بيري ريس (000-960هـ / 000 -1554م)
خريطة أمريكا الجنوبية من كتاب بحرية
الريس محيي الدين بيري، عالم ملاحة، قائد البحرية المصرية والأسطول المصري في عصر الخلافة العثمانية، اشتهر في القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي. ولد في مدينة غاليبولي بتركيا، حيث كانت المركز الإداري للبحرية العثمانية، اشترك مع عمه الريس كمال في الحرب البحرية الطويلة التي دارت بين العثمانيين والبنادقة من عام 903هـ / 1498 م حتى 907هـ / 1502 م، وقد استفاد بيري من هذا خبرة حربية بحرية كبيرة. كما حصل في عام 905هـ / 1500 م على لقب (ريس) ومكنه ذلك من قيادة سفينة عسكرية أثناء حصار العثمانيين لقلعة مودون وهي واحدة من أهم قلاع مدينة البندقية.
ترجع بداية الريس بيري مع الدولة العثمانية عندما كان يعمل متطوعا في مهاجمة القوات البحرية الصليبية (قرصانا). فاشترك بجانب عمه في هذه العمليات البحرية وكذلك في الاستيلاء على بعض الموانئ والإغارة على سواحل جنوب فرنسا، وسردينيا وكورسيكا. ولقد اشترك الريس كمال في حركة نصرة مسلمي غرناطة عندما طلب أهلها العون والمساعدة من الدولة العثمانية ضد الظلم الواقع عليهم من القوط عام 890 / 1486 م. فقاد سفنا عثمانية تطوعت لذلك، وتوجه بها إلى غرب البحر المتوسط. ولما مات الريس كمال خلفه في القيادة خير الدين الذي اشتهر في أوروبا باسم بارباروسا،. وعندما نجح خير الدين في الاستيلاء على مركب فرنسي كبير وأراد إرساله إلى إستانبول مع بعض الهدايا إلى السلطان العثماني ليعلمه بنشاطه في البحر المتوسط، لم يجد خير الدين غير الريس بيري رسولا إلى إستانبول. فأعجب السلطان بايزيد الثاني ببيري، وأنعم عليه بسفينتين. ثم ضمه السلطان إلى القوات البحرية النظامية العثمانية فلم يعد بحارا متطوعا، واشترك في العمليات العسكرية للدولة أثناء الحرب العثمانية التي قادها السلطان سليم الأول عامي 923-924هـ / 1516 -1517م ضد المماليك في بلاد الشام ومصر. كما اشترك في الفتح العثماني لمصر ورسم خريطة لمصب نهر النيل.
وفي عام 930هـ / 1524 م اصطحب الصدر الأعظم العثماني إبراهيم باشا معه الريس بيري مرشدا له إلى مصر، في زيارته لها لكي يحل الخلاف الذي قام بين واليها ودفتر دارها ، فتحرك من العاصمة العثمانية بأسطول قوامه عشر سفن حربية. ولم يتمكن هذا الأسطول من الوصول إلى مصر، بسبب العواصف الشديدة، فاتخذ الصدر الأعظم الطريق البري إلى مصر، ورافقه الريس بيري قائد الأسطول. وأثناء الطريق وجد الفرصة في أن يعرض على الصدر الأعظم مباشرة أعماله العلمية. فتوسط له إبراهيم باشا عندما أنجز بيري كتابه لمقابلة السلطان سليمان القانوني.
وأثناء زيارة الصدر الأعظم إبراهيم باشا لمصر أعطاه سلمان - وكان قبطانا تركيا يعمل في مصر - تقريرا هاما يقول فيه: "إن البرتغاليين قد استولوا على تجارة منطقة الخليج العربي وحرموا الأهالي هناك من العمل بها، بل إنهم أخذوا المواد التجارية هناك وأرسلوها إلى بلادهم وأن هؤلاء البرتغاليين يتحكمون في تجارة البهارات، وأنهم استولوا أيضا على تجارة الخليج العربي مع الهند والبلاد الأخرى، وأن هؤلاء البرتغاليين قد بعثوا بأسطول قوي إلى مياه الهند، وقال الريس سلمان في هذا التقرير إن من الممكن بسهولة إنهاء النفوذ البرتغالي هناك". بعد ذلك بمدة صدر مرسوم بتعيين فرهاد بك قائد الأسطول البحري المصري واليا على اليمن، ومرسوم آخر بتعيين الريس بيري محله، قائدا للقوات البحرية المصرية العثمانية، وكان هذا التعيين عام 953هـ / 1547 م.
أبحر الريس بيري من ميناء السويس عام 957هـ / 1551 م. بمنصبه الجديد وفتح ميناء عدن واستولى على قلعتها بعد هجوم بحري عنيف، وترك فيها حامية برية وعاد إلى السويس، فأعجب ذلك كل من داود باشا والي مصر، وكذلك السلطان العثماني في إستانبول.
وقد دفع هذا النجاح البحري بيري، إلى أن يقوم في نفس العام، بقيادة ثلاثين سفينة -من مختلف الأحجام- من أسطول مصر البحري، وتوجه إلى جدة ثم إلى عدن، ثم تمكن من فتح قلعة مسقط، ثم حاصر هرمز وضربها ضربا شديدا بالمدافع، لكن المقاومة البرتغالية كانت أشد وبالتالي استعصت هرمز على الفتح بعد أن كانت قاب قوسين أو أدنى منه. فاتجه الريس بيري بأسطوله هذا من مياه هرمز إلى البصرة ومكث هناك مدة. وإذا به يعلم فجأة أن الأسطول البرتغالي في طريقه إلى البصرة ، ولم يكن يتوقع هذا، ولم يكن يملك القوة البحرية الكافية لمواجهته فأسرع بالانسحاب من مياه البصرة بثلاث سفن كانت هي القريبة من أوامره، ولم يتمكن من استدعاء بقية سفنه التي كانت تتجول في مياه الخليج. وأمام ميناء البحرين تحطمت واحدة من سفنه الثلاث وغرقت، وعاد إلى قاعدته مصر بسفينتين فقط عليهما ما استطاع نقله من غنائم معاركه في الخليج قبل انسحابه.
ترتب على انسحاب بيري ريس وخسارته أمام البرتغاليين أن أرسل قوباز باشا رسالة إلى والي مصر يخبره بالواقعة، وبأن الريس بيري قد ترك السفن الباقية من أسطوله تواجه مصيرها، فقام والي مصر بدوره بإبلاغ النبأ إلى إستانبول، وقال أيضا في بلاغه أنه قبض على الريس بيري بعد عودته إلى السويس. فجاء رد إستانبول سريعا وحاسما: "يأمر السلطان سليمان بدق عنق قائد البحرية الريس بيري، وتصادر كل ثروته لصالح بيت المال، وعلى ذلك أعدم في مصر عام 960هـ / 1552 م.
وتعود شهرة بيري رئيس العلمية إلى أنه قدم أهم عمل خرائطي عثماني يشمل خارطة للعالم، اعتمد في وضعها على (43) خريطة منها عشرون من عهد بطليموس وما بعده، وثمانية منها كانت خرائط تسمى جعفرية من صنع جغرافيين مسلمين، وأربعة منها كانت خرائط جديدة رسمها البرتغاليون وإحداها كانت خريطة كولومبوس، وجميع هذه الخرائط تتسم بالدقة المتناهية. أما أشهر خرائطه فهي الخريطة التي تظهر جزءا من الأمريكتين، وهي أول خريطة دقيقة عن العالم الجديد ترسم بهذا الشكل. وقد أثبت فيها بيري ريس وجود خمس مراكز بارزة على المحيط الأطلنطي، بعد أن حول جميع الخرائط إلى مقياس رسم واحد، كما رسم جبال على شكل كروكي والأنهار مبينة بخطوط سميكة، أما المناطق المنخفضة فقد وضحت بنقط حمراء، ولون المدن والقلاع باللون الأحمر، والأماكن الخالية من الناس بخطوط. كما استعمل وردتا بوصلة واحدة في الشمال والأخرى في الجنوب، بدلا من خطوط الطول والعرض، وجعل كل وردة مقسمة إلى ( 32 ) جزءا. أما الخطوط التي تمتد بين أقطار الوردتين والمقاييس فتستخدم في قياس المسافات بين الموانئ. ولقد أودع بيري ريس جميع خرائطه في كتابه بحرية الذي يعد أشهر كتب الملاحة البحرية التي وصلتنا من القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي.