Advanced Search

المحرر موضوع: الصحة النفسية والنمو البشري  (زيارة 627 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

فبراير 02, 2004, 12:00:43 صباحاً
زيارة 627 مرات

وليد الطيب

  • عضو خبير

  • *****

  • 1327
    مشاركة

  • مشرف الإجتماع و النفس والتربية

    • مشاهدة الملف الشخصي
الصحة النفسية والنمو البشري
« في: فبراير 02, 2004, 12:00:43 صباحاً »
السلام عليكم

كاتب هذا المقال, أستاذ بارز من أساتذة الطب النفسي العرب, ولعل تميزه المهني مدين بأسهم عديدة لمساهماته الفكرية والأدبية, إضافة لجهده العلمي المتمرد على المعارف التخصصية الدارجة, ومن هنا تلوح المفارقة وتتجذّر الأصالة, وتستدعي هذه جميعاً أن نُمعن في خصوصية الخبرة.

          فيضان من الفتاوى, والتشخيصات, والنصائح النفسية, تغرقنا كل يوم وكل ساعة, لتنتهي عادة بالتوصية بالتداوي المطمْئِن الجالب للسعادة (بعد أن أصبح لها علم اسمه: (علم السعادة)). عشرات العقاقير يروج لها باعتبارها الحل الأحدث ضد القلق (ألسنا في عصر القلق?), وضد الاكتئاب, وضد وبائية الاكتئاب, وهكذا.

          في الطب النفسي - دون سائر التخصصات - لا توجد علامات محددة لتحديد عتبة المرض. ضغط الدم العادي هو: 120/80 مَنْ يرتفع ضغطه عن ذلك يقال إنه مصاب بمرض ارتفاع في ضغط الدم, وكذلك درجة حرارة الجسم 37ْ, إذا ارتفعت فهي الحمى, وهكذا.أما في الطب النفسي, فالمسألة غير ذلك حتى يصل الأمر أحيانا - مع المبالغة - إلى موقف يقول: (كل من هو ليس مثلي فهو معقد (اسم التدليل للمرض النفسي), أو مجنون (الاسم الفج للمرض العقلي)). يصبح تمييز السواء من المرض أكثر لزوما حين يُستعمل الطب النفسي بواسطة السلطة السياسية, فيصبح كل مخالف للسلطة, عرضة للاتهام بالجنون. تبتعد المسألة أكثر من العلم والأخلاق حين تُستعمل الأرقام شبه العلمية لإيهام الناس بمدى انتشار الأمراض النفسية لمصلحة شركات الدواء.

          شغلتني هذه المسألة منذ أن بدأ اشتغالي بالطب النفسي, منذ ما يقرب من نصف قرن (1957) حتى كتبت عنها مطولا سنة 1968 (مما نشر بعضه سنة 1972), كتبت أنبه إلى ضرورة رفض ترادف الصحة النفسية مع (البَلَه المطمئِنْ), وكذلك ضرورة الحذر من التعريفات التي لا يمكن تطبيقها على كل الناس, (التعريفات المثالية, مثل تعريف الصحة عامة الذي تبنته منظمة الصحة العالمية أو التعريفات الإحصائية التي تفترض تشابه كل الناس, ومن ثم تزعم أن الصحيح هو من يماثل أغلب الناس).

          هل ثم حل لهذا الإشكال?

آليات التوازن

          بزغ الفرض الباكر من واقع الممارسة الإكلينيكية في محاولة الإسهام في حل هذا الإشكال, ثم أتيحت فرص طيبة لاختباره خلال ثلث قرن. هذا المقال يتناول بعض ذلك. يقول هذا الفرض:

          (الصحة النفسية هي التوازن الفعّال, المتنوع المراحل, الذي يمكن أن تتحقق به درجة من الاتساق الداخلي والخارجي, مع قدر مناسب من الفاعلية التي تمكّن من الاستمرار (عدم الإعاقة)).

          من هذا المنطلق بدأ البحث في آليات التوازن المتعددة التي لا بد وأن تختلف باختلاف مراحل النمو, والثقافة المحيطة, وظروف السماح, وإمكانات الممارسة. فتدرجت الفروض الفرعية كالتالي:

          (1) يولد الإنسان ولديه ثلاث آليات أساسية لتحقيق التوازن وهي: الآلية الدفاعية (الحيل الدفاعية مثل الكبت والإسقاط.. إلخ), ثم آلية المعرفة (الرؤية الواعية - تسمّى البصيرة أحيانا), وأخيرا: آلية الإبداع (طزاجة الدهشة فالتفكيك فإعادة التركيب).

          (2) يتحقق التوازن بهذه الآليات معا, ولكن مع تغيّر غلبة ومعنى وترتيب كل منها حسب كل مرحلة.

          (3) مع اطراد النمو, تحدث نقلات نمائية تعيد ترتيب الآليات وطبيعة التوازن, ويتعرض الإنسان أثناءها إلى درجة من التخلخل حتى يستقر على التوازن الجديد, أو يفشل فيمرض.

آليات التوازن ومسار النمو

          أولا: في البداية, تكاد هذه الآليات تتقارب بحيث لا تغلب إحداها, فالطفل يستعمل الدفاعات (مثلا: في إخفاء كراهيته للأخ الأصغر المولود حديثا), وهو يمارس بصيرة عارية (إنت دمك ثقيل يا عمّي), ثم إنه مبدع بالضرورة (إطلاق الخيال بالكذب الجميل).

          ثانيا: مع اطراد النمو باكرا يلجأ الأهل والمجتمع إلى تغليب الآلية الدفاعية حتى يتحقق التوازن بها أساسا (السلوك المهذب, والطاعة, والتشكل) على حساب كل من آلية البصيرة والآلية الإبداعية.

          ثالثا: مع استمرار النمو قد يصبح استمرار غلبة الآلية الدفاعية حائلا دون اتساع الوعي, وفي الوقت نفسه يكون الوعي البشري النامي في تدرب حتى يجرؤ أن (يرى) بعض داخل النفس, وما تيسر من واقع المجتمع بشكل أكثر موضوعية وأعمق غورا, فيحتاج الأمر إلى تنشيط التوازن بقدر أكبر من البصيرة, وقدر أقل من الدفاعات (الميكانزمات), مع احتمال أن تساهم آلية الإبداع بما تيسّر من ناتج إبداعي دون إلزام بممارسة الإبداع الحي الخلاق للذات أو للعالم. وهكذا تغلب آلية الرؤية البصيرة.

          رابعا: مع مزيد من النمو يتهدد هذا التوازن المرحلي (بالدفاعات المتراجعة والرؤية المحدودة غير الحافزة بذاتها), فإذا أتيحت الفرص المناسبة, (أتاحها المجتمع أو حققها الفرد بثوريته ومغامرته الإبداعية) فإن تحقيق التوازن يحتاج إلى آلية أقدر. تلك هي آلية الإبداع الخلاّق, وذلك دون استغناء عن دور الآليات الأولى والثانية ولكن بدرجة أقل. في هذه المرحلة يتحقق التوازن بـ (غلبة آلية الإبداع).

          هكذا نرى كيف يرتب هذا الفرض المراحل المتتالية (المتداخلة) حسب غلبة آلية توازن بذاتها في كل مرحلة من مراحل النمو. إن هذه التبادلات لا تحدث بشكل محدد, ولا هي مرتبطة بمراحل النمو العمرية تماما, وإنما هي واردة في وحدات زمنية مختلفة حسب نبض النمو وظروف تقدمه أو تراجعه. من هنا علينا أن نتعرف على بعض المحكات التي تبين لنا كيف يمكن أن نرجح الآلية الغالبة في وقت بذاته, وأيضا كيف يمكن أن نحكم على مدى التوازن.

المحكات والمعالم

          1 - تقاس الصحة النفسية عادة بمحكات أساسية, أمكن اختصارها في ثلاث هي (أ) الرضا (الداخلي عادة), و(ب) التكيف (مع المجتمع عادة), و(جـ) العمل (اليومي عادة), لكن معاني وترتيب هذه المحكات تختلف حسب درجة النضج ومستوى التطور لكل جماعة ولكل فرد. يستتبع ذلك أنه يصبح لزاما علينا أن نحاول تحديد أنواع  كثيرة, ومستويات مختلفة, لما يسمى الصحة النفسية, قبل أن نعلق لافتات الصحة والمرض على أي شخص.

          2 - إن كل مرحلة من مراحل النمو (الممتدة والمتكررة: من الميلاد حتى الموت) لها من المواصفات ما يحقق التوازن اللازم للمرحلة, وذلك من خلال عمليات وآليات تختلف أولوياتها ومدلولاتها في كل مرحلة عن الأخرى. فيختلف ترتيب ومعنى المحكات الأساسية (الرضا - التكيف - العمل) في كل مرحلة (وبالتالي: في كل مستوى). فمثلا في المرحلة الدفاعية: يأتي الرضا (بالمعنى الميكانزماتي) قبل العمل (الراتب عادة) كما يكون العمل مسخّرا لدعم هذه الميكانزمات الدفاعية, أما في المرحلة الخالقية (الإبداعية) فيأتي العمل إبداعا (تغيير الذات والمحيط), في المقام الأول على حساب الدفاعات, وتقع المرحلة البصيرية بين هذا وذاك مع اختلاف المضمون.

          3 - في واقع الحال لا تسير الأمور بهذا التدرج الخطي التتابعي, فثمة فترات نمو بذاتها تتجسد فيها النقلات من مرحلة إلى مرحلة, وأخص بالذكر(أزمة نمو المراهقة) و(أزمة نمو منتصف العمر).

          4 - لا يتوقف انتقال الفرد من مستوى من التوازن إلى مستوى أعلى على المرحلة العمرية فحسب, وإنما على ظروف عديدة من أهمها: أن تكون المرحلة الأدنى قد استنفدت أغراضها, بمعنى أنها حققت كل ما يمكن تحقيقه لا أكثر, مع استمرار دفع النمو تلقائيا. أو تكون تلك المرحلة الأدنى قد أُنهكت, فلم تعد قادرة على حفظ التوازن بغلبتها وحدها.

          5 - تتم هذه النقلات بسلامة نسبية إذا حدثت: في الوقت المناسب, بجرعات محتملة, في (وسط) متفاهم. فإذا لم تتوافر هذه الشروط, أو حدث سوء توقيت لظهور أزمة التطور وتحديد مساره, فإن فشلا محتملا يصبح مسئولا: (أ) عن فرط التخلخل والمعاناة أثناء الأزمة (وهذا نوع من المرض) أو (ب) عن فشل النقلة ومن ثم التراجع عن محاولة النقلة النمائية بالتجمد على ما كان, وهذا نوع من اضطراب الشخصية نتيجة لجمود النمو وتوقفه, أو (جـ) بالتدني إلى مرحلة أكثر نكوصا, (وهذا نوع ثالث من المرض), وهكذا..

تطبيقات

          لهذه الفروض فائدة عملية في مجالات التقسيم, والوقاية, والعلاج جميعا, ومن ذلك:

          في التقسيم: يمكن أن نعزو الأمراض النفسية تبعا لهذا الفرض إلى أحد احتمالات ثلاثة, (وذلك بعد استبعاد الأمراض النفسية العضوية المباشرة الناتجة عن التهاب محدد أو ورم مرصود أو ما شابه ذلك... إلخ):

          الاحتمال الأول: أن المرض يحدث نتيجة للعجز عن الانتقال من مستوى أدنى في التوازن إلى المستوى الأعلى, وقد يرجع ذلك لاستمرار الآلية الأدنى في نشاط مفرط معيق (مثلا تمادي ميكانزمات الترميز والإزاحة في الوسواس القهري أوالانشقاق في الهستيريا).

          الاحتمال الثاني: أن يظهر المرض ليعلن التوقف في وسط أزمة النمو, والعجز عن إكمال النقلة إلى أعلى, وفي الوقت نفسه العجز عن الرجوع للأدنى (المثال النموذجي هنا هو الألم النفسي في (اكتئاب المواجهة) نتيجة للرؤية المفرطة المؤلمة, مع الإحباط المُشِل).

          أما الاحتمال الثالث والأخير فهو الناتج عن تراجع مسيرة النمو بالجمود السلبي في عكس الاتجاه (مثل الفصام السلبي).

          في الوقاية: لا تقتصر فائدة هذا الفرض على تعدد مستويات التوازن النفسي ليدخل فيها كل الناس بغض النظر عن طريقة توازنهم, ولا على توسيع وتصنيف معنى الصحة النفسية, ولا على تنويع مضامين المحكات التي نقيس بها هذه الصحة, ولا حتى على إعادة تقسيم الأمراض النفسية بطريقة أكثر نفعا وأمكن علاجا, وإنما تمتد الفائدة الواعدة إلى إمكان تعديل موقفنا من تصور مفاهيم مثل السعادة, والإبداع, والتكيف, والرفاهية, وأيضا إلى احتمال الإسهام في الوقاية من خلال الاستعداد لاحتواء نقلات (أزمات) النمو إيجابيا, بمعنى أن تتوجه طرق التربية إلى ضبط جرعة ومساحة السماح بتحمّل مظاهر سلوكيات هذه النقلات (التي تشبه الأعراض النفسية) دون الإسراع بلصق وشم لافتة المرض على أول بادرة اضطراب لمجرد اختلافها عمّا قبلها. إن هذا يتطلب أن تسمى هذه الأزمات باسم متعادل يسمح بالتفاؤل, ويحفز على تحمل مسئولية مواكبته. وقد اقترحنا لمثل ذلك اسم: (الاضطرابات المفترقية) (مفترق الطرق بين النمو, والمرض) حتى يمكن الحفاظ على أمل أن تكون الأعراض النفسية أحيانا (نقلة نمو) وليست (سقطة مرض).

          في العلاج: أفادت التفرقة بين الأمراض الدالة على (حدة الأزمة المفترقية), والأمراض التي تعلِن الانسحاب السلبي إلى المستوى الأدنى: في تحديد دور ومسئولية كل من المريض والمعالج والمجتمع المحيط (الأهل خاصة) في عملية العلاج. إن التركيز على تحويل مسار الأزمة إلى أعلى بدلا من الاكتفاء بتسكين الحركة تماما, حتى لو كانت واعدة بنقلة بنّاءة هو الفائدة المحتملة من تبني هذا الفرض.

          إن تطبيق معطيات هذا الفرض لا يستبعد استعمال العقاقير, بل لقد ثبت بالتجربة أن استعمال المهدئات الجسمية (النيورولبتات Neuroleptics) بطريقة الشرشرة (الحرجلة Zigzag) وليس طول الوقت أو طول العمر, يمكن أن يساعد على احتواء الحريق المشتعل ليصبح طاقة دافعة لإكمال مسيرة التطور المصاحب بالألم والمخاطرة (حتى لو أصابتنا بعض الشرارات المتطايرة). بدلا من الإسراع بإطفاء كل وهج حتى لا يكون ثمّ خيار إلا أن تهمد النار إلى الرماد. (الأشكال المتدهورة والسلبية للمرض النفسي تلقائيا أو نتيجة للعلاج القمعي الكيميائي العشوائي طول الوقت).

نقد وتحديث

          من خلال الممارسة العملية لفروض هذه الأطروحة لحوالي ثلث قرن كما ذكرنا (1970) تبينت خطورة سوء فهمها كأنها دعوة طبنفسية لتصنيف البشر حسب نوع صحتهم وتكيفهم. كأن هذا الفرض يوصي بتصنيف الناس إلى من هم (أعلى) ومن هم (أدنى), كما اتضح مدى الصعوبات العملية على مستوى التربية (للوقاية) والإبداع (لزيادة فرصه العملية) وإن كان الفرض لم يختبر في هاتين المنطقتين على نطاق واسع.

          أما على المستوى الإكلينيكي والعلاجي فقد اختُبِر هذا الفرض حتى أضيف له بعد جديد هو بعد حركية الإيقاع الحيوي. الذي يبين أن هذا التتالي والتبادل, والتقدم والتراجع, من مستوى إلى مستوى يحدث بشكل متكرر, ليس فقط في أزمات النمو المتباعدة, وإنما هو جار طول الوقت مع تكرار النبض الحيوي Biorhythm - خصوصا مع دورات النوم واليقظة والأحلام. إن النبض الحيوي الدماغي, الذي يشمل أطوار اللاستيعاب والبسط, هو الذي يجعل الفرد يكتسب مع كل نبضة حيوية من نبضات المخ قدرات أعلى تمكنه من التعامل بكفاءة بأي من آليات التوازن السالفة الذكر حسب اللحظة والظروف. بناء على ذلك, يحدث المرض النفسي في أي وقت وليس فقط أثناء أزمات النمو ونكسات التراجع, وذلك نتيجة فشل الإيقاع الحيوي في أداء مهمته التوازنية ثم بسطها إبداعا, كما يتفجر الإبداع في المقابل إذا رجحت كفة الإيجابيات. أضف إلى ذلك ضرورة الانتباه إلى إيقاع آخر يسمى (برنامج الداخل والخارج) In - and - out Program وهو يعني أن النمو الحركي هو في حركة تقدم وتراجع باستمرار, تُكمّل وتدعم حركية الاحتواء والبسط, الذي يتميز بها الإيقاع الحيوي.

          قبل الختام, أود الإشارة إلى أن هذا المفهوم الحركي التطوري قد يكون له ارتجاعاته ليس فقط في مجال الطب النفسي والتربية, وإنما في مجالات الإبداع وممارسة الحرية, ودرجة السماح وتطور المجتمعات (السياسة). وكل ذلك وغيره يحتاج إلى تفصيل لاحق.


يحيى الرخاوي  

شكرا