السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
ويتجدد لقاؤنا أحبتي الطلاب مرة أخرى في المحاضرة الثالثة التي نبدأ فيها الكلام عن موضوع (النشاط الإشعاعي) التي آمل أن تجدوا فيها أجوبة على بعض تساؤلاتكم ..
وخاصة أننا سنتكلم في هذه المحاضرة عن قوة الترابط النووي التي سأل عنها الكثير من الإخوة ..
ونظراً لكبر موضوع النشاط الإشعاعي ، فإني قد قسمته إلى ثلاث محاضرات :
1- قوة الترابط النووي
2- الإشعاعات النووية
3- الكواشف الإشعاعية
وسنبدأ اليوم بأول محاضرة وأعتذر لإخواني الطلاب عن تأخر هذه المحاضرة عن موعدها بسبب بعض الظروف الصحية ..
وسنحاول أن نضاعف جهدنا في المرات القادمة كي نعوض النقص ..
أتمنى أن تكونوا قد حضرتم شاي بالنعناع كالعادة ، لنبدأ المحاضرة ..
بسم الله الرحمن الرحيم
تحدثنا إخوتي الطلاب في المحاضراتين السابقتين عن بداية منهج الفيزياء النووية باكتشاف النواة بفضل تجارب رذرفورد ، وكيف بدأ العلماء بسبر أغوار هذا الجسيم لعلهم يجدون ما يجيب على أسئلتهم ، كما تحدثنا عن مميزات النواة التي من الواجب علينا أن نعلمها قبل التقدم في الفيزياء النووية ، نأخذ اليوم موضوع من أهم مواضيع الفيزياء النووية ، ألا وهو طاقة الترابط ، فالذي يحاول أن يتعمق في الفيزياء النووية بدون أن يعرف طاقة الإرتباط ، كالذي يحاول أن ينقد قصيدة للمنتبي وهو لا يعرف من اللغة العربية شيء ، فالذي يريد أن يتكلم عن النسبية لابد أن يمر على هذه الموضوع ، والذي يريد أن يشرح الميكانيكا الكمية لابد أيضاً وأن يتكلم عن هذه الطاقة، وكذلك عالم الآثار وطبيب الأشعة والمهندس الكيميائي والكثير من المتخصصين في العلوم الأخرى ، وقد كنت أريد أن أشرحها في بداية المحاضرات لأهميتها ولكني قررت أن أجعلها في المحاضرة الثالثة ، لكي تكون المحاضرتين الأولى والثانية مقدمة لغير المتخصصين في الفيزياء ، لذلك أتمنى أن تركزوا تفكيركم الآن في هذا الموضوع فهو شائك قليلاً ، علماً أنني قد كتبت هذه المحاضرة مرتين ، فعندما كتبت المحاضرة في المرة الأولى وجهزتها للنشر ، لاحظت أن فيها بعض الصعوبة ، فمسحتها وقررت كتابتها من جديد مع إلغاء بعض النقاط التي من الممكن أن تشوش عليكم وكذلك المعادلات الطويلة ، وقمت بتبسيط الأسلوب قدر المستطاع ، راجين الله أن يوفقنا إلى الصواب ..
مقدمة
بعد أن تم اكتشاف أن النواة تتكون من جسيمات صغيرة ، وهي النيوترونات والبروتونات ، لاحظ العلماء أن النواة تمسك هذه الجسيمات بإحكام شديدة مع أن النظريات -وقتها- كانت تصرح بصعوبة ذلك، فسيطر على عقولهم التساؤل عن سر هذه القوة الهائلة للنواة في حفظ محتوياتها ، وأيقنوا بالفعل أن باباً جديداً من القوى قد فتح للزائرين ..
ولكن ، ما هذه القوة ؟
دعنا الآن نحللها سوياً، ولنبدأ بأبسط القوى ، وهي القوة التي تجمع الكواكب في المجموعة الشمسية ، يمكننا أن نستخدم في تفسيرها بكل سهولة بقانون نيوتن في الجاذبية القائل :
(قوة الجاذبية بين جسمين تتناسب طردياً مع حاصل ضرب كتلتي الجسمين وعكسياً مع تربيع المسافة بينهما)
وهكذا استطعنا أن نفسرها تفسير مقنع للغاية ، ولكن يبرز التحدي عندما نتحدث عن قوة أصعب قليلاً ، وهي القوة التي تثبت الإلكترون في مداره حول النواة ، فعندما نستعمل قانون الجاذبية ، تكون محصلة القوة ضعيفة للغاية لاتستطيع أن تحفظ الإلكترون في مساره ، وعندما استعمل العلماء قانون كولوم في أن الأجسام ذات الشحنات الكهربائية المتماثلة تتنافر والمختلفة تتجاذب ، كان مقنعاً بقوة جديدة أسموها الكهرمغناطيسية ، ولكن ماذا عن طاقة النواة في حفظ مكوناتها ؟ ، دعنا نبدأ بالجاذبية ونرى هل هي مفسرة لهذه القوة أم لا ، فإذا وضعنا كتلة النيوكلونات في معادلة الجاذبية تفاجأنا بالمحصلة الضئيلة التي تدل على أن الجاذبية لا تفسر بالطبع هذه القوة ، وإذا أخذنا القوة الكولومية كمفسر لقوة الترابط ، لوجدنا أنها ليست صالحة أبداً لهذه المهمة ، لأننا إذا أخذنا مثلاً ذرة الهيليوم المكون من نيوترونان عديمي الشحنة وبروتونان موجبي الشحنة ، نجد أن القوة الكولومية لو كانت هي المتحكمة في النواة فسوف تمزق أجزائها ، لأن البروتونان يجب أن يتنافرا حسب هذه القوة ، مما دل على أن هناك قوة جديدة أكبر من قوة التنافر الكولومية بكثير ، مما زاد العلماء حيرة على حيرتهم في غموض هذه القوة ، التي أسموها فيما بعد بالقوة النووية الشديدة ..
ما هي خصائص هذه القوة ؟
لهذه القوة الجديدة خصائص غريبة ومختلفة عن باقي القوى ، فهي قوة تجاذبية ولكن ليس كالجاذبية الثقالية ، فمداها تقريباً 2 فيرمي ، وبعدها تختفي هذه القوة ، وعندما يقترب الجسم تزيد القوة النووية لجذبه ، ولكن إذا وصلت المسافة بين النيوكلونين لأقل من 0.5 فيرمي فإن القوى الجذب تتحول إلى تنافر فجأة ، وذلك لتجنب الأندماج ، كما أن هذه القوة لا علاقة لها أبداً بالقوة الكهربائية(الكولومية) حيث أن التجاذب بين النيوترونان يساوي التجاذب بين البروتونان يساوي التجاذب بين النيوترون والبروتون ، كما أن لهذه القوة ميزة خاصة تسمى التشبع ، أي أن النيوكلون يتبادل هذه القوى مع النيوكلونات المجاورة فقط وليس له علاقة بالنيوكلونات البعيدة ..
هل القوة النووية متساوية في كل الأنوية ؟
من المفاجئ أن القوة النووية غير متساوية في كل الأنوية ، مع أن جميع الأنوية تحتوي على نفس البروتونات والنيوترونات إلا أن هناك مؤثرات تؤثر على القوة النووية في أنوية العناصر ، فمعدل القوة النووية (0.0Mev) عند الهيدروجين ذو النيوكلون الواحد و (2.5Mev)عند نواة الهيلوم ذو البروتونين والنيترون ، ويقفز المعدل إلى (7Mev) عند الهيليوم ذو البروتونين والنيوترونين ، ثم يستمر المعدل في الإرتفاع تدريجياًكلما تقدمنا في ترتيب العناصر حتى يصل إلى عنصر الحديد (8.8Mev) ثم يعود بالإنخفاض تدريجياًإلى (7.3Mev) في آخر الجدول الدوري، وهكذا يكون معدل معظم العناصر مابين(7Mev) و (8.8Mev) ، لذلك نواة الحديد الحديد هي أقوى الأنوية من ناحية طاقة الإرتباط ، قال تعالى {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد} ..
ما هي المؤثرات التي تؤثر على القوة النووية ؟
كما علمنا أن القوة النووية (طاقة الإرتباط) ليس متساوية في جميع العناصر ، وذلك بسبب مؤثرات منها ما يزيد في طاقة الإرتباط النووي (موجب) ومنها ماينقص منه (سالب) ، وقد أبدع نموذج قطرة السائل في وصف وتحليل طاقة الإرتباط ، فعن طريق هذا النموذج تم اكتشاف أهم المؤثرات على طاقة الإرتباط ، وهذه لمحة سريعة لأهم هذه المؤثرات :
مؤثر الحجم :
وهذا مؤثر موجب حيث أنه كلما زاد عدد النيوكلونات ، زادت القوة النووية ، وهذا المؤثر يكون فعال حتى نصل إلى ذرة الحديد ، وبعدها تغلب عليه المؤثرات الأخرى .
مؤثر التوتر السطحي :
عندما يكون النيوكلون في سطح النواة فإنه يتبادل القوى مع جهة واحدة فقط ، لذلك تقل الطاقة الرابطة بسبب هذا الموقع ، وكلما زادت مساحة السطح كلما قلت الطاقة الرابطة بسبب هذا المؤثر السالب ..
مؤثر كولوم :
لأن البروتونات لها شحنات موجبة ، فإن قوة كولوم التي تقول أن الأجسام المتشابهة الشحنة يجب أن تتنافر ، يكون لها دور بالتأكيد في تحديد طاقة النواة ، كما أن القوة الكهربائية ليست من صفاتها التشبع مثل القوة النووية ، لذلك أي بروتون في النواة يتنافر مع جميع بروتونات الذرة ، ويمكن صياغة هذا المؤثر السلبي على أنه كلما زاد عدد البروتونات قلت طاقة الإرتباط ..
مؤثر التماثل :
أثبتت التجارب أن النواة تميل إلى كون عدد النيوترونات يساوي عدد البروتونات ، لذلك يقول هذا المؤثر السالب أنه كلما زاد الفرق بين عدد النيوترونات وعدد البروتونات ، تقل الطاقة الرابطة ، وهذا المؤثر يكون غالباً في الأنوية الخفيفة (40>z) ، أما الأنوية الثقيلة فالنيوترونات فيها هي الأكثرية ..
مؤثر التزاوج :
وهو مؤثر يتفق مع المشاهدات العلمية ، وهو أن الأنوية التي عدد بروتوناتها وعدد نيوتروناتها زوجيين تكون أكثر استقراراً ، ويليها الأنوية التي عدد نيوتروناتها فردي وعدد نيوتروناتها زوجي أو العكس ، ثم في الأخير الأنوية التي عدد بروتوناتها وعدد نيوتروناتها فرديين ، وهي خمسة عناصر فقط في الطبيعة ..
مؤثر القشرة :
وهذا المؤثر أظهره نموذج القشرة ، وهو يقول أنه كلما كان عدد النيوترونات أو البروتونات مقارباً من أحد الأعداد السحرية (تم شرحها في المحاضرة السابقة) فإن الطاقة الرابطة تزيد ..
ما هو عيب الكتلة ؟ وما علاقته بالطاقة الرابطة ؟
إذا قيل لك أوجد كتلة نواة الهيليوم ذو النيوترونين والبروتونين على الطريقة الحسابية، فإنك ستقول :
2 × كتلة البروتون + 2 × كتلة النيوترون = كتلة نواة الهيليوم
أي: 2 × 1.00727 + 2 × 1.008665 = 4.03187
ولكن التجربة تثبت بدقة أن كتلة نواة الهيليوم تساوي 4.00150 ، أي أن الفرق يساوي 0.03037 ، وهذا الفرق أكبر من أن يكون خطأ تجريبي ، فأين ذهب هذا الفائض في الكتلة ؟ ، علماً أن هذا الحال ليس في الهيليوم فقط بل هو منتشر في بقية العناصر ، فوزن النيوكلونات وهي مفردة أكبر من وزن النيوكلونات وهي تشكل نواة والفرق بين الكتلتين يسمى (عيب الكتلة)، وهذه النقطة حيرت العلماء كثيراً، حتى أنهم بدأوا يشكون في صحة قانون حفظ الكتلة ، إلى أن جاء أينشتاين بمعادلته المعروفة التي أثبت بها أن الكتلة في النواة من الممكن أن تقل في حالة واحدة ، وهي أنها تحولت إلى طاقة ، مما أكد للعلماء أن هذه الكتلة تحولت إلى طاقة مكافئة ، وسخرت هذه الطاقة العظيمة لحفظ النواة وتثبيت مكوناتها ..
هل هناك علاقة بين طاقة الترابط والإستقرار النووي ؟
نعم ، فالنواة تكون مستقرة إذا كانت طاقة الترابط فعالة ، وهذا ما سنشرحه بالتفصيل في المحاضرة القادمة إن شاء الله ..
نقاط مهمة :
1 فيرمي = 10^-15 مليمتر
1Mev= 1.602 × 10^-13 جول
قوة كولوم = القوة الكهربائية = القوة الكهر مغناطيسية
القوة النووية = قوة الترابط = الطاقة الرابطة
ويمكنكم إرسال أسئلتكم أو إقتراحاتكم على البريد الإلكتروني التالي
abodchtain@hotmail.com ،أو على الرابط التالي
ملحق للنقاش ،
موعدنا القادم إن شاء الله بعد ثلاثة أيام والمحاضرة الثالثة بعنوان ( الإشعاعات النووية )..
فكونوا على الإنتظار ..