لنــسـتـمـع لابــن بــاز
لا يزال تحديد بدايات الأشهر المتصلة بالعبادات الموسمية يمثل مشكلا في المملكة، ذلك أنها قلما تكون صحيحة بسبب الاقتصار على الرؤية البصرية المباشرة فيها.
وتشهد بيانات مجلس القضاء الأعلى في المملكة على هذا المشكل بأوضح صورة حين يطلب أحيانا "تحري" رؤية الهلال في أكثر من ليلة. ومن ذلك البيان الذي أصدره المجلس هذا العام عن دخول شهر رمضان، وجاء فيه:
". . . فنظرا لأن دخول شهر شعبان هذا العام لم يثبت ببينة واحتمال نقصان شهري رجب وشعبان وارد، لذا فإن مجلس القضاء الأعلى يرغب. . . تحري رؤية هلال شهر رمضان المبارك مساء يوم الاثنين الموافق 28/8/1428 وليلة الثلاثاء الموافق 29/8/1428 حسب تقويم أم القرى فإن لم ير فليلة الأربعاء الموافق 1428/8/30 (الرياض، 27/8/1428).
والقصد من هذا الامتداد الزمني لـ"ترائي" هلال رمضان التحوط لنهاية شهري رجب وشعبان. والاحتمالات التي أشار إليها البيان هي أنه يمكن أن يكون رجب وشعبان كلاهما ناقصين وهو ما يدعو إلى ترائي هلال رمضان مساء الثامن والعشرين من شعبان (إذ سيكون ذلك اليوم التاسع والعشرين منه إن كان رجب ناقصا). ويمكن أن يكون أحد الشهرين كاملا وهذا ما يدعو إلى ترائي هلال رمضان مساء التاسع والعشرين من شعبان. والاحتمال الثالث أن يكون الشهران كاملين ويكون الأربعاء المتمم لشعبان ثلاثين يوما.
ويعتمد هذا البيان على كون بداية رجب صحيحة. وكان المجلس قد أشار في بيانه عن تحري رؤية هلال شعبان إلى أنه نظرا: ". . . لثبوت دخول شهر رجب ليلة الأحد الموافق 1/7/1428 حسب تقويم أم القرى، فإن مجلس القضاء الأعلى يرغب. . . تحري رؤية هلال شهر شعبان مساء يوم الأحد الموافق 29/7/1428 وليلة الاثنين الموافق 30/7/1428حسب تقويم أم القرى" .
أما المتخصصون في علم الفلك فيؤكدون استحالة رؤية هلال رجب في تلك الليلة في أي مكان على وجه الأرض. ومن ذلك ما علق به المتخصصون في "المشروع الإسلامي لرصد الأهلة" على إعلان مجلس القضاء: "مع أن (هلال رجب) سيكون عمره ساعتين وإحدى وأربعين دقيقة كما يرى من مكة المكرمة وأنه سيمكث أربع عشرة دقيقة بعد غروب الشمس إلا أن المملكة العربية السعودية أعلنت رسميا أنه ثبتت رؤية هذا الهلال! ويقودنا هذا إلى التساؤل: ما دام أن علماء الفلك الخبراء كلهم في العالم لم يستطيعوا رؤية ذلك الهلال في ذلك اليوم في أي مكان على وجه الأرض بالمراصد حتى في أبعد أماكن الرصد في غرب الكرة الأرضية فكيف يمكن أن يكون ظاهرا للعين المجردة في المملكة!".
كما ذكر موقع "المشروع الإسلامي لرصد الأهلة" عن الدكتور صالح الصعب، المتخصص في الفلك في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، "أن الجو في المملكة كان مغبرا جدا"، في تلك الليلة وهو ما يحول دون رؤية الهلال.
ويمكن الإشارة إلى أن رجب بدأ بحسب تقويم أم القرى في ذلك اليوم. لكن الفارق بين البدايتين أن تقويم أم القرى يعمل بالحساب ويشترط لبداية الشهر: أن يحدث الاقتران قبل غروب الشمس وأن يغرب القمر بعد غروب الشمس في أفق مكة المكرمة ولو متأخرا عنها بدقيقة (وقد توفر الشرطان في هذه الحالة).
لذلك فدخول رجب (في بيان مجلس القضاء الأعلى) ليس دقيقا لأن تلك الرؤية "لا تنفك عما يكذبها"، بتعبير الشيخ عبد الله المنيع. وقد دلت التجارب الكثيرة، وهو ما تشهد به الإحصاءات الدقيقة، أن نسبة الخطأ في الشهادة بالرؤية المجردة تصل إلى حدود مرتفعة غير معقولة (ولا يتسع المجال هنا لتفصيل ذلك).
فالاحتمالات الثلاثة كلها، إذن، ليست دقيقة نظرا للأساس غير الصحيح الذي بنيت عليه.
وأمام هذه الحالات المتكررة لوقوف المملكة في وضع غير مريح نتيجة لمخالفة إثبات بدايات الأشهر القمرية فيها للحقائق الطبيعية المتعلقة برؤية الهلال، طالب علماء أجلاء وباحثون وكتّاب سعوديون كُثر بضرورة الخروج من هذه الحالة التي جعلتنا مثالا بين الدول الإسلامية لعدم الدقة في إثبات دخول الأشهر المرتبطة بالعبادات الموسمية.
ومما طالب به هؤلاء اعتماد الحساب الفلكي المنضبط لتحديد ليلة "إمكان الرؤية" والاستعانة بالمراصد المتوفرة الآن في المملكة ويشرف عليها متخصصون سعوديون موثوقون لرصد الهلال بعيدا عن التوهم.
ومن اللافت استمرار مجلس القضاء الأعلى في عدم الاستعانة بالمتخصصين في علم الفلك في هذا المجال. لكننا لا نعدم بعض الفتاوى الصادرة عن علمائنا الكبار يرون فيها أنه لا مانع من ذلك. وربما تكون هذه الفتاوى مشجعة لمجلس القضاء الأعلى على تغيير السياسة التي دأب عليها.
فقد نشرت "الوطن" فتويين للشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله، يجيز فيهما الاستعانة بالمراصد. وكانت الفتوى الأولى جوابا عن سؤال وجه إلى ". . . سماحته عن اعتبار الحساب في إثبات الهلال. وهل تعتبر الرؤية بالآلات الجديدة أم تشترط الرؤية بالعين؟ وهل العمل في المملكة العربية السعودية في إثبات الهلال يكون بالحساب أو بالآلات أو برؤية العين؟
(وكان جوابه): . . . أما الآلات فظاهر الأدلة الشرعية عدم تكليف الناس بالتماس الهلال بها، بل تكفي رؤية العين. ولكن من طالع الهلال بها وجزم بأنه رآه بواسطتها بعد غروب الشمس وهو مسلم عدل، فلا أعلم مانعا من العمل برؤيته الهلال؛ لأنها من رؤية العين لا من الحساب، وأما المملكة العربية السعودية فهي تعتمد الرؤية بالعين في جميع الأحكام الشرعية كدخول رمضان وخروجه، وتعيين أيام الحج، وغير ذلك من الأحكام الشرعية. . . "(الوطن 2/9/1428).
وكانت الفتوى الثانية جوابا عن سؤال نصه: "ما صحة رؤية الهلال عبر المراصد الفلكية، هل يعمل بها سماحة الشيخ؟
- نعم إذا رآه بعينه عن طريق المرصد، أو من طريق جبل، أو من طريق المنارة، إذا ثبت أنه رآه بعينه يعمل بها، سواء من طريق المراصد أو من طريق المنارة، أو من طريق السطوح، أو من أي طريق، لكن لا بد أن يشهد الثقة أنه رآه بعينه" (الوطن 4/9/1428).
وتدل الفتويان بوضوح على أن الشيخ الجليل لم يكن يرى بأسا باستخدام المراصد في رصد الهلال وأنه لا يشترط في من يرى الهلال عن طريقها إلا ما يشترط في من يشهد بالرؤية بالعين المجردة وذلك أن يكون مسلما عدلا (مع إشارته إلى اعتماد الهيئات الدينية الرسمية على الرؤية المباشرة. وهو ما يمكن تغييره مادام أن النتيجة ستكون أكثر دقة).
بل إن فضيلة الشيخ صالح اللحيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى، كان قد صرح قبل سنتين في بيان نشرته الصحف السعودية بأن مجلس القضاء الأعلى "حريص على أن تُعِين المراصد [في إثبات رؤية الهلال]"، وأن". . . الذي يزعم أن المجلس لا يقبل إلا رؤية بدون الآلات المكبِّرة فهذا يبني على وهمه وليس على خبر معتمد".
وما دام الأمر كذلك فلا مسوغ للاستمرار في الاعتماد على الهواة الذين يقعون في أكثر الأحيان، إن لم يكن دائما، ضحية للوهم بدلا عن الاعتماد على المتخصصين الموثوقين الذين يستخدمون آلات دقيقة جدا.
ومن تكرار الحديث الإشارة إلى القرار الذي أصدره مجلس الوزراء بتكليف مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية برصد الأهلة. وترسل المدينة الآن ست لجان إلى مناطق متباعدة من المملكة لرصد أهلة رمضان وشوال وذي الحجة. وتضم كل لجنة متخصصا في الفلك وقاضيا وعددا من المتطوعين من طلبة العلم الشرعي والطبيعي.
لكن الذي يحدث دائما أنه لا يؤخذ بشهادة هذه اللجان على رؤية الهلال أو عدم رؤيته ويفضل عليها شهادة بعض الهواة الذين يشهدون برؤية الهلال بالعين المجردة على الرغم من عدم صحة هذه الرؤية في أكثر الأحيان.
ويلفت النظر ما صرح به الشيخ اللحيدان في البيان الذي أشرت إليه توا من أنه ". . . يندر أن يتقدم أحد المشتغلين بالمراصد ويقول إنهم رأوا الهلال".
وكنت علقت على هذا القول في مقال سابق؛ لكننا نعرف الآن أن قاضيا يخرج مع أحد هواة الرؤية، وهو موضع ثقة عند مجلس القضاء ويعتد بشهادته دائما، ويدون شهادته في الموقع الذي يرصد فيه.
فما دام أن اللجان التي تكلفها مدينة الملك عبد العزيز تضم قضاة فلماذا لا تعامل بالمثل أي أن يدون القاضي شهادة المتخصص بالفلك برؤية الهلال أو عدم رؤيته في موضع الرصد خاصة أن هؤلاء المتخصصين مسلمون عدول يستحقون الثقة بهم؟
ولا أجد شيئا آخر أضيفه هنا إلا تكرار الأمل في أن ينقذ مجلس القضاء الأعلى الموقر المسلمين من هذا الاضطراب الذي ينشأ عن عدم استخدام وسائل يسرها الله لنا في هذا الزمن لكي تفيدنا في الاطمئنان إلى صحة توقيت عباداتنا وهو ما سينهي إلى الأبد هذا النقاش الذي لا جدوى منه.
الخميس 22 رمضان 1428هـ الموافق 4 أكتوبر 2007م العدد (2561) السنة الثامنة
بقلم : حمزة قبلان المزيني - صحيفة الوطن السعودية