الذكاء إضاءة ذهنية
[ 1/3 ]
بقلم : معالي الدكتور عبد العـزيز عبد الله الخويطر
الرياض ، المملكة العربية السعودية
الذكاء نعمة من الله يهبها لمن يشاء من عباده، وهي إضاءة ذهنية تشع على الأشياء ، فتكشف خفاياها لصاحبها ، ويعرف بها خبايا الأمور ، وطبائعها ، وما يلزمها ، وما يتبعها ، أو يأتي منها؛ فيكون بذلك على بصيرة بالتصرف الذي يقتضيه الأمر ، وتستوجبه المعالجة . فيأتي الفعل حميدًا ، بنتيجة حسنة ، وتتطابق الأجزاء حتى النهاية ولا تتنافر .
والناس يتفاوتون في نصيبهم من هذه النعمة ، وقد تتوفر في أغلب الجوانب ، وقد تكون واضحة قارحة فقط في بعضها ، ثم تزيد بالتغذية ، وتنقص بالإِهمال ، وقد تختفي فترة ، ثم تظهر فجأة عند الحاجة الملحة ، وكأنها كمين أعد ليظهر في وقت معين ، ولدرجة من الحاجة محدودة .
ويأتي خلاف الذكاء الغباء والحمق ، وإذا كان صاحب الذكاء يأتي بالمتوقع ، والمعقول ، وما ألفه الناس ، فالغبي على خلافه ، يأتي بما لم يعهده الناس ، مما هو خلاف العقل والمنطق ؛ وتكون المفاجأة لما يقوله ، أو يفعله ، كاملة ، لأنه لا يُعرف من أين أتت ولا كيف أتت ، ولا يُدرَى عنها حتى تقع أو تقال .
والغبي الأحمق بهذا مسلوب النعمة في هذا الجانب ، لأنه يضيع عليه شيء كثير في حياته الطويلة ، وما لم يضع فإنه يعاني منه ، ويكابد نتيجة لا عوجاج المسلك الذي يتخذه الأحمق ، مجانبًا للطريق السوي ، الذي يسلكه الناس ، والهدف الواضح المفيد الذي يتجهون إليه ويقصدونه . وإذا كسب من وراء غبائه أو حمقه ، فكسبه جاء بالصدفة وغالبًا ما يغلف ذلك طُرفةٌ جاءت ، دون أن يقصدها ، وملحة لمعت دون أن يكون له فضل في التخطيط لها ؛ وقد تكون طرافتها جاءت من أنها مخالفة لما تعارف عليه الناس ، واتفقوا على نهجه ، وتعودوا على مظهره ، وحفروا جادة واضحة في الطريق الذي يسلكون إليه، فلا يضلون عنه ، ولا يقصر دون غايته فيهم إلا غبي ، أبعد في قصور عقله ، عن مستوى ذكاء المجموعة ، التي يعيش بينها .
والغباء يأتي أحيانًا خلقة ، ويولد الشخص ناقص الذكاء ، أو ملتوي الفهم ، وقد يكون هذا فيه وراثة من الأبوين ، أو من أحدهما ؛ وقد يتولد الغباء من العيش بين أناس مستواهم الفكري متدنٍّ، وثقافتهم محدودة ، فتكون شرارة الاحتكاك معهم ضعيفة ، لا توصل التغذية الكافية من المعرفة إلى أذهانهم .
وقد يتعمق الغباء في بيئة ، ويزداد حدة مع الزمن ، لانعزال ذلك المجتمع ، وانقطاعه عن الاتصال بعالم آخر ، فتتقلص المعلومات فيه ، وتقتصر على التصرف اليومي ، وحدود الحِرَف المعدودة الضرورية . ولو اضطر هذا المجتمع من أجل الحياة ، وضرورة البقاء ، أن يتصل ببيئة أخرى، لفعل ذلك باقتضاب ، وعلى استحياء .
والغبي لا يستفيد منه مجتمعه كثيرًا ، لضعف الاعتماد على عقله ، الذي يحكم تصرفه ، وقد تكون الاستفادة منه في مجال ، يدوي ، أو جسمي محدود ، وقد يحدث هذا تحت مراقبة لصيقة ، وعين يقظة ، وفي أعمال لاتحتاج دقة وعناية ، وحسن تصرف .
والتفاوت في الغباء ، هو الذي لفت نظر الأدباء القدامى ، والكتاب الذين سجلوا التراث ، فدونوا ما شاهدوه من بعض الأغبياء من تصرف أحمق ، وأعمال عوجاء . وكان أغلب ما اجتذبهم إلى هذه الفئة من الناس بعض الطرائف التي اتسمت بها أقوالهم ، أو أفعالهم ، ووجد الكتّاب فيها ما يوجب التدوين ، إما للعظة ، أو للترفية والترويح .
وقد وجد الكتّاب في هذا مجالاً للنحل والتلفيق، فزادوا قصصًا من تأليفهم ، واختراعهم ، ركّبوها على أناس ، إفرادًا ، أو جمعًا ، بل إن بعض المدن لم تخل من تركيب أخبار غباء كاذبة على مدينة أخرى لصقت بها ، أملاً في أن تلعب الملحة دورها ، في تثبيت التبكيت عليها والهزء بها . والحرب بين مجتمعات المدن في اللسان تكاد تخرج عن القدرة على الإحصاء ، فالتنافس بين بعض المدن وبعض ، أوجد مجالاً للنحل كذبًا وبهتانًا ، وقد وجد هذا رواجًا ، لأن التهمة ترد بمثلها أو أشد منها ، والحرب تزيد ولا تنقص . ونحن نرى اليوم هذه الحرب أو بعض آثارها بين مدن حاضرة، وتكون أحيانًا من بين أحاديث المجالس الطريفة .
والغباء مرحلة بين الذكاء والجنون ، ويتحدد نوعه بقربه من هذا أو ذاك ؛ وقد يتغابى الشخص قصدًا ليكسب من وراء ذلك ، فيقبل الناس منه ذلك ، حتى لو عرفوا أنه يتصنع ، لأن مظهر الغباء، صدقًا أو كذبًا ، يأتيهم بطرفة ، يتمتعون بها في وقتها ، ويروونها فيما بعد ، وقد تزيد أو تنقص أو تعدل ، خاصة إذا عرفوا أنها منذ أن ولدت وهي مركبة .
وقد تولد عن هذا المختلق فنون عدة أحدها الطرائف (النكت) التي تؤلف في المناسبات ، أو الحوادث الطارئة ، تقال على ألسنة أناس عرفوا بالغباء ، سواء كانوا أشخاصًا معينين ، أو جنسًا من الأجناس ، أوخلقًا خرافيًا لم يعرف .
وأحيانًا يأتي الغباء والحمق على ألسنة الحيوانات ، وتكون طرافته عندما يقرن ذكاؤه بغباء الإِنسان ، ويلمح إلى المقارنة التي توجب الابتسامة. وحب أخبار الغباء تجعل المجال واسعًا أمام من يريد أن يعرض فكرة طرأت له ، تمثل الغباء ، وما يأتي منه من ملح مسلية .
وقد يتبين الغباء بداهة ، يتبرع به صاحبه دون أن يطلب منه ، وقد يأتي جوابًا على سؤال وجه للغبي أو للأحمق ، فيكون ذلك استثارة له ، واستدراجاً لما عنده مما عرف به ، وتواتر عنه .
وقد يأتي موقف غباء من ذكي ، وقد يأتي موقف ذكاء من غبي ، فلا يترك الناس الفرصة تفوتهم ، يشنعون بهذا ، ويشيدون بذلك ؛ وهم رصد لما يأتي من الناس ، وما يقولون ، لأن في هذا تغذية لإِنتاجهم ، وقد يزيدون على ما يسمعون ، ويُجَهِّمون ما لم يكن متجهمًا ، ويقلبون المتجهم باسمًا .
وقلة الاعتماد على الغبي تبينها القصة التالية :
Mقيل لعبيد الله بن الحسن العنبري :
أتجيز شهادة رجل عفيف تقي أحمق ؟
قال : لا ، وسأريكم . أدعوا لي أبا مودود ، حاجبي فلما جاء قال له :
أخرج حتى تنظر ما الريح ؟
فخرج ثم رجع فقال :
شمال يشوبها شيء من الجنوب .
فقال : أتروني مجيزًا شهادة مثل هذا؟L(1)
لم تشفع لأبي مودود هذا عفته ولا تقواه ، لأن هذه لها اعتبار يختلف عن اعتبار الشهادة ، وشروطها ، وما يلزم لها . فلقد عجز أبو مودود عن أن يحدد مجرى الرياح ، فكيف يعتمد عليه في شهادة ، سوف يتقرر فيها حق لشخص على آخر .
وقاض آخر مر عليه ما يوجب منه رفض أخذ أخبار من جارية لا يعتمد على قولها ، لصغر عقلها وحمقها . والقصة كما يلي :
Mرد رجل على رجل جارية اشتراها منه ؛ فخاصمه إلى إياس بن معاوية فقال له : بم تردها ؟
قال له : بالحمق .
فقال لها إياس : أي رجليك أطول ؟
فقالت : هذه .
فقال : أتذكرين ليلة ولدت ؟
قالت : نعم .
فقال إياس : ردّ ، ردّL.(2)
إياس معروف بالذكاء ، ويضرب به المثل في ذلك ، وقد أدخل الجارية اختبارًا تدرج فيه ، من السهل إلى العصب ، ومن سؤال يؤمل أن يكون الحمق قليلاً ، إلى سؤال أراد أن يكشف عمق الحمق، بعد أن ثبت وجوده . فلما تبين له أنه متناه في درجته ، أدرك الغبن في البيع ، فأمره بردها ، مؤكدًا على ذلك ، وملمحًا إلى شدة قناعته ، واستنكاره البيع .
وبعض الأغبياء اشتهر عند العرب حتى صار مضرب المثل ، فيقولون عن MباقلL أنه كان عييًا ، ويضربون به المثل ، ويقولون إنه يتصرف بحمق ، ويروون عنه روايات ، من أهمها ، وهو ما يسوقونه في كتب الأمثال عن غبائه ، القصة التالية:
Mقال أبو عبيدة :
بلغ من عي (باقل) أنه اشترى ظبيًا بأحد عشر درهمًا فلقيه شخص ، وهو معه ، فقال : بكم اشتريته ؟
ففتح كفّيه ، وفرّق أصابعه ، وأخرج لسانه يشير بذلك إلى أحد عشر . فهرب الظبي من كفهL.(3)
فهل كانت كمية الذكاء المتوافرة في ذهنه غير كافية للتفكير في الإجابة ، والمحافظة على الظبي ، ولو فكر في الاثنين لنطق بالرد على السؤال ، فلم يفته الظبي ؟ لعله نسي الظبي كلية عند السؤال ، والتفكير في الرد . المهم أن غفلة (باقل) هذه أدخلته التاريخ ، وما أكثر الناس في زمننا الذين يريدون أن تسلط عليهم الأضواء ، حتى ولو كان في أمر مشين مثل هذا ، لأنهم يركضون خلف الشهرة مهما كانت ، والعامة تلمز إلى هؤلاء ، فتقول : Mفلان يحب أن يعرف ولو بإحداث في المسجدL!!
وليس (باقل) وحده الذي يغيب عنه جانب في قوله ، أو فعله ، فيأتيه اللوم والنقد من هذا الجانب ، فهناك رجل مثله ، فطن لجانب ، ونسي جانبًا آخر ، فدخل عليه الخلل متلصصًا من هذه الثغرة ، والقصة كما يلي :
Mدعا أبو سالم القاس يومًا على المنبر بنصيبين، فقال :
Mاللهم امسخهم كلابًا ، وامسخنا ذئابًا ، حتى نقرض جلودهمL.(4)
MالقصُّL وعظ انتشر بين الناس في العصور الإِسلامية الأولى ، ودخل فيه أناس لا يليق أن يدخلوا فيه ، لأنهم جهلة بالدين ، ويدخلون فيه ما ليس منه ، وقصة الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه معروفة ؛ عندما مرّ بقاص ، لعله سمع منه ما أوجب الريبة فيه ، وسأله إن كان يعرف الناسخ والمنسوخ ، فلما أخبره أنه لا يعرف فيه شيئًا ، قال له : هلكت وأهلكت .
هذا والرجل يعتمد على القرآن ، وليس من الذين يقتبسون الإِسرائيليات ، ويأتون من عندهم بما يظنون أنه يلين القلوب ، ويجذب الناس إلى الدين ، ويوعدهم الجنة ، ويخوفهم من النار ؛ فيبتدعون القصص ، ويؤلفون الأحداث ، ويدعون ادعاءات ، جعلت سمعة القصاص عرضة للتبكيت والهزء ، وأصبح ما يوخذ على واحد منهم يعمم عليهم كلهم .
وأبو سالم هذا يبدو أنه رجل مشهور بمثل هذه الأقوال المنتقدة في قصهِ ، لأن الرواية عنه ، دون التعريف به ، توحي بذلك . ورجل يريد أن ينقلب ذئبًا ليخدش جلود الكلاب الذين كانوا رجالاً ونساءً ، ومسخوا ، لابد أن له سوابق ، وليست هذه بيضة الديك بينها .
ولعل هؤلاء القصاص وجدوا في وقت من الأوقات أن لهم سوقًا ، فهم بصورة خفية يعضدون فريقًا على فريق ، سواء كان التعضيد فيما يخص العقيدة ، أو الحكم ، أو الجنس ، والتعصب له .
وقد يأتي الغباء للمرء من حيث أراد الذكاء ، فيخطئ الهدف ، دون أن يدري ، ويكون المدخل عليه اجتهاده ، وعلته شدة تحريه ، والقصة الآتية فيها شيء من هذا :
Mوجه رجل ابنه إلى السوق ، ليشتري حبلاً للبئر ، ويكون عشرين ذراعًا ، فانصرف من نصف الطريق وقال :
يا أبي في عرض كم ؟
قال : في عرض مصيبتي فيكL.(5)
لا نستطيع أن نقول أن الأب قد وَرَّث ابنه الغباء ، أما غيره من العائلة فلا ندري عنه . ولابد أن الحبل كان متينًا معروفًا مما لا يحتاج إلى سؤال ، وإلا لو كانت الحبال مختلفة ، فحينئذ يكون الابن على حق في سؤاله ، ويكون خطؤه في اختيار الكلمة ، ولو قال : ما متانته ، أو دقته ، لزال اللبس ، وارتفع الغباء .
وهناك أمر يقع كثيرًا في كل زمان ، وهو اختيار الكلمات المناسبة عند عيادة المريض ، والحرص على قول ما يُسرِّي عنه ، وانتقاء الكلمات التي تسره ، والمعاني التي تطمئنه ، وتوحي له بالشفاء ، وضرب الأمثال بمن تعرضوا لما تعرض له ، وشفوا ، ولكن بعض الناس لا يوفق في هذا ، فيأتي بما يزيد غم المريض ، ويقول ما يزعجه ويرعبه ، فيزيده مرضًا على مرضه ، بثقل جلسته ، وبرود أقواله ، والقصة التالية فيها مثل على ذلك :
Mعاد رجل رقبة ، فنعى رجالاً اعتلوا مثل علته، فقال له رقبة : إذا دخلت على مريض ، فلا تنع إليه الموتى ، وإذا خرجت من عندنا فلا تعد إليناL.(6)
والخلل جاء من أن هذا الرجل قال ما لا يجب أن يقال ، وترك ما كان يجب عليه أن يختاره . وبمجرد حديثه عمن مات فإن المريض يدرك أنه أجال في ذهنه حالته ، وقاس عليها آخرين ماتوا ، وأنه يتوقع له الموت مثلهم . والمريض سريع التأويل والتفسير عما يخص مرضه .
وقد أحسن رقبة إلى الرجل ، وإلى نفسه ، وإلى كل مريض ، سوف يزوره هذه الرجل ، فقد نصحه النصيحة النافعة ، وأراح نفسه منه ، ومن أقواله المفزعة ، وأسدى معروفًا ضافيًا على المرضى، فلعل عند الرجل من بقية الذكاء ما يجعله يمتنع عن تكرار سخفه .
ويبدو أن ابن الجصاص فيه غفلة وغباء ، لأن له ردًا عندما عُزِّي بإنسان توفي له ، يدل على ذلك:
Mقيل لابن الجصّاص ، وقد مات له إنسان :
لا تجزع ، واصبر ، فقال :
نحن قوم لم نتعود الموتL.(7)
وقد يأتي الغباء ثقيلاً ليس فقط في عيادة المريض ، ولكن في مضايقة السجين ؛ والسجين نفسه ، مثل المريض ، في عناء ، فيزيده الغبي عناءً على عنائه ، وهناك قصة عن هذا :
Mأُدخل مالك بن أسماء سجن الكوفة ، فجلس إلى رجل من بني مرة ، فاتكأ المري عليه يحدثه ، حتى أكثر وغمّه ، ثم قال : هل تدري كم قتلنا منكم في الجاهلية ؟
قال مالك : أما في الجاهلية فلا ، ولكني أعرف من قتلتم منا في الإِسلام .
قال المري : ومن قتلنا منكم في الإِسلام ؟
قال : أنا ، قد قتلتني غمًاL.(
إذا صحت هذه الرواية ، ولم تكن مما يؤلف على بعض القبائل ، من قبيلة أخرى منافسة ، وهو ما يقع كثيرًا ، فإنه تلاقى في هذا السجن غبي وذكي . والغبي لم يدرك ثقله على قلب جليسه إلا أنه نُبِّهَ زبرًا على ذلك .