السلام عليكم
الموضوع التالي بقلم الدكتور محمد عبد العظيم سعود، أستاذ الرياضيات بكلية العلوم بجامعة عين شمس. من مجلة (التقدم العلمي) العدد السابع والعشرون- يوليو/ سبتمبر 1999 صفحات: 92-95- الكويت. ننقله هنا حرفيا ونترك التعليق للقارئ الكريم.
تطور الفكر الرياضيات
كان ذلك قبل نحو من ثلاثين عاما. حين عُين معيدا بقسم الرياضيات البحتة بكليةالعلوم/جامعة عين شمس. وكان القسم يومئذ يفور بعودة اثنين من مدرسيه، بعيد نوالهما إجازة الدكتوراه من بلاد الفرنجة. وكان أحدهما قد ثاب من اكسفورد بانجلترا، حاز إجازته بإشراف العالم اللبناني الأصل العالمي الأشهر مايكل عطية. وكان الجميع يتحادثون بذلك الانقلاب الذي تم –أو يتتام- في عالم الرياضيات. الذي اصطلح على تسميته بـ "الرياضيات المعاصرة"، أو "الرياضيات الحديثة"، يحمل لواءه في جامعتنا هذان المدرسان كأنهما رسولا العالم المتقدم، بعثا يبشران به ويخرجانه من الظلمات إلى النور.
وكنا نتساءل: هل هي رياضيات منبتة الصلة تماما عن الرياضيات التقليدية، التي تعارفنا عليها في مدارسنا وجامعاتنا، أو أغلب جامعاتنا؟! ويا ترى هل القدرات المطلوبة في أستاذ الرياضيات التقليدية تختلف عنها تماما- أو كثيرا- في أستاذ الرياضيات المعاصرة؟! ويحسب كاتب هذه السطور أن الأمر ليس كذلك بالظبط، والقدرات الرياضياتية المطلوبة في كلتيهما قدرات منطقية بالدرجة الأولى، وهذه تزيد في المعاصرة عليها في التقليدية، وقدرات حسابية بالدرجة الثانية، وهذه تعلو في التقليدية عليها في المعاصرة، لكن من المعلوم كذلك في أبجديات علم النفس أن معامل الارتباط بين القدرات الحسابية والقدرات المنطقية معامل قوي، على الرغم من وجود حالات صارخة شاذة أحيانا، مثلما وجد ثورنديك بالولايات المتحدة الأمريكية تلاميذ بذرعهم ضرب عددين، كل منهما مكون من أربعة أرقام، بمجرد النظر أو السمع (!!)، ويعجزون عن أبسط الاستنتاجات المنطقية!.
هذا إلى أن الرياضيات المعاصرة تتطلب شيئا آخرا هاما جدا، ألا وهو "القدرة على التجريد". ويقع فرع المنطق الرياضي في الذروة بالنسبة لهذه القدرة، وربما يأتي بعده "الجبر المجرد" والهندسة الجبرية، ثم "التوبولوجي" بأنواعه، و"التحليل الدالي"، و.. و.. وربما كان هذا تفسيرا يبدو معقولا لما نلاحظه أحيانا: تلاميذ يحصلون على الدرجات النهائية، أو قريب منها، في امتحانات المدارس الثانوية، لكنهم يجابهون صعوبات شديدة عند دراسة فروع مثل المنطق الرياضي أو الجبر المجرد، أو التوبولوجي بالجامعة!
لقد نشأت الرياضيات المعاصرة لكي تحل مشكلات لم يكن بإمكان الرياضيات التقليدية أن تقدم حلولا شافية لها، فكانت الفروع المستحدثة، ولكي تحل مشكلات عالجتها من قبل الرياضيات التقليدية، لكنها لم تحسن المعالجة، ذلك أنها لم تكن بدرجة الدقة المنشودة، فتقدمت المعاصرة لكي تناقش نفس القضايا وذات الفروع في التقليدية، لكن بأسلوبها الأشد حبكة، والأقوى إحكاما، ومن ثم الأكثر توفيقا.
كلنا يذكر من أيام المدرسة الثانوية والإعدادية- احتراما لا حبا! لهندسة اقليدس "ذلك الصرح الشامخ، الذي ساقنا في تسلق درجه –لساعات طويلة مديدة- أساتذة أمناء مهرة كما يقول "ألبرت آينشتاين" في فاتحة كتابه (النظرية النسبية الخاصة والعامة)".
كانت تلك الهندسة تقوم على تصورات معينة مثل "النقطة" و"الخط المستقيم" و"المستوى" وتقوم كذلك على بدهيات معينة لا نملك البرهنة عليها هندسيا لكننا نحس صدقها. وعلى هذه المفاهيم والبدهيات أقيم ذلك البناء المتطاول بمنطق نبيل. ولم يكن هناك وجه لأن نتساءل –مثلا- إن كان صدقا أنه لا يوجد إلا خط مستقيم واحد يصل ما بين نقطتين أم لا؟! وكل ما كان يمكننا أن نقول به إن هندسة إقليدس تعالج أشياءا تسميها خطوطا مستقيمة، وتنسب لأي واحد منها خاصة التعيين بذاته بنقطتين واقعتين عليه، ذلك أن الهندسة ليست معنية بعلاقات المفاهيم الداخلة فيها بالأشياء الواقعية، لكنها معنية فقط بالصلات المنطقية لهذه المفاهيم فيما بينها.