Advanced Search

المحرر موضوع: كيف نتصور الوجود  (زيارة 1012 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

سبتمبر 20, 2008, 02:31:31 مساءاً
زيارة 1012 مرات

نبيل حاجي نائف

  • عضو مبتدى

  • *

  • 57
    مشاركة

    • مشاهدة الملف الشخصي
كيف نتصور الوجود
« في: سبتمبر 20, 2008, 02:31:31 مساءاً »
كيف نتصور الوجود , الوجود الذاتي والوجود الموضوعي

إن الوجود أكان وجود الأشياء أم ألأفكار أم أي شيء أخر , في رأي الكثير من المفكرين لا يكمن تعيينه إلا إذا تم رصده من بنية معينة , فالوجود هو دوماً وجود شيء بالنسبة لشيء آخر , ولا يمكن أن يوجد شيء بالنسبة لنفسه , مثال : الإلكترون لا يمكن تعيّن صفاته و خصائصه إلا بالنسبة لشيء آخر, بالنسبة للبروتون أو بالنسبة لمجال كهربائي أو مغناطيسي أو بالنسبة للجاذبية .
وصفات وتأثيرات أي شيء لا يمكن أن تعيّن بشكل مطلق , فصفات وتأثيرات أي شيء تابع للبنية أو البنيات التي يؤثر فيها أو يتأثر بها . وعندما قال ديكارت أنا أفكر إذا أنا موجود , كان بعض ظواهر وجوده مرصود من قبل وعيه وأحاسيسه , ورصد الوجود يتم بالاعتماد على طبيعة التأثر بالوجود . وكل تعرف على بنيات أو حوادث الوجود يعتمد على ما يتأثر به  من البنيات والقوى , فنحن نتعرف على بنيات وحودث الوجود عن طريق تأثيرها فينا , وبالذات تأثيرها على حواسنا , وعن طريق هذه التأثيرات ومن ثم ترميزها وتصنيفها وتقيمها نتعرف على الوجود وخصائصه .
فدماغنا يقوم بتمثيل أو ترميز ما يرده من المستقبلات الحسية وبناء تصور للوجود , وعناصر رموزه يتم تشكيلها من واردات حواسه , فالألف باء التي يصنع منها رموزه يشكلها أيضاً من واردات حواسه . وتنوع واختلاف التصورات للوجود من إنسان لآخر يكون نتيجة اختلاف الرصد واختلاف التقييم واختلاف المعاني بينهم .
وبناءً على كافة المعارف الدقيقة التي لدينا الآن , يمكن أن نعتبر أن الوجود : أنه لا متناهي في الزمان والمكان والتنوع . . . , وهو في صيرورة , ولا يمكن تعيينه بشكل كامل أو مطلق , لأنه يمكن أن يأخذ أشكال لا نهائية , وذلك حسب الراصد والمكان والزمان .
يقول لجون كوتنغهام
نحن كائنات متناهية , والواقع إذا لم يكن متناه , فهو أوسع بشكل غير محدود من أي شيء يمكن أن تفهمه عقولنا المتناهية . ولكن ذلك ليس سبباً للتنازل عن فكرة الواقع الموضوعي, أو التخلي عن الكفاح لجعل رؤيتنا أوضح وأشمل وأدق بالتدريج.
خصائص الوجود بالنسبة لنا .
1ً – لا متناهي في المكان والزمان والتنوع . .
2ً – هو في صيرورة وتغير مستمر .
3ً – يمكن اختزال الوجود إلى ثلاث عناصر قوى وأمواج وبنيات , والبنيات تتشكل من القوى والأمواج باستمرار , وأي بنية مهما كانت بنية فيزيائية , أم بنية حية , أم بنية اجتماعية , أم بنية فكرية , لها عمر , أي : تشكّل أو ولادة – ثبات نسبي أو عمر – تفكك واضمحلال .
4ً – عناصر الوجود الثلاثة القوى , والأمواج , والبنيات تتبادل التأثير مع بعضها .
5ً – لا يمكننا رصد الوجود بشكل كامل أو تام , أي يستحيل معرفته بشكل كامل . فنحن نتعرف على بعض خصائصه و بنياته , وتعرفنا دوماً احتمالي ولن يبلغ الدقة التامة .  
عالم الفكر الذاتي
إن عقل كل إنسان يقوم ببناء الأفكار والمفاهيم  لتمثل الواقع وتأثيراته و كل ما هو موجود بالنسبة له , فهو يقوم ببناء نموذج للوجود . فلكل عقل يقوم بتشكيل أفكار تمثّل الواقع خاصة به , وأفكاره تختلف عن أفكار العقول الأخرى وكذلك طريقة بناءه ( أو تصوره) للوجود , و كل عقل تتشكل أفكاره  وطريقة تصوره  نتيجة التعلم والتفاعل أثناء الحياة .
فالوجود بالنسبة لكل عقل يمثّل بصف وربط وتنظيم ما يرده من المستقبلات الحسية ومعالجتها في دماغه وبناء أفكاره , وهذه الأفكار تعود وتتفاعل مع ما يرد من الحواس .
وتتشابه الكثير من الأفكار لدى كثير من الناس , وكذلك تتشابه آليات وطرق المعالجة والربط نتيجة التشابه الوراثي وتشابه البيئة والظروف (  تشابه الحواس والمشاعر وآليات التفكير والأوضاع المادية والاجتماعية. .) . لذلك تتشابه نماذج الوجود الممثلة في العقول .
وللتواصل واللغة والثقافة الموحدة دور كبير في تشابه تصوراتنا للوجود , فاللغة تقوم بتمثيل الأفكار والأحاسيس المنقولة بين العقول , فهي تساعد على التواصل بين العقول وعلى توحيد البنيات الفكرية وعلى نموها وانتشارها . فالأفكار مثلت ببنيات لغوية عندما خرجت من العقول وهي تكون موحدة ومتشابه بشكل كبير عند الذين يتكلمون نفس اللغة.
فعقل كل إنسان يتعامل مع الوجود كأنه بزل كبير واسع مؤلف من قطع كثيرة جداَ ( كقطع لعبة الليغو ) , وهو يحاول أن يركب هذه القطع ويشكل البزل الممثل للوجود ( نموذج أو ببنية للوجود واحدة متماسكة مترابطة ) , فهو يضع ما يصادفه من قطع في المكان المناسب أو ما يظنه أنه المكان المناسب , وبما يتفق مع باقي القطع المجاورة , وبذلك ينشئ نموذجاً للوجود , ممثلاً بواسطة ذلك البزل الذي أنشأه .
وبما أن عناصر وخصائص الوجود لانهائية ويمكن أن تمثل بقطع لانهائية التعدد والتنوع , لذلك يكون كل بزل  يمثل الوجود  يركبه أي عقل ليمثل به الوجود محدوداً ومختزلاً ومختلفاً عن الآخر وخاصاً به , وكذلك نجد الجماعات تبني نموذج الوجود الخاص بها, وبذلك تظهر الخلافات والفروق بين العقول في تمثلها للوجود .
التعرف الحسي و وعي الوجود
لقد كان نشوء الجهاز العصبي نتيجة التوافق مع الأوضاع والظروف التي يتعرض لها الكائن الحي , وكان لتحقيق التكيف الفعال واستمرار الكائن الحي كفرد وكنوع . لذلك كان توجه عمل الجهاز العصبي بالدرجة الأولى  نحو تحقيق المفيد لحياة واستمرار الكائن الحي , أي المفيد أولاً .
فالهدف الأساسي للجهاز العصبي بما فيه الدماغ هو تحديد وتعيين تأثيرات الأوضاع التي يتعرض لها الكائن الحي , وذلك من أجل التصرف بفاعلية عن طريق استجابات مناسبة تؤمن حماية واستمرار ونمو الكائن الحي , وكذلك من أجل تحديد وتعيين نتائجها المستقبلية المتوقعة على الكائن الحي , والتعامل معها بناء على المعنى الذي أعطي لها.
فبناء المعنى لمثير أو وضع ما , هو تحديد وتعيين قيمته أي مقدار فائدته أو ضرره للكائن في الحاضر أو المستقبل , وبناءً على المعنى الذي يبنى يجري تصرف أو استجابة الكائن الحي , ونتيجة تحديد المعاني تقرر الأهداف والغايات . فالأحاسيس هي المهمة والمنطق و الموضوعية تأتيان لاحقاً .
وتعرفنا على الوجود نشأ نتيجة رصد بعض تأثيرات الوجود الفيزيائية بواسطة الحواس , ومن تحديدها وترميزها نشأ الوجود الحسي الذاتي .
ونتيجة توحيد أو تشابه هذه الترميزات بين البشر والتواصل فيما بينهم نشأ ما يمكن اعتباره الوجود الحسي العام , ومن ثم نشأ الوجود الحسي الفكري , والذي نشأ منه الوجود الموضوعي نتيجة عوامل متعددة سوف نتكلم عنها .
فنتيجة الحياة الاجتماعية والنشوء الثقافة والحضارة صار تعرفنا على الوجود ليس فقط عن طريق الحواس , فالثقافة أصبح دورها يضاهي دور الحواس في تعرفنا على الوجود . فالترميز اللغوي للأفكار والتواصل بين العقول ونشوء المعارف أو الثقافة وتناميها هو من يحدد الآن نموذج الوجود لدى كل منا .
إن لكل إنسان عالمه وأفكاره الخاصة وكذلك قيمه واتجاهاته . وأن طبيعة وخصائص أي إنسان ( وكذلك أناه) ليست ثابتة  فهي في تغير وصيرورة مستمرة , ففي كل لحظة له تحدث تغيرات أكانت صغيرة أم كبيرة . وثبات ذات أو طبيعة الإنسان هو ثبات اصطلاحي نسبي , وهذا يتم نتيجة خصائص تفكيره وذاكرته , وبشكل خاص نتيجة الحياة الاجتماعية التي تستدعي ثبات الشخص .

إن وضع العقل لأهدافه  يحدد القوى المحركة - كماً واتجاها - التي تسعى إلى تحقيق هذه الأهداف . فكل هدف أو رغبة أو دافع يتبناه العقل يحدث تأثيرات في عمل العقل , وهناك دوماً سلسلة مترابطة من الأهداف , لاعتماد العقل لآلية السببية .  ولطول وقوة ترابط هذه السلاسل تأثير أساسي على مسارات وطبيعة التفكير, وبالتالي  تأثيرها على تحقيق الدوافع والأهداف . ودوماً ترافق سلسلة الأهداف , سلسلة المعنى لهذه الأهداف .
ولكل إنسان منهجه وطريقته لبناء سلاسل المعنى وسلاسل الأهداف الخاصة به , وغالباً ما تكون هذه السلاسل قصيرة بضع حلقات أساسية تتضمن كل منها تفريعات لحلقات جزئية , مثلاً : العمل لجمع المال لتحقيق الدوافع والرغبات . أو الدراسة لتأمين  عمل أو وظيفة ذات مردود مالي جيد أو مركز ومكانة جيدة . وكلما ازدادت معارف ومعلومات الإنسان توسعت وتفرعت سلاسل أهدافه وشملت مناحي أكثر, وكذلك توسعت معها سلاسل المعنى, وبالتالي تشابكت وتعقدت أيضاً.
لذلك كان التخطيط والتنظيم لسلاسل الأهداف سواء كانت لفرد أو لجماعة  أو مؤسسة أو دولة , هو هاماً جداً , وبناء سلاسل أهداف مترابطة و طويلة صعب ولا تمارسه إلا عقول قليلة , ومثال على هذا الفلاسفة العظام أرسطو,  ليبنتز, كانت....  . فالسير خطوات أكثر في سلاسل الأهداف وسلاسل المعنى هو ما يميز العقول الكبيرة المبدعة, فهم يبحثون ويعالجون سلاسل أطول  ماذا بعد ذلك ..  ثم أيضاً ماذا بعد ذلك ؟ ثم ماذا أيضاً...  . صحيح أنه لا بد من توقف  ونهاية لسلسلة الأهداف وسلسلة المعنى, وليس ضرورياً أن تكون هذه السلسلة طويلة بالنسبة للفرد , فطول سلسلة الأهداف ضروري في حالة الجماعة وفي حالة البنيات الاجتماعية الكبيرة مثل الشركات, الوزارات الجيوش, الدول... , وبالنسبة للفرد المهم من سلاسل الأهداف والمعنى بالدرجة الأولى هو الممتع المفيد له . أما بالنسبة للجماعات والبنيات الاجتماعية فالمهم أولاً المفيد والذي يساعد على البقاء والنمو والتطور والتقدم .

أن الحياة وبالذات الوعي البشري بظواهر الوجود , هو الوجود بالنسبة لكل منا , والموت هو انعدام الوجود للوعي البشري وبالتالي انعدام الكون والوجود للذي مات .
فالوجود وجد عندما وجدت أنا- أو كل منا- , وبزوالي عند موتي سوف يزول هذا الوجود . أنت عالم أو وجود قائم بذاته , أنت الموجود فقط . كل منا هو عالم ووجود قائم بذاته . فكل إنسان هو وجود أو كون انبثق وتشكل نتيجة ولادته وحياته , وسوف ينعدم هذا الوجود عند موته .
لقد تكلموا عن العوالم المتوازية , وهذه هي العوالم أو الأكوان المتوازية في رأيي

الذاكرة  ونشوء الزمن البشري الذاتي  .
عندما شكل عقل الإنسان الأفكار أو البنيات الفكرية , التي استطاعت أن تمثل البنيات الواقعية وتمثل تفاعلاتها مع بعضها , تكون زمن فكري يمثّّل الحوادث و صيرورة الوقائع . فهو ( عقل الإنسان )  يستطيع أن يعرف أي يتنبأ بالأحداث , أو نتائج تفاعلات بين بنيات , حدثت في الماضي أو سوف تحدث في المستقبل . وكذلك يستطيع أن يتنبأ بحوادث أو تفاعلات لم يتأثر إلا بجزء قليل منها , فهو يكمل ما ينقصه ويضع سيناريو للكثير من تلك الحوادث .
واستطاع الدماغ أو العقل تشكيل نموذج مختصر وبسيط  للوجود وصيرورته , بواسطة البنيات الفكرية التي شكلها , تمكّنه من تحريك أو مفاعلة النموذج الذي شكله للوجود , إلى الأمام إلى المستقبل وهذا هو التركيب , أو إلى الخلف إلى الماضي وهو التحليل . وذلك بسرعة أكبر من سرعة تغيرات الواقع الفعلية .
لقد استطاع العقل التعامل مع صيرورة وعدم تعيين الوجود بتلك الطريقة , صحيح أنه لن يستطيع بلوغ المطلق, ولكنه سوف يصل إلى نسبة عالية جداً من دقة التنبؤ  تكفي متطلباته  وأوضاعه .
فالفكر يستطيع السير بتفاعلاته الفكرية بسرعة أكبر من السرعة التي تجري فيها في الواقع , أي إلى المستقبل . وكذلك يستطيع السير إلى الماضي عن طريق عكسه التفاعلات أو التحليل , ووضعه لسيناريو لما يمكن أن يكون حدث أو ما سوف يحدث , وتزداد دقة تنبؤاته باستمرار لتقترب من الواقع الفعلي .
إن كشف بنيات الوجود المتنوعة و اللا متناهية -  بتمثيلها ببنيات فكرية-  هو ما  قام به العقل البشري, فهو يقوم بكشفها وتحديدها وتعيين خصائصها وبدقة متزايدة . والبنيات الفكرية العلمية العالية الدقة التي يكشفها - أو يشكلها- العقل البشري بمساعدة التكنولوجيا والذكاء الصناعي - الكومبيوتر وما شابهه-  تتزايد بسرعة هائلة سواء كان بكميتها أو بدرجة دقتها أو سعتها وشمولها .
وكما ذكرنا لا يمكن كشف كامل بنيات الوجود مهما فعلنا لأنها لا متناهية , وهي في صيرورة دائمة , وتتخلق باستمرار بنيات جديدة وتختفي بنيات , فبنية الوجود الكلية لا يمكن تحديدها وتعيين خصائصها بصورة تامة , أي أن عدم التعيين والصيرورة لهذا الوجود , موجودة مهما فعلنا.

الاتصال والتواصل البشري , الإعلام
لكي يتواصل عقل إنسان مع آخر يجب أن يستعمل نفس البنيات اللغوية التي تمثل نفس البنيات الفكرية بين الاثنين, فلن يستطيع عقل إنسان أن يدرك أفكار عقل إنسان آخر إلا إذا استعملت أفكار – بنيات لغوية- موحدة تمثل بنيات فكرية متشابهة أو موحدة بين الاثنين, عندها يمكن نقل ما يدركه أو ما يشعر به أو يفكر به أحدهما إلى الآخر.  
إن آليات التواصل بين البشر تشابه كافة آليات الإرسال و الاستقبال تماماَ, فهناك بنيات لغوية تمثل البنيات الفكرية تقوم بنقل مضمون الإحساسات والأفكار والمعاني من عقل إنسان لآخر, وهذه تنقل على شكل أصوات أو رموز بصرية أو غيرها من وسائل الترميز, وتحمل المعلومات من عقل إلى آخر.
ويجب أن تتطابق آليات أو دارات الإرسال مع مثيلتها في الاستقبال، لكي يتم نقل الرموز وبالتالي الأفكار والمعاني , فأنا لا أستطيع نقل مفهوم أي إحساس إلى إنسان آخر إذا لم يكن لديه نفس الإحساس أو شبيه به, أي يجب وجود دارة - بنية أو جهاز- إحساس لدى الآخر تشابه دارة الإحساس الموجودة لدي لكي يستطيع استقبال ما أرسله له, وبالتالي يشعر بشبيه ما أشعر.
فالتواصل البشري بكافة أشكاله يعتمد على الأحاسيس والأفكار المتشابهة بالدرجة الأولى, وعلى البنيات الوسيطة المتشابهة - اللغة أو الرموز الموحدة - وعلى تشابه بنيتي الاستقبال والإرسال, أي يجب تشابه بنية وآليات العقلين المتواصلين  مثل أجهزة الراديو وكافة أنواع أجهزة التواصل, والتواصل الإنساني طبعاَ أعقد بكثير من أي تواصل آخر .
" قال برغسون:هناك شيء واحد أمام الفيلسوف يستطيع أن يفعله, وهو أن يعين الآخرين على الشعور بحدس مشابه لحدسه، وذلك بواسطة التشبيهات والخيالات والصور الموجهة بالأفكار "
إذاَ فلكي ندرك ما أدركه وما شعر به أفلاطون أو أرسطو أو فيثاغورس... وباقي الفلاسفة والمفكرين والعلماء, أو ما يقوله الأدباء والشعراء- بشكل خاص- يجب علينا أن نستخدم بنيات لغوية نبني بها بنيات فكرية خاصة بنا, تشابه البنيات الفكرية التي توصلوا إليها وأعطتهم الإدراك والشعور ذاك, عندها يمكن بذلك أن ندرك ونشعر بشبيه ما أدركوه وما شعروا به.
إن كل إنسان يجد أحاسيسه وأفكاره وحقائقه واضحة وصحيحة ومدركة بسهولة, ولكن عندما ينقلها لإنسان آخر يجد في أغلب الأحيان عدم تقبل أو تفهم أو إدراك لهذه الأفكار, وذلك بسبب اختلاف البنيات الفكرية أو اللغوية أو طريقة المعالجة الفكرية التي استعملت من قبل الاثنين, بالإضافة إلى اختلاف الدوافع والأهداف والأهميات والمراجع بينهما.
و يظل الصحيح أو الحقيقي أو المهم بالنسبة لكل منا هو ما يحسه ويدركه, ويفيده و يساعده هو، ولا تهمه حقيقة أي إنسان آخر مهما كانت هامة- بالنسبة لصاحبها- إن لم يكن لها أهمية بالنسبة له.
الإعلام
الإعلام هو نقل تأثيرات أو رموز تتضمن معلومات أو معارف , من مكان لأخر أو من زمان لآخر , أو من بنية لأخرى . الإعلام لدى الكائنات الحية : كان الإعلام في أول الأمر يعتمد التأثيرات الفيزيائية والكيميائية ( حرارة -  ضوء – تأثيرات كيميائية . . . ) , يتعرف الكائن الحي وحيد الخلية على محيطه وتأثيراته عن طريقها . ثم أصبح لدى الكائنات الحية المتطورة  تقوم به الحواس , وهو تلقي تأثيرات الأشياء عن طريق المستقبلات الحسية وترميزها بتيارات عصبية كهربائية ونقلها إلى الدماغ . وفي هذا الإعلام يمكن أن يحدث خطأ بالتعرف نتيجة نقص في رصد التأثيرات أو  خطأ في الترميز أو في نقل الرموز أو في تفسير الرموز في الدماغ .
الإعلام لدينا نحن البشر تطور وتعقد نتيجة الحياة الاجتماعية واللغة المحكية والمكتوبة  
فقد تطورت كثيراً طرق وأساليب الترميز نتيجة نشوء اللغة المحكية , فبواسطة اللغة التي هي ترميز ثاني للرموز الحسية الخام ( البصرية والصوتية . . . ) تم تمثيل أو ترميز واردات الحواس المختلفة بلغة أو رموز واحدة . فبواسطة اللغة المحكية ( أي الصوتية ) أو المقروءة , تم ترميز الكثير من واردات الحواس المختلفة , وأيضا تم تمثيل أحاسيسنا وعواطفنا وأفكارنا بتلك اللغة .
وكان يحدث تدقيق وتصحيح  لتلك التمثيلات أو التشبيهات أو النماذج التي يبنيها دماغنا كي يكون التمثيل أدق وأكثر مطابقة للواقع .
فالإعلام الآن يوسع إدراكنا للوجود . من كان يتصور قبلاً  أن الكون بهذا الاتساع غير المعقول ؟
وأن عالم الكائنات الحية بهذا التنوع وهذا التعقيد الهائل , والتكيف العجيب مع الظروف والأوضاع ؟
نشوء المعارف والتعرف على الوجود , نشوء الوجود الموضوعي .
أن رصد كمية كبيرة من تأثيرات الوجود من عدد كبير من المراكز ( أي العقول ) وخلال زمن طويل , والتواصل فيما بينها , أدى للتعرف بدقة عالية على جزء كبير من خصائص الوجود , وهذا ما يمكن اعتباره الوجود الموضوعي  الذي هو :
وجود أفكار عن الوجود عالية الدقة  موجودة  في عقول كثيرة وفي كافة أشكال المراجع .
فالفكر العلمي الدقيق أنشأ  نموذجاً فكرياً يمثل الوجود يعتبره الكثيرون أدق وأوسع من أي نموذج آخر ركبه أي عقل بشري بمراحل كثيرة , في مشابهته ودقته بتمثيل الوجود, فهو- أي الفكر العلمي الدقيق- يمثل الوجود بدقة عالية ويزداد هذا التمثيل دقةً واتساعاً باستمرار.
تصور البعض  لنموذج الوجود الذي أنشأه العلم :
إننا باعتماد البنيات والقوى الفيزيائية , كمنطلق لتفسير أي شيء في الوجود , نرى :
أنه من تفاعل البنيات الفيزيائية الأساسية الإلكترون والبروتون والنيترون نتيجة القوى الكهرطيسية والنووية ، تكونت ذرات كافة العناصر الكيميائية .
ومن ذرات العناصر الكيميائية تكونت كافة المركبات الكيميائية بكافة أشكالها العضوية وغير العضوية .
ومن هذه المركبات الكيميائية تكونت البنيات الحية البسيطة جداً ثم وحيدات الخلية البسيطة وهي نباتية وحيوانية ، ثم الكائنات الحية كثيرة الخلايا ثم الفقريات وغيرها ثم الثدييات ثم الرأسيات ثم البشر .
وقد شكل البشر بعد أن ملكوا الكثير من القدرات الجسمية المناسبة بالإضافة إلى عقل متطور استخدم اللغة المحكية ، البنيات الاجتماعية ,  والبنيات التكنولوجية البسيطة مثل السكين والفأس والرمح والمحراث . . ، وكذلك كونوا البنيات الثقافية المتطورة بعد أن تشكلت اللغة المكتوبة ، وتكونت الحضارات والبنيات السياسية والاقتصادية ، ثم البنيات التكنولوجية المتطورة ، القطارات والطائرة والمصانع والآلات . . . ، ثم تكونت البنيات الإلكترونية التي تطورت وكونت العقول الإلكترونية .
لكن هناك سؤال : هل كل شيء يمكن إرجاعه إلى أسس فيزيائية ، والقوانين الفيزيائية تنطبق عليه ؟
كان الفيزيائي الشهير" فينمان " يؤكد بشدة أن كل ما تفعله الكائنات الحية يمكن للعناصر الفيزيائية أن تقوم به , ووجهة نظره هذه تدعى بالاختزالية : أي يمكن اختزال كافة ما نشهده من بنيات في الوجود , و إرجاعها إلى أسس فيزيائي . فهي تقر أن المتعضية الحية ليست سوى بنية فيزيائية معقدة . ونجاح البيولوجيا الحديثة يبرهن على صلاحية هذه النظرة .
إن ما يقوم به علماء الفيزياء هو صياغة " نظريات " فعالة ومجدية تساعدنا على فهم وتفسير كثير من الأمور , أي نظريات عالية الدقة في انطباقها على الواقع وتمكننا من التنبؤ للكثير من الأمور بدقة عالية جداً , ولكنها ليست رؤيا مباشرة وحقيقية وتامة للواقع .
فهؤلاء العلماء يتحدثون عن جسيمات , وأمواج , وطاقة ,  وكتلة , واسبين . . .  وهذا يساعدهم على تفسير الكثير من الأمور والتنبؤ العالي الدقة .
ولكن تبقى مفردات العلم و نماذجه النظرية هي دوماً نوع من التشبيهات أو الاستعارات , ولا يحق لنا أن نخلط بينها وبين الواقع الحقيقي نفسه , لأنه سوف يبقى مستعصي علينا الإحاطة به بشكل كامل ومطلق .

إن كل إنسان عندما يصدر أحكامه أو تقييماته , يعتمد ما لديه من أفكار ومعلومات بالإضافة إلى ميوله ودوافعه وأهدافه وما يتبنى من مبادئ وعقائد . وغالباً ما يكون تأثير الميول والغايات والعقائد كبير , وهو الذي يقرر منحى أحكامه وتقييماته . فيتم اختيار المعلومات التي تخدم وتناسب تلك الغايات والاعتقادات, ويجري تحاشي المعلومات التي تناقض ذلك.
إن هذا يحدث غالبية التناقضات في الأحكام والتقييمات بين الناس , فالوقائع التي تجري على عدد معين من الناس تكون متشابهة , ولكن غالباً ما تكون الأحكام والتقييمات عليها مختلفة لدى كل منهم . والذي يساهم في زيادة هذا الاختلاف هو خصائص الذاكرة وآليات عمل العقل الأخرى , فتسجيل الوقائع واستعادتها يكون غالباً مختلف فيما بينهم , وهو يتعرض للتحريف والتبديل في أحيان كثيرة .
إن الدوافع والأهداف , والانتماءات , والإيمانيات , والعقائد , هي التي تقرر أغلب التصرفات البشرية ، فوجود الهدف أو الانتماء ( فالانتماء يحدد الهدف بشكل عام ) هو الأساس , ثم تأتي بعد ذلك التبريرات السببية والبراهين والإثباتات التي تشرحه وتفسره وتدعمه ، وبالتالي تقرر طريقة الوصول إليه ، وضرورة اعتماده .
إن الدوافع والأهداف والقيم التي يتم اعتمادها أو الإيمان بها , هي الموجه للبحث عن الأسباب والتبريرات ، التي تكون متوافقة ومنسجمة معها
والمشكلة بالنسبة لكل منا , أن مشاعرنا وعواطفنا تحرف أحكامنا , فنحن بشكل أساسي نعتمد أحكام قيمة وليس أحكام واقع , كما أن بيئتنا ومجتمعنا هم من يدخلوا كافة ما يعالج في عقل كل منا. والذي يقرر ما نعتمد من أفكار ومعارف ليس مقدار دقتها , فهناك الكثير من العوامل التي تتحكم في ما نتبناه ونؤمن به .
ويقول جان بيير مونييه
"إن معتقداتنا وأحكامنا بما فيها أحكمها دلالة , محدود دائماً بالرهط الذي ننتمي إليه . فمع المبالغة في لفت الانتباه إلى ما يقاس , لا يرى المرء سوى قسم من الواقع الاجتماعي , ويعلق عليه أهمية تتجاوز حدوده .
إن الذي يحدد ويقرر الاستجابة والتصرف , هو ما ينتج عن الدلالات والمعاني بعد التقييم النهائي , وبالتالي تتقرر وتنفذ الاستجابة التي تم التوصل إلى اعتمادها . ونحن نلاحظ أن تحديد الدلالات والمعني و تقيمهم  يتم بناء على محصلة كافة ما تم معالجته . هذه الظاهرة هي أساس تشكل أغلب التناقضات والتضاربات بين الاستجابات التي يتم اعتمادها . فهناك تداخل وتأثير المتبادل  بين الفزيولوجي والنفسي والفكري يعقد الوضع , ويجعل بناء المعاني متغيراً ومتطوراً حسب تغير الأوضاع , وحسب نتائج المعالجات الفكرية الجارية.
نحن نتجاوز فكرياً منطقياً أو واقعياً كافة المتناقضات التي تمنع أو تعيق ما نريد الوصول إليه , أو نتغاضى عنها ، وهذا ما يحقق لنا هدفنا بسهولة في أغلب الأحيان .
فنحن نستطيع التلاعب بالمراجع والمنطلقات ونكيفها مع الأسباب التي اخترناها من بين عدد كبير جداً من الأسباب المحتملة الأخرى , وبذلك نستطيع أن نبرر ما نريد من أفعال أو أقوال .
ولأننا نختار الأسس والمنطلقات التي نريد من بين المنطلقات الكثيرة المتاحة .
وكذلك لأننا نعتمد مرجع القياس والتقييم الذي نريد من بين مراجع أخرى كثيرة .
لذلك عندما نقرر ونعتمد قراراً و نؤمن به نكون قد بنينا منطلقاتنا وسلاسل أسبابنا , ونسعى لنبرر ما نريد .
ولكن هل هذه التبريرات دقيقة ؟؟
أن المعارف عالية الدقة لا تهمنا لأنها عالية الدقة بل لأنها تمكننا من الوصول لما نريد , لذلك نبحث دوماً في المجالات التي توصلنا إلى ما نريد , أو تبرر لنا ما نعتمده من أفكار وعقائد وغايات .
فالمعارف الدقيقة ليست هدفنا النهائي بل هي هدف مرحلي لهدفنا النهائي الذي هو سعادة كثيرة وشقاء قليل, ونمو واستمرار وجود . وهناك ما برمجنا علية وراثياً واجتماعياً فله الدور الأكبر في تصرفاتنا .