Advanced Search

المحرر موضوع: ما هو علم الأنثروبولوجيا ...2  (زيارة 916 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

يونيو 18, 2003, 08:42:40 صباحاً
زيارة 916 مرات

mng1

  • عضو مبتدى

  • *

  • 17
    مشاركة

    • مشاهدة الملف الشخصي
ما هو علم الأنثروبولوجيا ...2
« في: يونيو 18, 2003, 08:42:40 صباحاً »
2-   المدرسة الانتشارية : انطلقت تلك المدرسة من فكرة أن الثقافة كثيراً ما تكون مستعارة , حيث تنشأ في مركز واحد أساسي تنتقل بعده إلى المراكز الأخرى عبر مجموعة من العوامل , و يضيف أصحاب هذه المدرسة أنه إذا ما دققنا في المسألة وجدنا أنه لم يكن هناك إلا عدد محدود من المراكز الهامة التي عملت على تنمية الثقافة و نشرها كما أن المواصفات المنتشرة قد تخضع خلال عملية الاستعارة و الاستيعاب إلى تغييرات و تبدلات كثيرة , و بالتالي فإن مفهوم الصدفة التاريخي في انتشار المساهمات الحضارية يلعب دوراً فعّالاً و مواجهاً لمفهوم الامتداد الطبيعي و الحتمي للمؤسسات الاجتماعية المرافق لأفكار التطوريين , و هناك ثلاث وجهات أساسية عبرت عن وجهة نظر تلك المدرسة أولها إنكليزية : و مؤسسها هو غرافتون إليوت سميث عالم التشريح الشهير الذي انكب خلال إحدى فترات حياته على دراسة المومياء المصرية و هذا قاده إلى الإقامة في مصر الذي أدهشته حضارتها و أخذ يلاحظ بأن الثقافة المصرية القديمة تضم عناصر كثيرة يبدو أن لها ما يوازيها في ثقافات بقاع أخرى من العالم , فقلبت نظريته الاعتبارات التقليدية للزمان و المكان , و لم يقتصر على القول بأن العناصر الثقافية المتشابهة في حوض البحر المتوسط و إفريقيا و الشرق الأدنى و الهند ذات أصل مصري , بل ذهب للقول أن العناصر المماثلة في ثقافات إندونيسية و بولينيزيا و الأمريكيتين تتبع نفس المصدر أيضاً , فالحضارة المصرية بدأت على ضفاف النيل قبل 5 آلاف عام قبل الميلاد و بعد أن بدأت الاتصالات بين الجماعات و الشعوب انتقلت بعض مظاهر تلك الحضارة إلى بقية العالم , و هكذا يجعل سميث من الاقتباس الوسيلة الوحيدة تقريباً التي يمكن من خلالها أن تتم عملية التغير الثقافي و هذا يعني أن مقدرة الإنسان على الاختراع معدومة تقريباً و ينجم عن ذلك رفض فكرة تعدد الأصول , و يتوقف الكثير من براهين سميث على تأويل المعلومات بطريقة المقارنة مع المركز , و كمثال نرى أنه ينطلق من سؤال بناء الأهرامات , متى يكون الأهرام أهراما حقاً بالمعنى الحصري ؟ هل الأهرام المستخدم كقاعدة تبنى فوق المعبد كما هو الحال في المكسيك هو عنصر ثقافي مماثل للمبنى الهرمي الذي أنشئ كنصب لملك متوفى و خصص لكي يضم رفاته للأبد ؟ و إذا افترضنا وحدة أصل جميع الأهرامات فإن هذه الفرضية ستطبق على حالات أصغر فأصغر إلى الحد الذي تعتبر معه المصاطب الحجرية و التلول الأرضية في وادي الأوهايو هي بقايا أو أشكالاً هامشية من الأهرامات , إن تلك النظرة المتطرفة التي تهمل عناصر المكان و الزمان و تلغي قدرات الإنسان المبدعة جاعلة من الاقتباس المبدأ الوحيد للتغيير الثقافي أضعفت من نفوذ تلك النظرية بحيث لم تتعدى إنكلترا موطن منشؤها , و ثاني وجهات نظر تلك المدرسة هي ألمانية نمساوية : و هي نظرة أكثر عمقاً من التي سبقتها من أبرز مؤسسيها وولهم شميدث و فريتر جرايبنور الذين رفضوا فكرة المنشأ الواحد للحضارة و افترضوا وجود عدة مراكز حضارية أساسية في العالم نشأ عن التقائها نوع من الدوائر الثقافية حيث حصلت بعض عمليات الانصهار و التشكيلات المختلفة . أما وجهة النظر الثالثة فهي أميركية : عبر عنها فرانز بواس الذي أكد أن المسألة الأساسية التي يجب أن تعالج في دراسة الثقافة ليست حادثة الاحتكاك الثقافي بين شيئين بقدر معرفة ما هي نتائج هذا الاحتكاك الديناميكية المؤدية للتغير الثقافي , فاقتصرت تلك النظرة بالتأكيد على صفة الوقائع الدينامية للثقافة أكثر من إعادة تركيبها تركيباً وصفياً , و بذلك رفض هذا الاتجاه الزعم بعدم إمكانية التطور المستقل , و بأن الناس بطبيعتهم غير مبتكرين ,  و يؤكد بواس على أن تسجيل العناصر المتماثلة في ثقافات متباينة لا يمكن له أن يشكل بحد ذاته برهاناً مناسباً عن الاحتكاك التاريخي , بل يجب أن تتضمن التشابهات عناصر متماثلة مرتبطة فيما بينها بصورة متماثلة لكي تعتبر دليلاً على الانتشار , زد على ذلك أن هذا يجب أن يكون ضمن منطقة محدودة فقط حيث لا يصعب افتراض قيام الاتصال بين المقتبسين و المقتبس عنهم , و هكذا أكد هذا الاتجاه على ضرورة دراسة الثقافات اللاكتابية و اتباع طرق البحث الميداني ذي المعايير الدقيقة و ذلك من وجهة نظر أعضاء الجماعة المدروسة لا من وجهة نظر الأثنوغرافي بحيث شجع على دراسة اللغات الوطنية و استعمالها بالبحث , و بهذا يكون هذا الاتجاه قد دفع بالدراسة الميدانية للأنثروبيولوجيا دفعاً جديداً . كما دفع البحث الأنثروبيولوجي إلى تأكيد دراسة المجتمعات الأولية لذاتها لا كما نراها نحن , و هذا شجع على ظهور اتجاه جديد في الأنثروبيولوجيا قائم على إدخال الآليات النفسية في الدراسات الانثربيولوجية ممثلاً بمدرسة جديدة هي :
3-   المدرسة التاريخية النفسية : جاءت كرد فعل على المدرسة الانتشارية و الوظيفية و نزعتهما اللاتاريخية , حيث رأت بإمكانية فهم الثقافة عن طريق التاريخ إلى جانب الاستعانة ببعض مفاهيم علم النفس و بشكل خاص تقنيات التحليل النفسي , فوسعت روث بيندكت و هي من رواد هذه المدرسة المفهوم التاريخي بتطبيق مبادئ علم النفس بحيث غدت أي أية سمة من السمات الثقافية تضم مزيجاً عن النشاط السيكولوجي و الثقافي بالنسبة لعينة معينة من الجماعات , فالتاريخ عند بينديكت لا يكفي وحده لتفسير الثقافة لكون الثقافة مسألة معقدة تجمع بين التجربة التي اكتسبت عبر الزمن بالإضافة إلى التجارب و المكتسبات النفسية , و ربما كان من أهم الموضوعات التي ركز عليها أصحاب تلك المدرسة هي دراسة التميز بين الجماعات و الثقافات تبعاً للخصائص النفسية السائدة فيها , و ظهر نتيجة لذلك عدة دراسات عالجت موضوع الطابع القومي للشخصية و التي تهدف إلى تحليل و تفسير المقومات النفسية الرئيسة التي يتميز بها شعب دون آخر أو ثقافة دون أخرى , و من أهم الممارسات التطبيقية في هذا المجال نجد دراسة بنديكت بعنوان ( زهرة الكيزتنم و السيف ) في العام 1946 و التي تمثل دراسة للشخصية اليابانية , حيث كان لهذه الدراسة أهمية كبيرة في بلورة السياسة الأميركية نحو استسلام الجنود اليابانيون في نهاية الحرب العالمية الثانية في المحيط الهادي , فبناء على ما أوضحته الدراسة عن أهمية شخصية الإمبراطور كرمز مقدس في العقلية اليابانية و احترام الجنود الشديد للسلطة الحاكمة في شخص الإمبراطور أبقت الحكومة الأميركية على مركز الإمبراطور و طلبت منه أن يصدر تعليمات لجنوده بالاستسلام و هو ما تم و به حقن الكثير من الدماء . و يمكن القول أنه يرجع الفضل لهذه المدرسة في طرح فكرة تعدد الثقافات و كسر فكرة الاحتكار الثقافي لشعب من الشعوب أو مركز من المراكز , و عندهم نشأت فكرة النسبية الثقافية الذي لاقى رواجاً و قبولاً واسعاً في عصر سيطرت فيه النسبية الآنيشتاينية و جزبت الاهتمام النظري و الاستخدام العملي في العلوم الطبيعية . و هذا ساعد على ترسيخ ا لأساس الميداني البحثي المباشر للجماعات المدروسة التي عبرت عنه بشكل واضح المدرسة الوظيفية .
4-   المدرسة البنائية الوظيفية : تعود جذور هذه المدرسة لعالم الاجتماع الفرنسي اميل دوريكهايم الذي أكد على الدور الوظيفي لبعض المفاهيم الاجتماعية كالانتحار و الدين .. و في هذه المدرسة انتقل الأنثروبيولوجي من المنظر إلى الباحث الميداني فأصبح الباحث و المنظر شخص واحد , و غدا الباحث يحيا قيم الجماعة المدروسة و يعيش عاداتها و تقاليدها و يحترمها بغير تحيز , هذه كانت حال مؤسسي تلك المدرسة أمثال مالينوفسكي و راد كليف براون الذين لم ينطلقوا مثلاً كما انطلق فريزر واضع الأحد عشر مجلداً عن الطوطمية  حينما أجاب عن سؤال مفاده هل ذهب إلى المتوحشين فأجاب ( لقد جنبني الله ذلك ) . فقد ركزت الوظيفية على دراسة الثقافات كل على حدة في وقها و زمانها الحالي فرفضت المفهوم التاريخي الموجود في المدرسة التاريخية , و السبب من وجهة نظرهم أن العلم لا يهتم بتاريخ الظاهرة التي يبحثها قدر تركيزه على الكشف عن العلاقات القائمة بالفعل بين عناصر تلك الظاهرة ككل و علاقتها بغيرها من الظواهر الأخرى , و هذا يؤدي في النهاية إلى الوصول للقوانين التي تحكم الظاهرة المدروسة من ناحية تكوينها و أداؤها لوظيفتها . فالعنصر الثقافي لا يمكن فهمه عن طريق إعادة تكوين نشأته أو انتشاره بل من خلال وظيفته العملية الآنية , و عليه يترتب دراسة ثقافات الشعوب كل على حدة في إطار وضعها الحالي لا كما كانت عليه . و هكذا نلاحظ اتسام هذه المدرسة بالاتجاه اللاتاريخي و اللاتطوري , فالمجتمعات عبارة عن أنظمة طبيعية كل أجزاءها مترابطة العلاقات فيما بينها , كما أن كل جزء يقوم بوظيفته داخل شبكة متراصة من العلاقات التي لا بد منها للحفاظ على الكل الاجتماعي , و هذه الحياة الاجتماعية يمكن أن تصاغ بلغة قوانين علمية تسمح باستباق الأحداث و تداركها . , و قد تحدث براون عن الوظيفية قائلاً " إن مفهوم الوظيفية في تطبيقه على المجتمعات البشرية  مبني على التماثل القائم بين الحياة الاجتماعية و العضوية و الوظيفة هي ما يقدمه نشاط جزئي من مساهمة في النشاط الكلي , و بالتالي فإن وظيفة العرف المجتمعي المعين تحدد في مساهماته التي يقدمها للحياة المجتمعية بأسرها " و يصف مالينوفسكي الوظيفية بأنها " تهدف إلى تفسير الوقائع الانثربيولوجية في جميع مستويات تطورها بالوظيفة التي تؤديها و الدور الذي تلعبه في منظومة الثقافة بأكملها , و كيفية ارتباطها ببعضها داخل المنظومة , و كيفية ارتباط هذه المنظومة بالمحيط الطبيعي " .
و تؤكد الوظيفية على مفهوم البناء الاجتماعي الذي و كما عرفه براون يشتمل على ثلاثة مجموعات من الظواهر الاجتماعية هي : الجماعات الاجتماعية المستمرة في الوجود لفترة معينة من الزمن – و كل العلاقات الاجتماعية في المجتمعات الأولية – و ظواهر التنوع بين أفراد و جماعات ما حيث تحدد تلك الظواهر الأدوار الاجتماعية التي يقوم بها الجماعات و الجماعات في المجتمع الواحد . كما عرفه إيفانز بريتشارد بأنه الجماعات الاجتماعية المستمرة في الوجود لوقت كاف بحيث تستطيع الاحتفاظ بكيانها كجماعات رغم التغييرات التي تحدث للأفراد الذين يكونون تلك الجماعات . و يمكننا تقسيم البناء الاجتماعي العام إلى مجموعة من الأنساق الفرعية التي تتجلى فيها مجموعة من النظم , و من المتفق عليه حالياً بين الأنثروبولوجيين الاجتماعيين أن بنية البناء الاجتماعي تتألف من أربعة أنساق أساسية هي : النسق الاقتصادي ( نظام التبادل – نظم الملكية – نظم تقسيم العمل ) و النسق السياسي ( نظم الزعامة – نظم السلطة – نظم الجزاء – نظم القانون ) و النسق القرابي ( نظم الميراث – نظم الزواج و المصاهرة – نظم القرابة ) و النسق الديني ( نظم السحر و العرافة – نظم الدين و المعتقدات ) و قد ركزت الوظيفية على جانب التوازن بين هذه الأنساق في المجتمع مغفلة عوامل الصراع أو دراسة التغيير و عمليات الاتصال الثقافي , و حتى في معالجتهم للتغيير و التحديث نجدهم يركزون على التنافر الموجود مسبقاً و الذي يتحول بمرور الزمن إلى تجانس و انسجام , و لذلك نجدهم يتجهون لدراسة المجتمع أكثر من اتجاههم لدراسة الثقافة , فمثلاً هم لا يسعون إلى اكتشاف دلالة هذه القواعد بالنسبة للعلاقات القائمة  بين الجماعات , و لا ينظرون إلى عنصر اجتماعي معين إلا من خلال أداؤه لوظيفته , و هذا ما عبر عنه مالينوفسكي عندما رأى أن السستام الاجتماعي عبارة عن شبكة من التجريدات , و لعل مما يؤخذ على الوظيفية هو إهمالها لدور التاريخ حيث معرفة ماضي المجتمعات يظل عنصراً أساسياً يساعدنا على فهم أفضل لطبيعة حياته الاجتماعية الراهنة , و التاريخ لا يقتصر على دراسة تتابع الأحداث بل هو يمثل أيضاً عملية نمائية حيث أن الماضي يظل مستوعباً في الحاضر الذي يستوعب بدوره المستقبل , كما أخذ عليها الطابع السكوني التي عبرت به عن المجتمعات ناكرة إمكانيات التغيّر بشكل عام , بالإضافة إلى مزجها للظاهرات الاجتماعية بالظاهرات الطبيعية , و هذا ما أخذه عليها كلود ليفي شتراوس الذي أدخل الفلسفة البنيوية إلى الميدان الأنثروبيولوجي مؤسساً لمدرسة خاصة هي البنيوية .
5-   المدرسة البنيوية : و هي التي أكد فيها شتراوس على دور العقلانية العلمية في تأسيس الظاهرة الاجتماعية بوصفها واقعة علمية تقبل التحليل و الصياغة الرياضية الدقيقة , و على الرغم من التشابه العام الذي يجمع البنيوية بالوظيفية إلا أن الفارق الأساسي بينهما قائم على مفهوم البنية الاجتماعية التي هي عند شتراوس لا تؤخذ من الواقع التجريبي المباشر كما صرحت الوظيفية بل من النموذج العقلي الذي تكونه من الواقع المعاش , و عليه فالبنية ليست كامنة في الموضوع , بل ماثلة في صميم المطلب العقلي الذي يريد إدخال الكثرة التجريبية تحت نظام أو نسق , فالبنية لا تمثل الواقع التجريبي الذي تمدنا به الملاحظة السطحية البحتة , بل الواقع العملي غير الظاهر و الذي لا بد من الكشف عنه فيما وراء المعطيات المباشرة , و هكذا نجد أن أساس البحث عند شتراوس هو فيما وراء العلاقات اليقينية أي البحث عن تلك البنية اللاشعورية و التي لا يمكن الوصول إليها إلا بفضل عملية بناء استنباطي لبعض النماذج المجرّدة , و هذا ما جعله يحمل على النزعة الوظيفية التي اقتصرت على النظرة الواقعية الصرفة للنظم الاجتماعية لإبراز ما فيها من جوانب وظيفية دون الاهتمام ببناء فكرة عقلية تتكفل بتفسير البنية الكامنة خلف المظهر السطحي للظواهر ,  فالمجتمع يتحول من جهاز عضوي متكامل في الوظيفية إلى مجموعة من العلاقات الرياضية المجردة في البنيوية , و بالتالي فإن مفهوم البنية الاجتماعية لا يستند عند شتراوس إلى الواقع التجريبي بل إلى النماذج النظرية الموضوعة بمقتضى هذا الواقع , و قد توصل من خلال ذلك إلى مبدأين أساسيين : أولهما أن ما نسميه باسم المجتمعات البدائية إنما هي في الحقيقة بالغة التعقيد . و ثانيهما أن ليس ثمة إنسان طبيعي من طبيعة الإنسان دائماً أن يتمثل الطبيعة على شكل ثقافة , و معنى هذا أنه ليس أمعن بالخطأ من التوحيد بين العقلية البدائية و عقلية الطفل , و أصل تعدد الثقافات إنما يعود إلى ما يمتلكه العقل من قدرة كبيرة على التأليف و التركيب و التحول انطلاقا من مبادئ و علاقات ضرورية محددة على غرار ما هو عليه الأمر في اللغة التي أعطاها شتراوس أهمية بالغة و اعتبرها أحد الأركان الأساسية للأنثروبيولوجيا , فاللغة هي الخاصية الرئيسية التي تميز الإنسان عن بقية الكائنات الحية و عن طريقها يمكن فهم كل صور الحياة الاجتماعية , ولذلك نراه يعطي الكلمة أو الدال في تحليله للثقافات أكثر مما يعطي للشيء المعني أو المدلول خاصة و إن الدال الواحد قد يكون له مدلولات مختلفة , و يبرهن شتراوس على أهمية أخذه للنموذج اللاشعوري على اعتبار أن النماذج الشعورية التي تسمى عادة بالمعايير تعد من أفقر النماذج بسبب وظيفتها القائمة على تخليد المعتقدات و العادات بدلاً من تبيان دوافعها , و اللاشعور عند شتراوس مختلف عن اللاشعور عند فرويد فهو عند الأول لا يمثل القطب المضاد للشعور بل هو يكون ماهية الواقع الاجتماعي من حيث هو تبادل و تواصل متخذاً بصورة مباشرة طابع النظام الرمزي بما له من مقومات لا شخصية و لا زمانية .
و يرفض شتراوس تماماً مبدأ التاريخية رافضاً فكرة تكون العقل البشري الارتقائي ما دام من شأن هذه الفكرة أن تستلزم القول بمرور العقل البشري عبر مراحل تطورية متعاقبة و حدوث تغييرات جذرية أو انقلابات حاسمة في طريقة إدراك الفكر للعالم , فالعقل البشري عند شتراوس واحداً عبر تاريخه , و رغم المحاولات الحثيثة التي قام بها شتراوس محاولاً التقريب بين السحر و العلم إلا أن طروحاته ظلت ضمن الإطار الافتراضي دون أن يكون باستطاعته الزعم أنها وليدة تحقيق علمي محض , و رغم أنه لا يرفض فكرة التقدم إلا أنه يتصورها على شكل طفرات منفصلة يقول عنها أنها ليست ضرورية و لا مستمرة بل هي أشبه ما تكون بتراكمات لضربات الحظ السعيد , و بالتالي يغدو التطور أشبه بمجموعة من ألعاب الحظ و كأن المسألة هب تجمع عدد كبير من المعطيات التي يزداد تراكمها احتمال حدوث عدد أكبر من الصدف السعيدة و أما الرابح فهو مجموع البشرية لأنها هي التي تزداد غنى و ثراء . و الواقع إن ولع شتراوس بالرياضيات الوصفية و استعماله لتقنيات علم اللغة و الرفض القاطع للتطورية  و مفهوم العقل البدائي بدقة غير معهودة من قبله جعله يخطو خطوة هامة من خطوات البحث الأنثروبيولوجي , و مما لا يمكن نكرانه حالياً أنه لا يمكن الحديث عن الأساطير أو أنظمة القرابة دون الرجوع إليه و نظرته البنيوية العميقة .
و هكذا يتبين لنا كيف استطاعت الأنثروبيولوجيا كعلم  تهذيب نظرتنا للآخر و هي و إن بدأت بشكل مثير للريبة إلا أنها ما لبثت أن تجاوزت عوامل نشأتها لتنظر للإنسان كإنسان دون النظر إلى أي اعتبار آخر و الرسالة التي تنقلها إلينا تقول بأن خطأنا في رفض الآخر لا يقل عن خطأ رفض الآخر إلينا . و أختم محاضرتي بقول شتراوس :" إن الأنثروبيولوجيا تبحث عن إلهامها داخل أشد المجتمعات تواضعاً و عرضة للازدراء , و هي تؤكد على عدم وجود شئ مما هو بشري يمكن أن يكون غريباً عن الإنسان , و هي إذ تجند مناهج و تقنيات مستمدة من جميع العلوم لوضعها في خدمة معرفة الإنسان , تدعو إلى مصالحة بين الإنسان و نفسه , و بينه و بين الطبيعة في أنسية معممة "