صيام طائر الطرسوح
إن هذا العالم لا تنقضي غرائبه، ولا تنتهي عجائبه، ولكن هذه الغرائب وتلك العجائب ينبغي ألا تمر عن العاقل مرور الكرام، بل عليه أن يأخذ منها مِرْقَاةً للوصول؛ لكي يحظى من الله بالقبول.
نعيش اليوم في رحاب طائر مائي يُدْعَى "الطرسوح"؛ فلهذه الطيور سبعة عشر نوعًا، تعيش كلها في البحار الباردة في منطقة القطب المتجمد الشمالي، وتقضي هذه الطيور أكثر من ثلثي حياتها سابحة ومتجولة في مياه البحار؛ بحثًا عن غذائها، فتلتهم منه الشيء الكثير، وهو بطبيعة الحال يزيد عن احتياجاتها الفعلية، فتخزن الكميات الزائدة على هيئة دهون تستخدمها وتتقوى بها أيام المسغبة، ولا تبرح هذه الأنواع تلك المياه إلا لفترات محدودة بغرض التزاوج، ووضع البيض، ورعاية الصغار، وتغيير الريش، فإذا كان الريش مهمًّا للطيور جميعًا، فإنه أكثر أهمية للطيور المائية؛ فهو يساعدها على العوم والسباحة.
والطريف في حياة هذه الأنواع جميعًا أنها إذا ما أرادت التزاوج، فإنها تهجر مياه البحر وتقطن اليابسة، فتنشئ الأعشاش المناسبة، وتضع الإناث بيضها في هذه الأعشاش، وببداية وضع البيض تدخل تلك الطيور في مرحلة من مراحل الصيام تمتد خمسة أسابيع.
ولك أن تعجب من هذا الصيام الجماعي الذي تتجلَّى فيه دقَّة العدل الإلهي، والتي توقفنا على مشهد من مشاهده في دنيا الأحياء؛ فالأنثى التي لحقها الجهد من وضع البيض تظل صائمة طيلة الأسبوعين الأوليين من وضع البيض، ثم بعد ذلك تتحلَّل من صومها، وتهرع إلى مياه البحر؛ لتنال من رزق الله تعالى شيئًا تتقوى به على مواصلة الرحلة.
أما الذكر فإنه هو الآخر يتقدم ليحمل عبء المشاركة في هذه الحضانة طيلة فترة ثلاثة أسابيع؛ حتى يفقس البيض، وتخرج منه الفراخ الصغار. ويقضي الذكر هذه الفترة هو الآخر لا يذوق شيئًا؛ فبعد أن تخرج الصغار تخفّ الأم مسرعة لتلبية مطالب الصغار، وسد احتياجاتها، في حين يهرع الذكر إلى ماء البحر لينال منه طعامًا وشرابًا، ثم يعود لمشاركة الأنثى تربية الصغار، ولا تندهش إذا ما علمت أن صيام الذكر هذه الفترة يجعله يفقد نصف وزنه.
إنها التضحية التي يبذلها الحيوان الأعجم بسعادة وسرور، ولا ينتظر حيالها أي مقابل، ثم لا تلبث تلك الطيور المجهدة المكدودة أن تبدِّل ريشها القديم، ويكسو جسمها ريش جديد زاهٍ تختال به وتفاخر به أقرانها، فقد أدَّت مهمة جليلة من أجل بقاء نوعها.
فمن الذي علَّمها هذا السلوك؟! ومن الذي هداها إلى تقسيم أعمال الحضانة على هذا النحو، بل والعدل فيه؟! من الذي هداها لهذا كله؟!
إنه الله (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى).
'>