يعرف محبُّو “أدب الخيال العلمي”، و قراء روايات “دان براون***”، أن التقاء المادة بالمادة المضادة لها، يسفر عن تفانيهما على شكل طاقة. غير أن تقريرا بحثيا صدر عن مجموعة بحثية إيطالية، في شهر أغسطس الحالي (٢٠٠٨م)، بين أنه من الممكن لجزء من البروتونات المضادة ذات الطاقة المنخفضة، و الموجهة تجاه جدار من مادة عادية، أن ترتطم بذلك الجدار و ترتد راجعة إلى الخلف. و على الرغم من الدهشة التي صاحبت نتائج هذا البحث الذي كان تحليلا لبعض النتائج المأخوذة قبل اثني عشر عاما، فإن تفسير تلك النتيجة لا يراوح ما هو معروف من المبادئ الفيزيائية الأساس، و الموجودة في كتب الفيزياء الجامعية.
يذكر أن المجموعة البحثية الإيطالية، كانت تعمل ضمن تجربة OBELIX التي أخذت مجراها في المختبر الأوروبي لفيزياء الجسيمات CERN، و ذلك ما بين الأعوام ١٩٩٠م و ١٩٩٦م. و قد كان الهدف من تجربة OBELIX هو دراسة خصائص البروتونات المضادة ذات الطاقة المنخفضة (ما بين ١ إلى ١٠ كيلو-الكترون-فولت)، و دراسة خصائص ترابطها مع المادة العادية حيث تنتج عن ذلك مستويات ذرية غير مألوفة.
و قد كانت التجربة تتكون من أسطوانة مصنوعة من مادة الألمنيوم و موضوعة في منتصف الجهاز، و تمتد تلك الأسطوانة لمسافة ٧٥ سم، و ذات قطر مقداره ٢٥ سم. بالإضافة إلى ذلك، تم ملء الأسطوانة بكمية قليلة من غاز الهيدوجين أو الهيليوم (بحسب أطوار التجربة).و عندما يتماس بروتون مضاد مع أحد جزيئات الغاز فإنه يتفانى مع أحد البروتونات، فتلتقط الكواشف الجسيمات الأولية الناتجة، سامحة للباحثين تحديد مكان حدوث التفاني و وقته.
منذ العام ٢٠٠٤م، حيرت إحدى الظواهر المجموعة البحثية التي يرأسها Andrea Bianconi (من المعهد الإيطالي الوطني للفيزياء النووية، و من جامعة Brescia). حيث احتوت البيانات الناتجة عن التفاني على حالة غريبة. فحالات التفاني انقسمت إلى مجموعتين. المجموعة الرئيسة و هي التي حدثت أثناء مرور البروتونات المضادة بالغاز الموجود داخل الأسطوانة. أما المجموعة الثانية من التفاني فقد حدثت بعد مدة زمنية قصيرة نسبيا من الأولى، و هذا ما لم يستطع أحد تفسيره!
و لكن، في شهر أغسطس هذا (٢٠٠٨م)، أعلنت المجموعة البحثية التوصل إلى تفسير تلك الظاهرة التي أشكلت عليهم. و ذلك بأن قاموا بأخذ “جدار الأسطوانة” في عين الاعتبار أثناء نمذجتهم الرياضية لأحداث التفاني. و وجدوا أن حوالي ربع البروتونات المضادة المنخفضة الطاقة، سوف يصطدم بالجدار ثم يرتد عائدا إلى حيث يوجد الغاز، ثم تحدث حالات التفاني من جديد. بمعنى أن ربع عدد البروتونات المضادة لن يتفانى مع الجدار بمجرد أن يرتطم به، بل سينعكس عنه ثم يتفانى مع الغاز.
إن تفسير هذه الظاهرة غير الاعتيادية يكمن في ما يعرف بتشتت رذرفورد (التي تشرحها كتب الفيزياء الجامعية). فعندما يُقذف جسيما مشحونا نحو ذرة ما، فإن النواة (موجبة الشحنة) قد تؤدي إلى انحراف مسار ذلك الجسيم، و لكن هذا لا يقع إلا إذا كانت سرعة الجسيم قليلة نسبيا (في حدود الطاقة التي ذكرت سابقا). فمثلا، إذا كان البروتون المضاد سريع الحركة، فإنه عندما يواجه سطح الجدار فإنه سوف يخترق ذراته متجاوزا أنويتها الصغيرة، حتى يقع في مواجهة نواة ما بشكل مباشر أو شبه مباشر؛ فيحصل التفاني.
أما إذا كان البروتون المضاد بطيء نسبيا، كتلك التي حوتها تجربة OBELIX، فإن مساره سوف ينحرف و يتذبذب بسبب جذب بعض الأنوية له، مما يجعله يرتد و يُغير اتجاه حركته مرارا -ما بين ٥٠ إلى ١٠٠ مرة في مسافة تقع فيما بين ٥ إلى ١٠ نانومتر من سطح الجدار-. و في النهاية فإنه يفقد مساره الأصلي، فتكون الفرصة سانحة له لأن يعود من حيث أتى، أي تـُجاه الغاز. غير أنه يمكن أن يتفانى أثناء تلك العملية.
لقد فسر أعضاء المجموعة هذه الظاهرة بدراسة إمكانية أو احتمال أن يمر البروتون المضاد بالقرب من نواة ما داخل ذرات الجدار. فعند المسافات التي تقترب من نصف القطر النووي (R=rA^1/3)، يمكن اعتبار البروتون المضاد جسيما هداما إذ سيقوم بالتفاني مع إحدى بروتونات النواة (كما حددت المجموعة في بحثها)، غير أن احتمالية وجود البروتون المضاد ضمن ذلك المقياس الصغير و بالقرب من النواة، هي احتمالية أصغر بعدة أضعاف من احتمالية انحرافه عن مساره.
لقد فاجأ ذلك التفسير بعض الباحثين، و منهم الخبير في مجال الطاقات المنخفضة Ryugo Hayano من المختبر الأوروبي لفيزياء الجسيمات CERN، غير أنه يقر أنه تفسير موثوق و قوي، حيث يقول: “أحيانا لا يدرك الباحث مثل هذه الظواهر البدهية، إلا عندما يواجهها و يحاول جاهدا أن يدرك كنهها و تفسيرها”.
By: Michelangelo D’Agostino - Berkeley, California
ترجمة: مَعين يحيى بن جنيد-جامعة الملك سعود
---------------------
*** مؤلف رواية شفرة دافنشي. و المقصود رواية "ملائكة و شياطين" حيث تدور القصة حول محاولة جماعة متطرفة لسرقة قنبلة من المادة المضادة من سيرن CERN. [المترجم].