لقد طرح مفهوم الرعاية الصحية ا لأولية منذ ثلاثين عامًا كمجموعة من القيم والمبادئ والأساليب التي ترمي إلى رفع مستوى صحة الفئات السكانية المحرومة . وقد أتاح ذلك المفهوم، في جميع البلدان، وسيلة لتحسين العدالة فيما يتعلق بالاستفادة من الرعاية الصحية والكفاءة في كيفية استخدام الموارد المتاحة . والرعاية الصحية الأولية هي عبارة عن نظرة شاملة للصحة تتجاوز في مداها النموذج الطبي الضيق . فهي تعترف بأن الكثير من الجذور العميقة للأسقام والأمراض تقع خارج نطاق القطاع الصحي وسيطرته وعليه يجب التصدي لها بانتهاج أسلوب شامل يركز على المجتمع بأسره . والقيام بذلك يؤدي إلى بلوغ عدة أغراض منها: تحسين الصحة والحد من الأمراض وزيادة العدالة والإنصاف وإدخال تحسينات كبرى على أداء النظم الصحية.
ولم تحقق النظم الصحية، اليوم، حتى في أكثر البلدان تقدمًا هذه الأغراض على النحو الكامل . وعلى الرغم من تحقق خطوات جبارة على طريق تحسين الصحة ومكافحة المرض وإطالة العمر فإن الناس، في جميع أنحاء العالم، غير راضين عن النظم الصحية الراهنة. وتتجلى أعظم المخاوف والهواجس في هذا الصدد في ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية . وهذه المخاوف لا تجافي الواقع ذلك أن هناك ١٠٠ مليون شخص ممن يقعون كل عام في براثن الفقر نتيجة لسدادهم تكاليف الرعاية الصحية . وهناك الملايين الآخرون الذين لا يملكون البتة إمكانية الوصول إلى أي خدمات رعاية صحية.
ومرد هذه المشكلة هو أن النظم الصحية وبرامج عمل التنمية الصحية قد تطورت لتصبح عناصر شتى متشرذمة. ويتضح ذلك في المبالغة في التخصص كما يحدث في البلدان الغنية وفي وجود برامج تتحكم في أدائها الجهات المانحة وتركز على أمراض بعينها كما هو الحال في البلدان الفقيرة. وهناك نسبة ضخمة من الموارد التي تنفق على الخدمات العلاجية في حين تلاقي الوقاية وطرق تعزيز الصحة الإهمال و هي أمور من شأنها أن تحد من العبء العالمي الناجم عن الأمراض بنسبة ٧٠ ٪، وباختصار فإن النظم الصحية تعوزها العدالة وهي مفككة الأوصال وتعوزها الكفاءة كما أنها أقل فعالية مما يرجى منها. وعلاوة على ذلك فإن النظم الصحية التي تكافح من أجل الثبات اليوم لا يستبعد أن تتغلب عليها المشكلات المتعاظمة التي تواجهها من تشيخ للسكان واكتساح الأمراض المزمنة وظهور "أمراض مستجدة مثل المتلازمة الرئوية الحادة الوخيمة (السارس) وآثار التغير المناخي بدون بذل جهد كبير في إعادة توجيهها.
وقد جاء في التقرير الخاص بالصحة في العالم، ٢٠٠٨ "الرعاية الصحية ا لأولية: الآن أكثر من أي وقت مضى". "يبدو أن النظم الصحية تتوجه الآن، عوضًا عن تحسين قدرتها على الاستجابة واستباق التحديات الجديدة، إلى التركيز على الأولويات القصيرة الأجل الواحدة تلو الأخرى، وهي م تجزأة ومتشظية باطراد ويعوزها التوجه الواضح".
وبصدور التقرير يوم ١٤ تشرين الأول / أكتوبر فإن منظمة الصحة العالمية تأمل في الشروع في حوار عالمي النطاق حول فعالية الرعاية الصحية الأولية كوسيلة لإعادة توجيه النظم الصحية الوطنية . وقد كتبت مارغريت تشان المديرة العا مة لمنظمة الصحة العالمية في مقال افتتاح صدر في الآونة الأخيرة في مجلة "ذي لانسيت ": ما يلي : "إن الرعاية الصحية الأولية تتيح قبل كل شيء، وسيلة لتنظيم طائفة خدمات الرعاية الصحية بتمامها وكمالها، بداية بالأسرة وانتهاءً بالمستشفى مع إيلاء الاهتمام بمسألة الوقاية على قدم المساواة مع العلاج، وباستثمار الموارد على نحو رشيد في مختلف مستويات الرعاية".
والواقع أن منظمة الصحة العالمية تأمل في إعادة الحيوية للحوار القائم . فمفهوم الرعاية الصحية الأولي ة الذي أطلق رسميًا عام ١٩٧٨ عندما وقّعت الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية على إعلان ألما- آتا أي قبل ٣٠ عامً ا. ولم تسع إلا قلة قليلة من البلدان إلى بلوغ ذلك الهدف المثالي . غير أن ذلك الأسلوب، كما تقول الدكتورة تشان: "لم يفهم كما يجب منذ أن طرح تقريبًا
وكان الظن الذي ساد، وهو ظن خاطئ، بأن الرعاية الصحية الأولية تعني توفير رعاية هزيلة النوعية للمعدمين. وكان ينظر إليها ، أيضًا، على أنها تركز حصريًا على إيتاء خدمات الرعاية من المستوى الأول . وبعض الناس طرح الفكرة جانبًا على أنها مسألة طوباوية مثالية في حي ن رأى البعض الآخر أنها تشكل خطرًا يتهدد المؤسسة الطبية
وفي التقرير تقترح منظمة الصحة العالمية أن تعمل البلدان على استهداء النظم الصحية وقرارات التنمية الصحية بأربعة توجهات سياسية عامة ومتشابكة . وهذه التوجهات تمثل مبادئ الرعاية الصحية الأولية الأساسية.
التغطية الشاملة : حتى تكون النظم الصحية عادلة وتتحلى بالكفاءة يجب أن تتاح لكل الناس فرصة الحصول على الرعاية الصحية حسب احتياجاتهم وبغض النظر عن قدرتهم على سداد تكلفتها . فإذا لم تتح لهم تلك الفرصة فإن حالات الغبن والإجحاف تؤدي إلى نشوء فوارق من حيث متوسطات العمر المأمول، طوال عقود من الزمن، لا بين البلدان فحسب بل داخل البلدان ذاتها أيضًا. وحالات الغبن هذه تثير مخاطر محتملة تحيق بالجميع وخاصة فيما يتعلق بفاشيات الأمراض . ويُعد توفير التغطية التي تشمل الجميع من التحديات المطروحة من الناحية المالية إلا أن معظم النظم يعتمد الآن على المدفوعات المباشرة من جيوب المستهلكين وذلك يعتبر أقل الطرق الفعالة عدالة . وتوصي منظمة الصحة العالمية باتباع أسلوب تجميع الموارد المالية والدفع المس بق ومن بين تلك الأساليب نظم التأمين . وقد بدأت البرازيل في التوجه نحو الأخذ بأسلوب التغطية الشاملة في عام ١٩٨٨ وهي الآن تغطي ٧٠ ٪ من سكانها . ومن البلدان التي أحرزت تقدمًا مثيرًا للإعجاب نحو تحقيق التغطية الشاملة على مدى السنوات الماضية هناك رواندا التي أحرزت ، دون منازع، قصب السبق في هذا المضمار . ذلك أن حكومة رواندا قد أفلحت في خمس سنوات، في أن تمد شبكة التأمين الصحي لتشمل البلد برمته وأن تغطي بمظلتها سبعة ملايين شخص (أي ما يزيد على ٧٠ ٪ من مجموع سكانها)، وهي الآن على المسار الصحيح نحو تحقيق التغطية الشاملة (ولم يتسنى ذلك إلا بفضل الالتزام السياسي القوي باتباع أسلوب التعاضد فيما يتعلق بالتأمين الصحي وبفضل الدعم الدولي).
الخدمات التي تركز على الناس : هناك إمكانية لإعادة توجيه النظم الصحية لكي تلبي على نحو أفضل احتياجات الناس عن طري ق نقاط توفير الخدمات التي تتوافد عليها المجتمعات المحلية . ومن ذلك أن "دور ١٧ دار تخدم كل واحدة منها حوالي ١٥٠٠ الصحة" في جمهورية إيران الإسلامية ويبلغ عددها ٠٠٠ شخص وهي المسؤولة عن الانخفاض الحاد المسجل في معدل الوفيات على مدى العقدين الماضيين، حيث ارتفع متوسط العمر المأمول إلى ٧١ عامًا في عام ٢٠٠٦ في مقابل ٦٣ عامًا في عام ١٩٩٠ . أما استراتيجية الرعاية الصحية الأولية التي تنفذها نيوزيلندا والتي أطلقتها عام ٢٠٠١ فإنها تحتوي على عنصر أساسي يتمثل في التوكيد على توق ي الأمراض المزمنة وتدبيرها العلاجي . كما ساعدت "العيادات المتعددة التخصصات" في ك وبا المواطنين الكوبيين على التمتع بأعلى متوسطات العمر المأمول ( ٧٨ عامً ا) المسجلة في أي بلد نام في العالم . ويتولى برنامج صحة ا لأسرة في البرازيل توفير خدمات رعاية جيدة للأسر في بيوتها وفي المستوصفات والمستشفيات أيضًا.
سياسات تمتع الجماهير بالصحة : إن البيولوجيا بمفردها لا تفسر وجود أي فجوات فيما يتعلق بطول العمر كما يتبين من الفارق بين الأحياء الغنية والأحياء الفقيرة في مدينة غلاسغو والبالغ ٢٧ عامًا. والواقع أن جانبًا كبيرًا من الآثار الواقعة على الصحة اليوم مرده، بشكل عام، إلى تأثيرات القطاع الصحي من ها براء . ذلك أن لوزارات التجارة والبيئة والتعليم والوزارات الأخرى وما تتخذه من إجراءات وقعًا على الصحة إلا أنه لا يؤبه إلا في حالات نادرة للقرارات التي تتخذ في إطار تلك الوزارات والتي تنجم عنها آثار تتعلق بالصحة. وتعتقد منظمة الصحة العالمية أن تلك الوزارات ينبغي أن تشترك في المداولات التي تجرى في هذا الصدد وتعتقد أيضًا أن هناك حاجة إلى تحقيق التكامل على جميع مستويات الحكومة باتباع أسلوب يركز على "إدراج عنصر الصحة في جميع السياسات المتبعة " وذلك يقتضي تغيير الحسابات السياسية لأن بعض أعظم الآثار الصحية يمكن تحقيقها ع ن طريق تنفيذ برامج تنمية الطفل في مراحل عمره الأولى وعن طريق تعل يم المرأة، إلا أن تلك المنافع من المستبعد أن تتحقق خلال فترة أو فترات ولاية السياسيين الذين يتصدون لهذه المسألة.
التوجيه: لن يتأتى للنظم الصحية ا لحالية في الأحوال الطبيعية الاتجاه نحو الأخذ ب نماذج أكثر عدالة وكفاءة (أي النماذج التي تعمل على نحو أفضل ) وأكثر فعالية (النماذج التي تحقق أهدافها ). وعليه وعوضًا عن التحكم والمراقبة، على المشرفين الذين يتولون مهمة التوجيه أن يتوجهوا نحو التفاوض والإشراف . ويتعين إشراك كل عناصر المجتمع ومن بينها العناصر التي لا تشترك تقليديًا في المجال الصحي، بمن فيها المجتمع المد ني والقطاع الخاص والمجتمعات المحلية وقطاع الأعمال . وتحتاج القيادات الصحية إلى إفساح المجال أمام الفئات المستضعفة للإعراب عن احتياجاتها ومراعاة أصواتها والنداءات التي تطلقها في هذا الصدد. وهناك، في هذا المجال، إمكانات هائلة يمكن استغلالها. وُتعد القضايا الصحية، في نصف عدد بلدان العالم، أكبر الهواجس الفردية التي تنتاب ثلث السكان . وتقتضي حكمة القيادة معرفة الأمور التي تعمل على ما يرام . إلا أن بحوث النظم الصحية تعد من المجالات التي تفتقر بشدة إلى الأم وال الكافية . ذلك أن بحوث النظم الصحية، في الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، لا تحظى إلا ب ٠,١ ٪ من الإنفاق في إطار الميزانية الصحية في البلد، ولكن الحاجة ماسة إلى إيجاد أفضل البيانات كأساس تقوم عليه القرارات المتخذة في المجال الصحي.
وبالتركيز ع لى بلوغ هذه الأهداف الأربعة في مجال الرعاية الصحية الأولية بإمكان النظم الصحية الوطنية ، أن تصبح أكثر تماسكًا وكفاءة وعدالة وبإمكانها أن تكون أكثر فعالية بكثير.
إن إحراز التقدم أمر ممكن في جميع البلدان . وهناك، الآن وأكثر من أي وقت مضى، فرص متاحة للبدء في تغيير النظم الصحية لتأخذ بأسلوب الرعاية الصحية الأولية في جميع البلدان . والتحديات المطروحة في هذا الصدد تختلف باختلاف البلدان التي تختلف مستويات الدخل فيها إلا أن هناك قواسم مشتركة بينها . فهناك المزيد من الأموال التي تنفق على الصحة أكثر من أي وقت مضى وهناك المزيد من المعارف التي تم ّ كن من التصدي للتحديات الصحية العالمية بما فيها تحسين التكنولوجيا الطبية . وهناك أيضًا اعتراف بأن الأخطار والفرص المتاحة في مجال الصحة هي قاسم أعظم مشترك بين جميع بلدان العالم . وتقديم المعونة في هذا الصدد هو أ مر مهم بالنسبة إلى بعض البلدان إلا أن الغالبية العظمى للإنفاق على الصحة م أتاه المصادر المحلية . حتى أن ٧٠ ٪ من جميع الموارد المكرسة للصحة اليوم في أفريقيا إنما مردّها الأموال المتاحة محليًا. وعليه فإن معظم البلدان تملك إمكانية البدء في التحرك نحو الأخذ بأسلوب الرعاية الصحية الأولية ونحو جني ثمارها.
المصدر:منظمة الصحة العالمية.