة إذا كان مساساً بحرمتها بدون مبرر شرعي.
(20) أما بالنسبة للاستقطاع من الجثة، حيث تتنازع مصالح الأحياء مع مصالح الموتى أو أهلهم، فإن إباحته تستند إلى نفس القواعد التي تبرر تشريح الجثث، بل إن من بين الأغراض التي تبرر شرعية التشريح الاستفادة "من أجزاء الجثة في إنقاذ حياة إنسان أو صحته (90) ،ولقد رأينا قواعد الترجيح بين المصالح والمفاسد تجعل من التشريح أمرا مباحا لأن مصلحة المحافظة على حياة إنسان أو صحته أعظم من الناحية الاجتماعية، من المفسدة المترتبة علي، المساس بالجثة (91).
وهكذا فإنه في حالة الضرورة، حيث يتعين استقطاع جزء من الجثة علاجاً وحيداً للمريض، تعلو مصلحة هذا الأخير على المصلحة التي يحفظها مبدأ حرمة الموتى، ويجوز من ثم استقطاع هذا الجزء من الجثة لزرعه في جسم المريض إذا توافرت عدة شروط حين تصبح المصلحة المترتبة على العملية مصلحة اجتماعية جديرة بالرعاية (92). لذلك أجاز متأخرو الشافعية استخدام عظام الموتى في جبر عظم الحي المنكسر إذا لم يمكن جبره بغيره (93).
والواقع أن مبدأ حرمة الموتى إنما يقصد به حماية ما تمثله من قيم معنوية لدى الأهل، ويكفي لتأكيد احترام هذه
القيم أن يأذن الميت قبل موته بالاستقطاع أو يأذن به الأهل بعد موته.
(21) أما بالنسبة للمريض المتلقي للعضو، فإنه يجوز شرعا زرع مثل هذا العضو في جسمه رعاية لمصلحته في سلامة نفسه وجسمه. فإن قيل إن أعضاء الإنسان من المحرمات لكرامته، قلنا: أنه يجوز التداوي بالمحرم في حالة الضرورة إبقاء للحياة وحفظاً للصحة تماماً كما يجوز التغذي بالمحرمات في حالات الاضطرار. فالشرع ذاته أجاز ترك الواجب وفعل المحرم لوجود اضطرار مرضى (94).
كما أنه رفع عن المريض الحرج أيا كان مصدره (95)، الأمر الذي يسمح بالتداوي بالمحرمات. وإذا كان حكم الاضطرار في الإباحة حكما عاما يسري على جميع المحرمات فإنه يسرى أيضا على الانتفاع بأجزاء الآدمي لان الحكم الشرعي العام أو المطلق لا يجوز تخصيصه أو تقييده بدون نص مخصص أو مقيد، ولا يوجد نص خاص يمنع التداوي بأجزاء الإنسان، حياً أو ميتاً، عند الضرورة. والواقع أننا متى وجدنا في ظروف تتحقق فيها الضرورة، وجب إعمال أحد مقوماتها المتمثل في تحصيل أعلى المصلحتين أو دفع أعظم المفسدتين، فإذا توقف علاج المريض على زرع أحد الأعضاء في جسمه، فلا شك أن مصلحة العافة تعلو على مصلحة اجتناب المحرمات.
(22) واستنادا إلى الاعتبارات المشار إليها فيما سبق صدر العديد من الفتاوى من جهات رسمية من أفراد متخصصين تجيز في مجموعها نقل الأعضاء من أجسام الأحياء (96) أو من الجئث (97) إلى المرضى إذا تعين علاجاً ضرورية للمرض. وذلك مقيد برضاء ذوى الشأن وبعدم حصول ضرر فاحش لمن نقل منه العضو. وكل هذه الفتاوى تستند في التحليل الأخير على قواعد الضرورة حين تتزاحم عدة مصالح وحين يترتب على العمل الضروري مصالح تقابلها مفاسد، وهي قواعد تقتضي بإباحة هذا العمل إذا كانت المصلحة فيه أعظم من المفسدة المترتبة عليها. على أن مثل هذه القواعد لا يسمح بتطبيقها في مسألة الانتفاع بأجزاء الآدمي إلا إذا توافرت عدة شروط ننتقل الآن لمعالجتها.
ثانيا: شروط إباحة استقطاع الأعضاء للزرع:
(23) لما كان استقطاع العضو من المعطي لزرعه في جسم المتلقي، وهو عمل مركب، يتعلق بحقوقه إضافة إلى حق الله تعالى فإنه يلزم، مراعاة لهذه الحقوق توافر عدة شروط ترجع إلى الرضاء والباعث عليه ومدى التضحية المرضي عنها. وإذا كان زرع العضو في جسم المتلقي يدخل في عداد الأعمال الطبية والجراحية فإن إباحته تتقيد بذات الشروط التي تتقيد بها هذه الأعمال بصفة عامة ومنها رضاء المريض. أما بالنسبة لاستقطاع العضو من المعطي فانه يلزم توافر عدة شروط يرجع بضعها إلى حق الله تعالي وبعضها الآخر إلى حق المعطي . وتتركز هذه الشروط الأخيرة حول رضاء المعطي الذي يجب أن يكون صادرا عن إرادة حرة (98 ) وممن هو أهل له بأن يكون بالغا عاقلا وان يصدر من المعطي وهو على بينه من أمره . وتعتقد الآمر باستقطاع عضو من أحدهم لزرعه في جسم . أشقائه أو شقيقاته .
يتبقى بعد ذلك الشروط التي ترجع إلى الله تعالي في جسم المعطي والمتلقي وحياتها والتي يترتب على اجتماعها توافر حالة الضرورة ( 99 ) ويمكن تجميع هذه الشروط تحت طائفتين تندرج تحت أحدهما الشروط التي تقتضيها الكرامة الإنسانية في حين تنطوي تحت الطائفة الأخرى الشروط التي تقتضيها الموازنة بين المصالح المتزاحمة (100 ) .
أ- شروط تقتضيها الكرامة الإنسانية:
(24 ) لا يدخل استقطاع الأعضاء للزرع في جسم مريض في إطار الكرامة الإنسانية إلا إذا استهدف به غاية علاجية مجردة عن الاعتبارات المالية.
أ- الغاية العلاجية لاستقطاع العضو وزرعه:
يشترط لإباحة الاستقطاع من جسم المعطي أن يستهدف به رعاية المصلحة الصحية للمريض المتلقي وأن يكون ضروريا لذلك. ولكن هذه المصلحة لا تبرر مثل هذا الاستقطاع إلا إذا تم بقدر ما تقتضيه ضرورة المحافظة على حياة المريض أو قيام جسم بوظائفه الضرورية، ولما كانت الضرورة تقدر بقدرها وكان الضرر لا يزال يمثله فيجب أن تكون المصلحة المترتبة على استقطاع العضو لزرعه في جسم المريض أعظم من المفسدة المترتبة على ذلك عند المعطي.
ب- امتناع المقابل المالي للاستقطاع:
إذا كانت الضرورة تبرر رعاية المصلحة العلاجية للمريض عن طريق استقطاع العضو وزرعه، إلا أن ذلك لا يباح إلا بقدر الضرورة التي أوجبته دون زيادة، بحيث لا يخرج هذا العمل عن إطار الكرامة الإنسانية. ومما يتعارض مع هذه الكرامة أن يعلق المعطي رضاه بالاستقطاع من جسمه أو جثته على قبضه الثمن، وإلا فإن أجزاء الإنسان لا يمكن بيعها أو شراؤها ، (101) والشرع ذاته لم يقم بالتقدير المالي لأعضاء الجسم إلا في حالة الاعتداء عليها، وتقتضينا الدقة أن نقول أن الدية لا تقابل الأعضاء ولكنها عوض عن الحق الأصلي للمجني عليه وهو القصاص (102). وإذا كان لا يجوز للمعطي أن يعلق تبرعه على قبضه ثمن العضو المستقطع، فلا مانع شرعا من أن يوضع نظام عام يمكن بمقتضاه مساعدة المعطى ماليا عما يفوته من منافع بسبب الاستقطاع.
2- شروط تقتضيها الموازنة بين المصالح والمفاسد:
(25) لا يقبل دخول مصالح كل من المعطي والمتلقي في ميزان الضرورة إلا في حدود معينة تضمن للعملية نتيجة ترقى بها إلى مستوى المصلحة الاجتماعية:-
أ- قيود تقتضيها مصلحة المعطى:
يجب ألا يترتب على الاستقطاع ضرر فاحش بالمعطى. وبناء عليه لا يجوز مطلقا استقطاع عضو إذا ترتب عليه
موت المعطي كالقلب مثلا، فالشرع، وقد أقام مبدأ التساوي بين بني آدم معصومي الدم (1021)، لا يسمح أن يقتل أحدهم لإحياء آخر ( 104).
وإذا وإذا كان يجوز استقطاع الأنسجة أو المواد المتجددة، كالجلد والدم، لأنه لا يحرم المعطي من وظائفها فهي بالفرض متجددة، فإنه لا يجوز استقطاع عضو من الأعضاء المنفردة في الجسم لانه يحرم المعطي من وظيفته التشريحية، وهنا تظهر أهمية الجثة كمصدر لهذه الأعضاء. أما بالنسبة للأعضاء المزدوجة، كالكلى مثلا، فإنه يشترط لإباحة استقطاع إحداها إضافة إلى تناسب المخاطر التي يتعرض لها المعطي مع المزايا التي تعود على المتلقي، أن يكون العضو المتبقي قادرا على القيام بالوظيفة التشريحية للعضو المستقطع. أما إذا كان استقطاع أحد العضوين يؤثر في هذه الوظيفة، بالرغم من وجود العضو الآخر قي جسم المعطي، فلا يباح الاستقطاع (104) والأساس في ذلك أن حماية الشرع للجسم لا تتعلق بأعضاء في ذاتها ولكن باعتبارها محلا للمنافع (105). إذن فحين يرضى المعطى باستقطاع أحد أعضاء المزدوجة فإن ذلك مقيد ببقاء منافعه التي قصد الشارع حمايتها.
ويجب اتخاذ الاحتياطات الطبية اللازمة لدى المعطى حتى يكون هامش الخطر الذي يتعرض له ضعيفاً جداً.
ولامانع شرعا من فرض التزام في بيت المال بتغطية المخاطر غير المتوقعة التي يتعرض لها المعطي.
ب- قيود تقتضيها مصلحة المتلقي:
يجب أن تكون المصلحة المترتبة على الزرع لدى المتلقي جدية وراجحة ،وهي وتكون جدية إذا ثبت من جانب أن الزرع يعد وسيلة ضرورية لعلاجه (106) ومن جانب آخر أنه منتج للغاية المرجوة على سبيل الظن الغالب (107). وهذا الجانب الأخير. يجعل المصلحة راجحة إذا كانت مخاطر الزرع لدى المتلقي أقل من الضرر المترتب على التطور التلقائي للمرض المراد علاجه، كما يجب أن تكون مزايا الزرع أعظم من مخاطره عند المتلقي، وذلك، كله لتطبيق القاعدة ترجيح المصلحة إذا كانت أعظم من المفسدة التي تقابلها.
جـ - قيود تقصيها المقارنة بين مصالح المعطي ومصالح المتلقي:
(26) تختلف طبيعة هذه القيود بحسب ما إذا كان الاستقطاع من جسم إنسان حي أو من الجثة.
(1) القيود العامة:-
بعد أن يواجه الطبيب مصلحة كل من المعطى والمتلقي على انفراد فإنه يدخله في إطار واحد هو إطار الضرورة، ليقيم الموازنة بينهما على أساس اجتماعي وليس على أساس شخصي، لأن العمل الضروري لا يباح الا بمقدار ما يترتب عليه من منفعة اجتماعية، وهذا يقتضي أن تكون المصلحة التي يحفظها العمل الضروري أعظم من المفسدة التي دعت إلى خطرة شرعا. وتطبيقا لذلك لا يباح الاستقطاع إلا إذا استهدف به علاج مرض أعظم ضررا من الضرر الذي يعود على المعطى من بناء الاستقطاع وبحيث ترقى نتيجة العملية إلى مستوى يجعل منها مصلحة اجتماعية محترمة تبرر التضحية ببعض حقوق المعطى.
ويلاحظ أخيرا، أن نتيجة المقارنة بين المزايا والمخاطر المترتبة على استقطاع الأعضاء لزرعها، يتوقف على مدى
الطب في مسألة السيطرة على ظاهرة رفض جسم المريض للأعضاء الأجنبية عنه، فقبل التوصل إلى حل لهذه الظاهرة تكون المخاطر راجحة، أما بعد السيطرة عليها فإن المزايا ترجح على المخاطر. وبقدر التقدم الطبي بارتكاب أخف الضررين الاستقطاع لإنقاذ المتلقي من الهلاك. ولقد كانت خشية الهلاك الذي يمكن أن يصيب المعطي من الاستقطاع، إضافة إلى الهدف الموهوم في زراعة عضو في جسم يلفظه ويطرده، من بين الأسباب التي كانت يمكن أن وتدعو الفقه التقليدي إلي رفض هذا العمل ، أما وقد قيدت تضحية المعطى بالقيود السابق بيانها وتحول الهدف من موهوم إلى مضمون أو في الأقل مظنون في العصر الحديث مع تقدم الطب والجراحة فيجب أن يتغير الحكم لأنه لا ينكر تغير الإحكام بتغير الزمان (108) ولانه حيثما توجد المصلحة فشرع الله (109).
(2) التحقق من الموت:
21) يخضع الاستقطاع من الجثة لذات القيود التي تقتضيها المقارنة بين المصالح السابق عرضها. وإن كان يراعى، نظرا إلى ، أن الاستقطاع لا يخشى منه الهلاك أو الضرر بالنسبة للمعطى فهو بالفرض قد مات (110)، إن ترجيح كفة مصلحة المتلقي لن يواجه صعوبات مثل تلك التي تعرض في حالة الاستقطاع من جسم إنسان حي على أن ترجيح مصلحة المتلقي، باعتباره إنسانا حيا، على المصالح التي تتعلق بالجثة يفترض أن الاستقطاع سيتم من جثة إنسان ثبت موته. وإذن لا يجوز الاستقطاع من الجثة قبل التحقق من حدوث الموت.
وأستطيع أن أزعم أنني راجعت معظم الآيات القرآنية إن لم يكن كلها، التي ورد بها ذكر كلمة الموت ومشتقاتها، ولم أجد فيها تعريفاً صريحاً للموت، وإن كان يمكن لنا باجتهادنا الشخصي، استخلاص معنى الموت الحقيقي الذي عناه القرآن الكريم في بعض آياته، وسنشير إلى هذا المعنى لتلك الآيات عند دراسة الإنعاش الصناعي، وبطبيعة الحال لم يتعرض الفقهاء التقليديون لتعريف الموت من الناحية الطبية، فهذا ليس من اختصاصهم، وان كانوا قد حاولوا تعريفه من الناحية التصويرية (111) ومن ناحية علاماته (112) ومن ناحية آثاره في مجال الحقوق والديون (113) وبطبيعة الحال لا يمكن التعويل على هذه التعريفات لأنها لا تضع معيارا علميا للموت ينبع من داخل الجسم، هذا فضلاً عن أن جانبا من الأفكار التي بنى عليها بعض الفقهاء استنتاجاتهم قد تخطاها التطور العلمي. فهذا ابن حزم (114) يقول إلا يختلف اثنان من أهل الشريعة وغيرهم في أنه ليس إلا حي أو ميت ولا سبيل إلى قسم ثالث...) فى حين أن الطب الحديث أثبت وجود طائفة ثالثة بين الأحياء والأموات حيث يكون الإنسان قد مات طبيا بموت مخه مع بقاء بعض أجزاء جسمه حية بمساعدة أجهزة الإنعاش الصناعي التي تكفل استمرار قيام بعض الأعضاء الأساسية للحياة، كالقلب والرئتين، بوظائفها. وهنا يثار التساؤل عن مدى شرعية استقطاع أعضاء من جسم من يوجد في هذه الطائفة الثالثة؟ تقتضيي الإجابة على هذا السؤال معرفة مراحل الموت أو أنواعه ومعيار الموت الحقيقي للإنسان الذي استقر عليه الطب الحديث.
(28) يتنوع الموت إلى ثلاثة أنواع يمثل كل نوع منها مرحلة من مراحل الموت، (115)، ففي الأحوال العادية يحدث الموت الإكلينيكي، في مرحلة أولى حيث يتوقف القلب والرئتان عن العمل، وفي مرحلة ثانية تموت خلايا المخ بعد بضع
دقائق، من توقف دخول الدم المحمل بالأكسيجين للمخ، وبعد حدوث هاتين المرحلتين تظل الخلايا لمدة تختلف من عضو لآخر، وفي نهايتها تموت هذه الخلايا فيحدث ما يسمى بالموت الخلوي ،وهذه هي المرحلة الثالثة للموت. ويستنتج من هذا أنه من الممكن أن يتوقف قلب إنسان عن العمل ولكن خلاياه، أعني خلايا القلب تظل حية، ولذلك فإن موت هذا الإنسان ليس إلا موتا ظاهريا لا يمنع من إعادة القلب إلى عمله الطبيعي عن طريق استخدام أجهزة الإنعاش الصناعي. أما إذا مات المخ، بعد بضع دقائق من توقف القلب والرئتين، عن العمل فلا أمل، بحسب قدرة بني آدم وعلمهم، في إعادة الحياة إلى المخ وبالتالي الإنسان في مجموعه. لذلك استقر الطب الحديث على أن موت خلايا المخ الذي يؤدي إلى توقف المراكز العصبية العليا عن عملها هو معيار موت الإنسان موتا حقيقيا (116) ورغم حدوث الموت الحقيقي للإنسان فإن خلايا بعض أعضاء جسمه تظل حية لحين تدخل الموت الخلوي، ومن الممكن المحافظة على حياة هذه الأعضاء بتزويدها بالدم المحمل بالأكسجين وغيره أن من ضروريات الحياة عن طريق أجهزة الإنعاش الصناعي، وبهذا يمكن الاستفادة منها، ليس عند صاحبها فهو قد مات بموت المخ، ولكن عند غيره من الأحياء، وهكذا فإنه يكفي للتأكد من موت المعطى التحقق من موت جميع خلايا مخه ومن التوقف التلقائي للوظائف الأساسية للحياة، ولكن يمكن لأجهزة الإنعاش الصناعي أن تكفل بعد ذلك بقاء بعض خلايا جسمه حية. ولذلك فإن الاستقطاع الذي استوفى شروطه الأخرى، من إنسان تعدت حالته مرحلة موت المخ يكون جائزا شرعا، ولا يعد استقطاع القلب منه مثلا قتلا له.
على، أن الطب الحديث الذي أحرز تقدما ملموساً في مسائل نقل الأعضاء البشرية ومن بينها كفالة حياة خلايا الجسم بعد، موت المخ عن طريق أجهزة الإنعاش الصناعي أثار مشاكل شرعية على مستوى آخر، تتعلق بالحدود التي يجوز فيها إطالة الحياة عند إنسان على وشك الموت فلنعالج هذه المسألة إذن.
-----------------------------
يتبع في الرد التالي بإن الله تعالى وعلى بركة الله