أزمتنا...العقل في أجازة!
حوار أجراه الأستاذ عمرو خالد لمجلة كل الناس بتاريخ 16 يونيو 2004، وهذا هو نص الحوار:
رغم أن التفكير فريضة أسلامية إلا أن كل شيء في حياتنا ضد التفكير.. الشباب يقول إنه مهمة الكبار ومهمتنا الاستمتاع بالحياة.. والكبار تشغلهم هموم الحياة.. والنتيجة أن أزمة أمتنا تتلخص في عبارة واحدة: العقل في أجازة!
الداعية عمرو خالد وهو يفتش عن أسباب تخلفنا وعجزنا في إطار مشروعه "صناع الحياة" يتحدث بقسوة عن آفة غياب التفكير الحقيقي في حياتنا وتحولنا إلى أمة مستهلكة لا تقدم ابتكاراً أو اختراعا أو فكرة إبداعية للإنسانية بدلاً من تقليد الآخرين. ويكشف عمرو خالد عن أربعة أسباب لغياب العقل والتي كانت نتيجتها: أجيال من الشباب لا تريد ولا تستطيع أن تفكر...والكل ينسى أن هناك عبادة كاملة في الإسلام هي التفكير في خلق الله..وأن القرآن ذكر كلمة "البصيرة" 54 مرة و"يعقلون" 48 مرة, و "يتفكرون" 122 مرة.
مهمتنا الاستمتاع بالحياة!
سألت عمرو خالد: القيد الأخير في مشروعك لفك قيود الأمة..ما هو؟
عدم إهمال الفكر أو عدم تشغيل المخ. الناس أصبح عندهم إحساس بصعوبة ممارسة التفكير, صعوبة تحريك الذهن, وهناك من الشباب من يقول إن التفكير مهمة الكبار, وأن الشباب أو صغار السن مهمتهم اللهو واللعب والاستمتاع بالحياة.
تفريغ العقل العربي
هذه كانت كارثة ومؤامرة على الأمة تمثلت في تفريغ عقول الشباب من الفكر الجاد والاجتهاد والابتكار والإبداع وحشوها باهتمامات تافهة عملت على تسطيح الفكر العربي؟
تماماً..فماذا كانت النتيجة؟..النتيجة أننا لا نبدع شيئاً، ولا ننتج شيئا يمثل إضافة للإنسانية.
مرت علينا مائتا سنة ونحن لا نضيف شيئاً. أين براءات الاختراع المهمة خلال المائتى سنة الأخيرة التي يتباهى بها المسلمون؟ أين جوائز نوبل في الطب والهندسة التي حصل عليها المسلمون؟ حذار من أن نقول إن هناك مؤامرة علينا؟ ليس هناك مؤامرة، لكن الحقيقة أن أحداً لم يقدم منتجاً ذا قيمة يستحق عليه جوائز. أين النظريات العلمية في الاقتصاد؟ لا يوجد. كلها آتية من الغرب. أين الفكر السياسي والنظريات الأيديولوجية؟ كلها آتية من الغرب حتى في الإبداع الفني، نقلد الغرب.
تقليد الفيديو كليب
قلََّدناهم في الفيديو كليب دون أن نفكر في الهدف منه، ودون أن نفكر هل هذا يتناسب مع حضارتنا أم لا؟
حتى الرياضة.. نقلنا عنهم طرق اللعب في كرة القدم (4-2-4) و ( 4-3-3). نحن نأخذ ما يفكر فيه غيرنا. هم يخترعون السيارة، ونحن نركبها. يخترعون الكاميرا، ونحن نتصور بها. يخترعون "الموبايل" ونحن نتحدث فيه. فماذا أخرجنا نحن إلى العالم من اختراعات؟ نحن أخرجنا ما أنتجته أدمغة الآخرين. نحن أمة مستهلكة. أمة غير مبتكرة, لأننا لا نفكر. الكلام موجع. نحن نتحدث عن أخطر مورد في الوجود: العقل..فالموارد نوعان: طبيعية وبشرية. والموارد البشرية هي أعظم ما في الوجود.
العقل يذبل نتيجة عدم التفكير
هل تعتقد أن الزيادة السكانية في العالم العربي ذات فائدة للأمة, أم عبء عليها نتيجة تناقص الموارد الطبيعية؟
يمكن أن تكون هذا، ويمكن أن تكون ذاك، وحالياً تكون الزيادة عبئاً وليست ميزة. فتكديس أجساد فوق بعضها دون إضافة في الإنتاج عبء. فأعظم مورد هو دماغك. والنبي صلى الله عليه وسلم حين يتحدث عن المسلم الذي يضيف وينتج قال: " المسلم كالغيث – أي كالمطر – أينما حل نفع ". وأبو بكر أرسل إلى عمرو بن العاص يقول له: (سأرسل لك رجلاً بألف رجل)، وأرسل له القعقاع بن عمرو.. وقد كانت دماغه وروحه بألف رجل ممن سواه. هل تقبلون أن تكونوا عبئاً؟!..النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة".. بأي شيء؟ بالعدد أم النوع؟.. النوع هو الإضافة العقلية. ونحن أدمغتنا صدئت. الخلايا العقلية في الدماغ بدأت تذبل وتتلاشى, لأنها لا تُستغل ولا تُستخدم.
سر العقل الياباني
أعطنا أمثلة لشعوب استغلت ملكاتها العقلية ولم تعتمد على الموارد الطبيعية؟
اليابان ليس لديها موارد طبيعية, ولا عندها بترول ولا عندها أراض زراعية, ولكن عندها موارد بشرية تتمثل في العقل الياباني.
في الحرب العالمية الثانية تم تدمير اليابان. دُمرت المصانع والبيوت ، لكن العقل الياباني بقى. لم تقدر عليه حتى القنابل الذرية التي ضربت هيروشيما ونجزاكي. هناك افتراض مخجل أريد أن أطرحه هنا: ما الذي يحدث لو نقلنا الشعب الياباني إلى بلد من بلادنا، ونقلنا شعب هذا البلد إلى اليابان؟ ماذا يحدث بعد سنة في اليابان؟ وماذا يحدث بعد سنة في بلدنا؟ بعد سنة سيتحول بلدنا إلى يابان جديد وربما أجمل. عمارات ومصانع ومزارع ونهضة حضارية هائلة. واليابان ستتحول إلى بلد مدمر في بنيته التحتية: مجاري مستنقعات وعشوائيات وفوضى مرورية.
ما أريد قوله إن القيمة ليست في الثورة المادية، القيمة تكمن في الإنسان الذي سيبني أو الذي سيهدم ويفسد.. المشكلة فينا نحن.
والحل في هذه الحالة؟
أن نفكر. أن نُشغِّل عقولنا.
أربعة أسباب للتخلف
نحن أمة صنعت الحضارة في فجر التاريخ وأضاءت العالم بتقدمها العلمي في الطب والهندسة والفلك والفيزياء والآداب والفنون..لماذا صرنا الآن على هذه الصورة من التخلف؟
هناك أربعة أسباب:
الأول: التعليم في بلادنا الآن يقوم على التلقي والتلقين والحفظ. فيتحول العقل من مكان للأبدع والتفكير، إلي مخزن للمعلومات, يتم إفراغها في ورق الامتحانات، ثم بعد ذلك لا شيء يبقى بعد نيل الشهادة الدراسية. في الغرب لا يحدث ذلك. الشباب في الغرب يتعلم كيف يحصل على المعلومة. وكيف يتم البحث، ويتعلم أن الموضوع الواحد لا يقوم على رأى واحد. يمكن أن تتعدد الآراء حوله. لهذا نجد أن الطالب عندنا يذاكر أضعاف مذاكرة الطالب في الغرب, لكن الناتج في النهاية أقل بكثير, لأن العقل تحول إلى مخزن لا إلى أداة للإبداع والابتكار. وهناك دراسة تقول إن الطفل المصري أذكى طفل في العالم، حتى يبلغ سن الخامسة أي حتى يدخل المدرسة فيتدهور عقلياً.
غياب الحوار الأسري
والسب الثاني للتخلف: البيت. الأوامر في البيت أن تطيع وتسمع الكلام دون أن تفهم. لا يوجد بيت تجتمع فيه العائلة لمناقشة مشاكلها وقضاياها هذه الأيام. الأب يعلن أن الأسرة ستسافر إلى مكان ما، أو أنه قرر شيئاً ما يتعلق بمصالح الأسرة, وعلى الأبناء أن يقولوا: حاضر، دون أي اعتراض أو مناقشة. لا بدائل للأفكار المطروحة من الأب أو الأم في بلادنا.
عملوا إحصائية على شريحة في الوطن العربي، فوجدوا أن كلمة (لا) يستخدمها الآباء والأمهات مع الطفل من سن سنة إلى سن خمس سنوات 148 ألف مرة.. (لا تقف، لا تجلس، لا تأكل، لا تذهب، لا تتكلم، لا تفعل).. وهي تقال دون أن تكون مبررة. في حين أن كلمة (نعم) قيلت في المقابل 40 ألف مرة فقط.. من هنا تبدأ قدرات الطفل العقلية تتراجع من سن 5 سنوات، لأنه تربى على أن يطيع من يقول له: لا، دون أن يفكر في أسباب كلمة لا. المشاركة في الرأي في البيت هي الأساس و البداية.. وأنا أرجو الآباء والأمهات أن يربوا أبنائهم بطريقة مختلفة. حتى لو قلنا له: لا. نقول له لماذا قلنا له:لا؟
برامج تسطيح العقل!
لابد أن نتعامل مع الطفل على أنه شخص كبير. نتحدث إليه كما نتحدث إلى الكبار. نأخذه في أيدينا إلى الشارع والمسجد والنادي. نصاحبه نتحدث إليه ونحاوره. نستشيره ونأخذ رأيه. والبيت مرتبط بنوعية اللعب التي نوفرها للطفل. علينا أن نختار اللعب التي تنمي عقل الطفل وتحفزه على التفكير.
ولأهمية اللعب في تنمية ذكاء الطفل ألغت أوروبا الضرائب على لعب الأطفال. اللعبة القيمة ليست هي اللعبة الغالية، لكنها اللعبة الرخيصة التي تنمي تفكير ابنك.
والسبب الثالث: وسائل الأعلام.
وسائل الأعلام فيها الجيد وفيها الفاسد. لكننا للأسف لا ننتقى. دائماً نبحث عن السيئ ونشاهده. وهو ما يؤدي في النهاية إلى تسطيح الفكر والعقل، رغم أن هناك برامج في الفضائيات والقنوات الأرضية تبنى العقل، لكن لا أحد يشاهدها.
الرابع: الفهم الخاطئ للدين.
من منا يفهم أن التفكير فريضة إسلامية.. وأن الإنسان المسلم يأثم إذا لم يفكر؟
نحن نؤدي العبادة – مع الأسف – دون أن نفكر.. هل فكر أحد لماذا نصلي بالفاتحة كل مرة؟ لماذا توجد الفاتحة في كل صلاة؟ نحن لا نريد أن نفكر، لأننا نتعب من التفكير.
أجيال لا تفكر
بعد كل هذه الأسباب، وُجدت أجيال من الشباب لا تريد أن تفكر، ولا تستطيع أن تفكر! والعقل مثل أي عضلة في الجسم، إذا أهملته فإنه يذبل. إذا لم تدربه باستمرار وتستخدمه، فإنه يذوى ويضمر ويصدأ. اكتشف العلماء أن كل خلية من خلايا العقل – التي تبلغ 140 مليار خلية – ينشأ حولها زوائد. هذه الزوائد يبلغ عددها من 60 ألفاً إلى 400 ألف زائدة. وهي لها وظيفة مهمة. هذه الزوائد تقوم بتحليل المعلومات وتساعد على نمو الذكاء والقدرةٍ على التفكير.. هذه الزوائد تزيد بالتفكير ويقل عددها وتموت بعدم التفكير. ولو أتيت بعقل أينشتاين أو ابن خلدون أو الحسن بن الهيثم ستجد أن حجم دماغ كل منهم مثل حجم دماغ أي شخص عادي. لكن الفرق في الزوائد المرتبطة بخلايا العقل. أنت تقتل عقلك بعدم التفكير. والتفكير الذي أقصده ليس التفكير في مشاكل البيت أو حب بنت الجيران، إنما هو التفكير في حل مشاكل أمتنا. التفكير الهادف الناضج. التفكير هو الذي يُخرج البدائل.
البصيرة...والإبصار
كيف يحض الإسلام على التفكير؟
ديننا أكثر دين حض على استخدام العقل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من العقل"...ويقول صلى الله عليه وسلم: " إنما يتعاظم الناس يوم القيامة عند الله على قدر عقولهم". سألت السيدة عائشة: "يا رسول الله، ما الذي يرفع الناس في الدنيا؟ قال: العقل. قالت: فما الذي يرفعهم في الآخرة؟ قال: العقل. قالت يا رسول الله، فأي المجازاة بالأعمال؟ قال: إنما يعملون على قدر عقوهم". النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لما خلق الله العقل قال له: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم عليَّ منك. بك أعطي وبك أخذ وبك أثيب وبك أعاقب". النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأبي الدرداء: "إذا ازداد الناس قرباً إلى الله بحسناتهم وأعمالهم فزد قرباً إلى الله بعقلك". كلمة (البصيرة) ذكرها القرآن الكريم 54 مرة. و(الإبصار) 48 مرة و(يعقلون) 48 مرة، و(يتفكرون) 122 مرة، و(يتذكر) 210 مرات، و(الحكمة) 20 مرة.
التفكير في خلق الله
القرآن يطالبنا بتشغيل العقل واستخدامه. ونسبة كبيرة من الذكاء تُكتسب بالتمرين. وهناك عبادة كاملة في الإسلام تقوم على تشغيل العقل، وهي عبادة التفكير في خلق الله. هذه العبادة هي التي ظل النبي يمارسها لمدة عشر سنوات قبل أن تهبط عليه الرسالة. وبها أصبح سيدنا إبراهيم نبياً. يقول عنها الحسن: ( التفكير ساعة خير من عبادة سنة)..ويقول عنها عمر بن عبد العزيز: (التأمل أفضل عبادة).
فلنتفكر كيف بدأ الخلق..يقول الله تبارك وتعالى: ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق). سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله كيف كان هذا الأمر- أي قبل خلق الكون. ماذا كان موجوداً؟ فقال: كان الله وحده ولم يكن معه شيء". وكيف سينتهي الأمر؟ ( ونفخ في الصور فصعق من في السموات والأرض). الكون بدأ بنفخة في أدم، وسينتهي بنفخة، فتنتهي السموات والأرض، وتعود كأن لم يكن شيء..(يوم نطوي السماء كطيِّ السجل للكتب).
