Advanced Search

المحرر موضوع: الجوانب الصحية والبيئية لصناعة الفحم في يعبد  (زيارة 1209 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

مارس 13, 2004, 12:53:27 صباحاً
زيارة 1209 مرات

التواق للمعرفة

  • عضو خبير

  • *****

  • 2342
    مشاركة

    • مشاهدة الملف الشخصي
الجوانب الصحية والبيئية لصناعة الفحم في يعبد
« في: مارس 13, 2004, 12:53:27 صباحاً »
لا شك أن التلوث البيئي بجميع أشكاله قد غدا خلال السنوات العشرين الماضية إحدى المشكلات الرئيسية التي يواجهها المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة. فقد تعرضت مختلف المناطق الفلسطينية لكثير من المؤثرات البيئية العنيفة، مثل التزايد الكبير في عدد المركبات والمصانع، والزيادة الهائلة في حجم النفايات الصلبة والسائلة، والاستخدام المفرط للمركبات الكيماوية في الزراعة. ولقد ضاعف من حجم المشاكل البيئية تواجد عدد كبير من المستوطنات الاسرائيلية في فلسطين، وقيام بعض هذه المستوطنات بقذف مخلفاتها للمناطق المجاورة بدون أي اكتراث لتأثيراتها المدمرة على السكان والبيئة في التجمعات السكانية الفلسطينية المجاورة.

ومع أن تلوث البيئة أصبح ظاهرة عامة تعاني منها جميع التجمعات السكنية الفلسطينية، إلا أن بعض هذه التجمعات تعاني من مشكلات اضافية ناجمة عن عوامل محلية مميزة. ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك هي بلدة يعبد، والتي تقع في شمال الضفة الغربية إلى الجنوب الغربي من مدينة جنين. ويقدر عدد سكانها بحوالي 11 ألف نسمة (أنظر الخارطة المرفقه). وتتبع يعبد من الناحية الادارية لمحافظة جنين.

لقد عانت يعبد ومنذ عشرات السنين من مشاكل صحية مميزة ناجمة عن أن هذه البلدة كانت مركزاً لزراعة وتصنيع الدخان في فلسطين. إلا أن هذا الفرع الاقتصادي تعرض لتراجع حاد بعد أن توقفت شركات الدخان المحلية والاسرائيلية عن استخدام دخان يعبد في صناعتها. ولا شك أن ذلك قد أدى لمضاعفات ايجابية من النواحي البيئية والصحية، إلا أنه أدى من الناحية الأخرى الى انعكاسات اقتصادية سلبية على البلدة. وقد تزامن هذا التحول في البنية الاقتصادية في يعبد مع انطلاق الانتفاضة الأولى وما تلى ذلك من آثار مدمرة على الاقتصاد الفلسطيني. وبالطبع فقد نجم عن ذلك تراجع كبير في الأوضاع المعيشية في البلدة، مما دفع أهلها للبحث عن مصدر بديل للدخل. وقد وجدوا ضالتهم في صناعة الفحم، والتي كانت معروفة على نطاق محدود قبل ذلك.

أهداف الدراسة

لقد توسعت صناعة الفحم في منطقة يعبد بشكل حاد منذ منتصف الثمانينيات، حيث زاد عددها من بضع "مشاحر" إلى أكثر من 200 مشحرة في الوقت الحاضر. ومع أن هذه "الصناعة" قد أصبحت تشكل بالفعل مصدر دخل رئيسي للبلدة وأصبحت تعتبر المستوعب الأهم للقوى العاملة فيها، إلا أن التوسع الحاد والعشوائي لهذه الصناعة قد أدى إلى مضاعفات بعيدة الأثر من النواحي البيئية والصحية. وقد وصل حجم الاضرار الناجمة عنها لمستويات مقلقة جداً بالنسبة للمجتمع المحلي، علماً بأن القليل يعرف عن هذه المشكلة خارج إطار المنطقة الجغرافية التي تحتضن هذه الصناعة، وهي بلدة يعبد والمناطق المحيطة بها.

تستهدف هذه الورقة إجراء تقييم أولي للأضرار البيئية والصحية الناجمة عن المشاحر، علماً بأن هذا التقييم غير مبني على دراسة متكاملة للموضوع المطروح للبحث، بل عن الخبرة الشخصية للكاتب كمدير لدائرة الصحة في محافظة جنين، بالإضافة إلى كونه مواطناً من يعبد ويقيم فيها.

العوامل الممهدة للمشكلة

كان عدد المشاحر لغاية بداية الثمانينيات قليلاً وكان موقعها بعيد نسبياً عن المناطق المأهولة في يعبد. ولكن هذه الصناعة شهدت توسعاً حاداً خلال السنوات العشر الماضية، بحيث أنها انتشرت بسرعة باتجاه البلدة، حتى أن بعض المشاحر أقيمت بجوار المناطق السكنية وتحيط بالبلدة من جميع  الاتجاهات تقريباً، باستثناء مدخلها الشرقي. ومن الجدير بالذكر بأن إقامة هذه المنشآت يتم بدون الحصول على ترخيص من أية جهة كانت، مما سمح بإقامة مشاحر في مواقع أقرب فأقرب للمناطق العمرانية.

تنبع المشكلة البيئية في هذه الصناعة من المستوى المتدني لتقنيات الإنتاج المستخدمة فيها. وبشكل عام، فإن عملية الإنتاج ترتكز على تجميع الاشجار الجافة، مثل الحمضيات والزيتون، وتكويمها بشكل هرمي ثم حرقها جزئياً وببطىء إلى أن تتحول إلى فحم. وينجم عن عملية الاحتراق هذه انطلاق كمية كبيرة من الغازات أهمها هو أول أكسيد الكربون، ثاني اكسيد الكربون، وثاني اكسيد الكبريت. كما يتولد عن عملية الاحتراق هذه هبائيات أخرى من الغبار والرماد.

وتتركز الغازات الناجمة في البداية في أماكن انتاجها، وبالتالي فإنها تؤثر كثيراً على العاملين فيها والمقيمين في جوارها. إلا أنها سرعان ما تنتشر إلى الأماكن المأهولة المجاورة، خاصة في بلدة يعبد، حيث أنه لا يوجد قرى أخرى قريبة من منطقة المشاحر. ومن الشرائح الاجتماعية التي تتعرض أيضاً بشكل ملموس للأضرار الناجمة عن المشاحر هي طلبة المدرسة الثانوية في البلدة، وذلك بسبب اقتراب المشاحر من هذه المدرسة. ولا شك أن ذلك يشكل مصدر خطر كبير على الطلبة، خاصة وأنهم يقضون ساعات عديدة أثناء النهار في مدرستهم.

التأثيرات البيئية والصحية للمشاحر

يحرق في مشاحر يعبد أكثر من 100 ألف طن حطب سنوياً، ينبعث منها كمية هائلة من الغازات والأبخرة والرماد. ومن الواضح بأن هناك تأثيرات بيئية وصحية بالغة الخطورة لهذه العملية، سواءاً بالنسبة للعاملين في المشاحر أو المواطنين المقيمين بجوارها، وكذلك بالنسبة للمزروعات والحيوانات المتواجدة في المنطقة. ويمكن الحصول على فكرة أولية عن طبيعة الأضرار الناجمة وحجمها من المؤشرات التالية:

أ- التأثيرات الصحية
ينجم الضرر الرئيسي على صحة الانسان من استنشاقه للغازات المنبعثة من المشاحر. وتتسبب هذه الغازات بأمراض تنفسية عديدة تختلف بحسب نوع الغاز المستنشق. فمن المعروف بأن اكاسيد الكبريت تؤدي إلى تفاعلات التهابية في القصبات الهوائية (Emphysema). في حين تؤدي الغازات الهيدروكربونية، مثل تلك المنبعثة عن عوادم السيارات والمولدات، إلى أمراض سرطانية. أما غاز أول أكسيد الكربون فإن له قدرة على الاتحاد مع الهيموجلوبين 200 مرة أكثر من الاكسجين، وبالتالي فإنه يؤدي إلى التسمم الحاد والصداع والدوخة والغثيان والفشل التنفسي. وفي حالة ارتفاع تركيز الغاز واستمرار تعرض الجسم له فإنه يؤدي لعوارض مزمنة، مثل ضعف الذاكرة، نقص الانتاجية في العمل، اضطرابات في النوم وفي السلوك، وارتفاع في مستوى الكولسترول.

أما بالنسبة لغاز ثاني أكسيد الكربون فإن تواجده في الجو بتركيز منخفض قد يؤدي إلى تسارع في التنفس والصداع والتشويش الذهني والشلل الارتخائي. أما إذا زاد تركيزه عن 5% فإنه يؤدي إلى فقدان الوعي والوفاه.

وهنالك أيضاً أضراراً صحية تنجم عن أكسيد الكبريت، إذ أن هذا الغاز يتحول إلى حامض الكبريتيك عند ملامسته للسطوح الرطبة للأغشية المخاطية، وينجم عن ذلك التهابات وأمراض مزمنة في الجهاز التنفسي. كما تتسبب أكاسيد النيتروجين بتهييج للحويصلات الهوائية في الرئتين، في حين يمكن أن يؤدي تراكم الغبار فيهما إلى التليف والوفاة.

لقد أدى الارتفاع الكبير لنسبة الغازات في منطقة يعبد إلى نتائج صحية سيئة في جميع الاتجاهات السالفة الذكر. ومع أنه لم تجرى حتى الآن دراسة احصائية موضوعية لحجم الاضرار الصحية على المجتمع المحلي، سواءاً من حيث نسبة الوفيات أو مدى انتشار الأمراض التنفسية التي ذكرت سابقاً، إلا أنه من الواضح بأن نسبة حدوث مثل هذه المشكلات الصحية في يعبد هي أعلى بشكل ملموس من التجمعات السكنية المجاورة، والتي لا يوجد بها مشاحر. إذ يتضح من البيانات المتوفرة عن الوفيات وعدد حالات مراجعي الأمراض التنفسية الحادة والمزمنة بأن هذه المعدلات في بلدة يعبد هي أعلى بكثير منها في اليامون وقباطية (أنظر الجدول رقم 1). كما يلاحظ من الجدول بأن نسبة الاصابة بالأمراض التنفسية هي أيضاً مرتفعة في بلدة قباطية، والتي تعاني هي الأخرى من مشكلات بيئية حادة ناجمة عن الانتشار الواسع لمقالع الحجارة في هذه البلده.

الجدول رقم (1)

أعداد الوفيات وعدد مراجعي الأمراض التنفسية

(1/1/200 – 31/3/2001)

قباطية
 اليامون
 يعبد
  
 
14684
 12383
 10756
 عدد السكان (نهاية سنة 2000)
 
73
 68
 70
 الوفيات
 
5.0
 5.5
 6.5
     - النسبة (للألف)
 
858
 540
 805
 عدد مراجعي الأمراض التنفسية
 
58
 44
 75
     - النسبة (للألف)
 
642
 232
 574
 منهم مراجعي أمراض تنفسية مزمنة
 
43
 19
 53
     - النسبة (للألف)
 

       المصدر: سجلات دائرة صحة محافظة جنين

ويجب ملاحظة أن الاحصاءات السابقة عن الوفيات والأمراض التنفسية تتعلق بجميع سكان يعبد، حيث أنه لا يوجد احصاءات مستقلة عن المرتبطين بشكل مباشر بصناعة الفحم. لذلك فإنه من المؤكد بأن معدلات الوفيات والإصابة بالأمراض التنفسية والسرطانية هي أعلى بكثير بين العاملين في المشاحر منها في المناطق الأخرى. وهذا يعني من الناحية الفعلية أن العاملين في الإنتاج وأفراد عائلاتهم القاطنين داخل منطقة المشاحر هم في الواقع معرضون إلى حد كبير لأضرار صحية بالغة الخطورة.

ب- التأثيرات البيئية
وبالإضافة للتأثيرات الصحية السالفة الذكر، فإن للمشاحر آثاراً بيئية مزعجة على سكان بلدة يعبد. فإن ارتفاع نسبة الدخان في الهواء وبشكل دائم يؤدي إلى ترسب طبقة من ذرات الدخان على الجدران والشبابيك وعلى الملابس المنشورة على أسطح المنازل. وتعاني ربات البيوت كثيراً من هذه الظاهرة، والتي لا يمكن وضع حد نهائي لها ما دامت المشاحر موجودة على مقربة من البيوت، وإذا ما بقيت طرق التصنيع على حالها بدون تطوير.

ولا يقتصر ضرر الدخان المنبعث من المشاحر على الإنسان بل يتعداه أيضاً ليصيب النبات. فمن المعروف أن منطقة يعبد هي منطقة غنية بأشجار الزيتون، ولكن يلاحظ أن غالبية الأشجار مغطاة بذرات الكربون المنبعثة من المفاحم مما يضر بها على المدى البعيد، حيث أن تراكم هذه الذرات يحجب أشعة الشمس عن الأوراق، وبالتالي يضعف أو يمنع عملية التمثيل الكلوروفيلي. بل أن بعض الخبراء ممن تمت مقابلتهم يؤكد بأن هنالك خطراً حقيقياً من أن استمرار تعرض الأشجار للغازات المنبعثة من المشاحر قد يؤثر على نوعية الزيت المنتج.

ومن الأسئلة التي تظل مفتوحة في الوقت الراهن هو مدى تأثير المشاحر على المياه الجوفية في المنطقة، خاصة وأنها تقع فوق حوض مائي رئيسي يغذي منطقة شمال الضفة الغربية. فمن المعروف بأن كميات كبيرة من المياه تستخدم في هذه الصناعة، إلا أن غالبيتها الساحقة تتبخر أثناء استخدامها في عملية التصنيع، وبالتالي فإن الكميات التي تتسرب إلى الطبقات السفلى من الأرض هي قليلة جداً. ولكن من المحتمل أن نسبة التلوث في الحوض المائي الجوفي هي أعلى مما يتوقع الكثيرون، خاصة بسبب تسرب كميات كبيرة من مياه الأمطار الساقطة على منطقة المشاحر إلى الأحواض الجوفية. وفي جميع الأحوال فإن هنالك حاجة ماسة لإجراء قياسات دورية لنسبة تلوث المياه الجوفية في المنطقة، خاصة وأن الآبار الموجودة (سواءاً الابار العميقة أم آبار الجمع) تستخدم على نطاق واسع لأغراض الشرب وسقي الحيوانات.

وهنالك أيضاً ضرراً بيئياً ينجم عن قيام أصحاب المشاحر بدفن مخلفات عملية التصنيع من الرماد في حفرة مجاورة لموقع المشحرة. ومن المحتمل أن يكون لذلك تأثيرات ضارة على المدى البعيد.

التوصيات

بغض النظر عن الأهمية الاقتصادية لصناعة الفحم في يعبد إلا أنه من الواضح بأن لهذه الصناعة انعكاسات صحية وبيئية خطيرة تتطلب من جميع الجهات المعنية اتخاذ الاجراءات المناسبة لتلافي هذه الأضرار أو الحد منها قدر المستطاع، مع عدم الاضرار بالدور البارز الذي تلعبه هذه الصناعة كمصدر رئيسي للدخل في بلدة يعبد. ولتحقيق هذا التوازن الحساس بين الجوانب الصحية والبيئية والاقتصادية فإن الباحث يقترح ما يلي:

1- ضرورة مطالبة جميع أصحاب المشاحر بالحصول على رخص من الدوائر الرسمية المختصة، على أن يتم تجديد هذه الرخص سنوياً. ويجب أن يتم التأكد قبل إعطاء الرخصة من التزام صاحبها بالحد الأدنى من الشروط من حيث الموقع والشروط الصحية.

2- هنالك حاجة ماسة لإجراء دراسات فنية على طرق التصنيع المستخدمة وذلك بهدف تطويرها بالشكل الذي يحد من مقدار التلوث الذي تتركه على البيئة المجاورة.

3- يجب حث العاملين في هذه الصناعة على استخدام أدوات الوقاية المناسبة أثناء تواجدهم في منطقة المشاحر. ويفترض أن يكون ذلك شرطاً أساسياً لمنح الرخص اللازمة لمزاولة العمل.

4- يجب منع اقامة أفراد عائلات العمال في منطقة المشاحر لما لذلك من أضرار صحية بالغة الخطورة عليهم.

5- يجب حفز الجهات المختصة في وزارة الصحة للقيام بدراسات احصائية دقيقة حول الأوضاع الصحية الفعلية في يعبد، حيث أنه من المرجح بأن معدلات الاصابات بالامراض التنفسية والخبيثة هي أعلى بكثير مما تظهره الأرقام المتوفرة، والتي تتعلق فقط بالمرضى الذين يراجعون دوائر الصحة الرسمية.

6- يجب إجراء فحوصات صحية دورية للعاملين في المشاحر وللسكان القاطنين في المناطق المجاورة.

7- يجب القيام بحملات للتثقيف الصحي تبين للعاملين في هذه الصناعة حجم الاضرار التي يتعرضون لها وطرق التعاطي مع مختلف الجوانب الانتاجية والتسويقية وبالشكل الذي يمنع أو يحد كثيراً من انعكاساتها الصحية والبيئية.  


بتصرف عن دراسه للدكتور   محمد التفكجي  .( مدير صحة محافظة جنين - فلسطين )..